وهذا التفسير شبيه بقوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى الآيات [سورة النجم:19]".
هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير في قوله: إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا [سورة النساء:117] هو أحد الأقوال التي ذكرها السلف أي أن المشركين قالوا: إن الملائكة بنات الله، وعبدوهم من دون الله - تبارك وتعالى -، ولم يكن ذلك في جميع العرب، بل من العرب من عبد الملائكة، ومنهم من عبد الأصنام.
"قال: فاتخذوهن أرباباً، وصوروهن صور الجواري" أي: جعلوهم على صورة الجواري - هذا أحد الأقوال -، وطائفة تقول: إن المراد من قوله: إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا [سورة النساء:117] أي أن مع كل صنم جنيّة كما جاء في الحديث الصحيح المخرج في البخاري أو في الصحيحين في قطع خالد بن الوليد للسَّمُرات حين بعثه النبي ﷺ عام الفتح والتي يسمونها بالعزى، حيث قطعها ثم رجع إلى النبي ﷺ فأخبره أنه ما فعل شيئاً، ثم رجع إليها بعد ذلك وراى امرأة سوداء نافشة شعرها، تدعو بالويل، فعلاها بالسيف وقتلها، وحرق أصول السَّمُرات، فرجع إلى النبي ﷺ، وأخبره فقال: تلك العزى[1] أي أنها تلك الجنيّة أو الشيطانة التي ظهرت لخالد .
وثبت في التاريخ في قصص العرب، وفي أخبارهم التي دونت في الكتب؛ أنهم كانوا يسمعون أصواتاً من هذه الأصنام ترد عليهم، وربما أجابتهم، وخاطبتهم، وهي تلك الشياطين التي كانت وراء هذه المعبودات.
وبعضهم يقول: إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا [سورة النساء:117] يعني كل صنم، وكل معبود، وكل شجر أو حجر يعبدونه فيه جنيّة فهذا حقيقته، ولهذا قال: وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا [سورة النساء:117].
وبعضهم يقول: إن العرب كانوا يسمون هذه المعبودات بالإناث، يقولون: أنثى بني فلان يعني معبود بني فلان، وهذا وإن ذكره بعض التابعين إلا أنه لا يصح من جهة الرواية، وقد كانوا يذكرونه على أنه سبب النزول لكنه من قبيل المرسل.
وبعضهم يقول غير هذا، ولعل من أوضح ما يقال فيها هو ما ذكره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - أن المراد بها أنهم سموها باللات والعزى، واللات والعزى أسماء مؤنثة قال تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى [سورة النجم:19-20] فكل هذه أسماء مؤنثة، وهي معبودات العرب في الجاهلية.
قال: وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا [سورة النساء:117] يعني إن يعبدون إلا شيطاناً مريدا؛ لأنه هو الذي دعاهم إلى ذلك، وزينه لهم، فكل من لم يعبد الله فقد عبد الشيطان قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [سورة يس:60] فهؤلاء يعاتبهم الله بعبادتهم هذه الأصنام، واعتبر ذلك عبادة للشيطان، وإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - قال لأبيه: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ [سورة مريم:44].
على كل حال كل من أطاع الشياطين، واتبع نظاماً غير نظام الله الذي شرعه للعبادة؛ فقد عبد الشيطان كما قال الله - تبارك وتعالى -: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [سورة الأنعام:121] فجعل طاعتهم إشراكاً به مع أن هذه الآية إنما سبب نزولها هو ما يتعلق بأكل الميتة حيث كان المشركون يقولون: ما ذبحتموه بأيديكم تقولون: حلال، وما ذبحه الله بيده الشريفة تقولون: حرام، فأنتم إذاً أحسن من الله! فأنزل الله : وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [سورة الأنعام:121] يعني حتى لو أطاعوهم في هذه الجزئية - حل الميتة - فإن ذلك يكون إشراكاً، فكيف إذا أطاعوهم فيما هو أعظم من هذا وأكثر من هذا، وحكّموا فيهم شرعاً غير شرع الله - تبارك وتعالى - في كل شيء، وسموه قانوناً ونظاماً؟! إنهم يعبدون الشيطان بذلك، والله المستعان.
قوله: "وصوروهن صور الجواري، فحكموا وقلدوا" يبدو أن هذه العبارة محرفة، وأن الصواب "فحلوا وقلدوا" والمعنى أنهم جعلوا هذه الأصنام تماثيل - صور جواري -، ووضعوا عليها الحلي، وقلدوها القلائد، هذا هو المعنى الظاهر، والله أعلم.
وقوله: وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا [سورة النساء:117] أي: هو الذي أمرهم بذلك، وحسنه، وزينه لهم، وهم إنما يعبدون إبليس في نفس الأمر كما قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ الآية [سورة يس:60].
وقال تعالى إخبارًا عن الملائكة أنهم يقولون يوم القيامة عن المشركين الذين ادعوا عبادتهم في الدنيا: بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ [سورة سبأ:41]".
- أخرجه النسائي في الكبرى - كتاب التفسير - باب تفسير سورة النجم (11547) (ج 6 / ص 474) وأبو يعلى (902) (ج 2 / ص 196).