الثلاثاء 15 / ذو القعدة / 1446 - 13 / مايو 2025
إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِۦٓ إِلَّآ إِنَٰثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَٰنًا مَّرِيدًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله: إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا [سورة النساء:117] قال جُوَيْبر عن الضحاك في الآية: قال المشركون: إن الملائكة بنات الله، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، قال: فاتخذوهن أرباباً، وصوروهن صور الجواري، فحكموا وقلدوا، وقالوا: هؤلاء يُشْبهن بنات الله الذي نعبده، يعنون الملائكة.
وهذا التفسير شبيه بقوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى الآيات [سورة النجم:19]".

هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير في قوله: إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا [سورة النساء:117] هو أحد الأقوال التي ذكرها السلف أي أن المشركين قالوا: إن الملائكة بنات الله، وعبدوهم من دون الله - تبارك وتعالى -، ولم يكن ذلك في جميع العرب، بل من العرب من عبد الملائكة، ومنهم من عبد الأصنام.
"قال: فاتخذوهن أرباباً، وصوروهن صور الجواري" أي: جعلوهم على صورة الجواري - هذا أحد الأقوال -، وطائفة تقول: إن المراد من قوله: إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا [سورة النساء:117] أي أن مع كل صنم جنيّة كما جاء في الحديث الصحيح المخرج في البخاري أو في الصحيحين في قطع خالد بن الوليد للسَّمُرات حين بعثه النبي ﷺ عام الفتح والتي يسمونها بالعزى، حيث قطعها ثم رجع إلى النبي ﷺ فأخبره أنه ما فعل شيئاً، ثم رجع إليها بعد ذلك وراى امرأة سوداء نافشة شعرها، تدعو بالويل، فعلاها بالسيف وقتلها، وحرق أصول السَّمُرات، فرجع إلى النبي ﷺ، وأخبره فقال: تلك العزى[1] أي أنها تلك الجنيّة أو الشيطانة التي ظهرت لخالد .
وثبت في التاريخ في قصص العرب، وفي أخبارهم التي دونت في الكتب؛ أنهم كانوا يسمعون أصواتاً من هذه الأصنام ترد عليهم، وربما أجابتهم، وخاطبتهم، وهي تلك الشياطين التي كانت وراء هذه المعبودات.
وبعضهم يقول: إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا [سورة النساء:117] يعني كل صنم، وكل معبود، وكل شجر أو حجر يعبدونه فيه جنيّة فهذا حقيقته، ولهذا قال: وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا [سورة النساء:117].
وبعضهم يقول: إن العرب كانوا يسمون هذه المعبودات بالإناث، يقولون: أنثى بني فلان يعني معبود بني فلان، وهذا وإن ذكره بعض التابعين إلا أنه لا يصح من جهة الرواية، وقد كانوا يذكرونه على أنه سبب النزول لكنه من قبيل المرسل.
وبعضهم يقول غير هذا، ولعل من أوضح ما يقال فيها هو ما ذكره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - أن المراد بها أنهم سموها باللات والعزى، واللات والعزى أسماء مؤنثة قال تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ۝ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى [سورة النجم:19-20] فكل هذه أسماء مؤنثة، وهي معبودات العرب في الجاهلية.
قال: وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا [سورة النساء:117] يعني إن يعبدون إلا شيطاناً مريدا؛ لأنه هو الذي دعاهم إلى ذلك، وزينه لهم، فكل من لم يعبد الله فقد عبد الشيطان قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [سورة يس:60] فهؤلاء يعاتبهم الله بعبادتهم هذه الأصنام، واعتبر ذلك عبادة للشيطان، وإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - قال لأبيه: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ [سورة مريم:44].
على كل حال كل من أطاع الشياطين، واتبع نظاماً غير نظام الله الذي شرعه للعبادة؛ فقد عبد الشيطان كما قال الله - تبارك وتعالى -: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [سورة الأنعام:121] فجعل طاعتهم إشراكاً به مع أن هذه الآية إنما سبب نزولها هو ما يتعلق بأكل الميتة حيث كان المشركون يقولون: ما ذبحتموه بأيديكم تقولون: حلال، وما ذبحه الله بيده الشريفة تقولون: حرام، فأنتم إذاً أحسن من الله! فأنزل الله : وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [سورة الأنعام:121] يعني حتى لو أطاعوهم في هذه الجزئية - حل الميتة - فإن ذلك يكون إشراكاً، فكيف إذا أطاعوهم فيما هو أعظم من هذا وأكثر من هذا، وحكّموا فيهم شرعاً غير شرع الله - تبارك وتعالى - في كل شيء، وسموه قانوناً ونظاماً؟! إنهم يعبدون الشيطان بذلك، والله المستعان.
قوله: "وصوروهن صور الجواري، فحكموا وقلدوا" يبدو أن هذه العبارة محرفة، وأن الصواب "فحلوا وقلدوا" والمعنى أنهم جعلوا هذه الأصنام تماثيل - صور جواري -، ووضعوا عليها الحلي، وقلدوها القلائد، هذا هو المعنى الظاهر، والله أعلم.
"وهذا التفسير شبيه بقوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [سورة النجم:19] الآيات، وقال تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا الآية [سورة الزخرف:19] وقال: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا [سورة الصافات:158] الآيتين.
وقوله: وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا [سورة النساء:117] أي: هو الذي أمرهم بذلك، وحسنه، وزينه لهم، وهم إنما يعبدون إبليس في نفس الأمر كما قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ الآية [سورة يس:60].
وقال تعالى إخبارًا عن الملائكة أنهم يقولون يوم القيامة عن المشركين الذين ادعوا عبادتهم في الدنيا: بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ [سورة سبأ:41]".
  1. أخرجه النسائي في الكبرى - كتاب التفسير - باب تفسير سورة النجم (11547) (ج 6 / ص 474) وأبو يعلى (902) (ج 2 / ص 196).

مرات الإستماع: 0

"إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا [النساء:117] الضمير في يَدْعُونَ للكفار، ومعنى يدعون: يعبدون".

يدعون بمعنى: يعبدون، كما قال الله : أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [يس:60] يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا [مريم:44] وكما قال الله في سورة الأنعام: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121] فطاعتهم فيما يدعون إليه، ويأمرون به ذلك من قبيل الإشراك، فالاستجابة لهم في التحليل، والتحريم، كتحليل الميتة، حيث يقولون: كل ما ذبحتم بأيديكم تزعمون أنه حلال طيب طاهر، وما ذبحه الله - تبارك، وتعالى - بيده الشريفة بسكينٍ من ذهب تقولون: حرام، إذًا أنتم أحسن من الله! هكذا يجادلون، وهذا من وحي الشياطين، فالشياطين قد يلقون على ألسنة أوليائهم مثل هذه الشبهات، فيجادلون فيها، وهذا بنص القرآن وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [الأنعام:121] فهذه الشبهات التي يُلقيها شياطين الإنس، ربما كان ذلك من، وحي شياطين الجن، وقد يوحي بعض شياطين الإنس لبعضهم من أجل توليد الشُبه، والاستعانة بها على المجادلة، ورد الحق، وإضلال الناس.

"واختُلف في الإناث هنا، فقيل: هي الأصنام؛ لأن العرب كانت تسمي الأصنام بأسماء مؤنثة: كاللات، والعزى".

نعم كما قال الله : أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ۝  وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى [النجم:19 - 20] فهذه مؤنثة أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى ۝  تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [النجم:21 - 22] ولكن بعض أهل العلم قال: المراد من إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا [النساء:117] الأصنام، وليس ذلك لأنها أسماء مؤنثة، ولكن لأن مع كل صنم جنية، وهذا ثابت في بعض هذه الأوثان، والنبي ﷺ حينما بعث خالدًا إلى العُزى، والعُزى يقولون: هي سمرات ثلاث، فقطعها ورجع إلى النبي ﷺ فأخبره، فأخبره النبي ﷺ أنه ما فعل شيئًا، فرجع إليها، فوجد امرأةً سوداء ناشرةً شعرها، فعلاها بالسيف، فقال النبي ﷺ تلك العُزى[1] فهذه المرأة الشيطانة تتلبس بهذه الأوثان؛ ولذلك ذكروا في تاريخ العرب أن بعض هذه الأصنام، أو بعض هذه الأوثان يسمعون منهم صوتًا، وجوابًا، ونحو ذلك، فيزيدهم ذلك فتنةً، وضلالاً.

فالمدعو في الحقيقة هو هذه الجنية الملابسة لهذا الصنم، أو الوثن، وهي التي تجيبهم أحيانًا، يعني يسمعون جوابًا، وصوتًا من هذه الأوثان، وبعضهم يقول: المراد بذلك أن لكل قبيلة، وحيٍ من أحياء العرب، ونحو ذلك صنم، يسمونها: أنثى بني فلان.

وقال الضحاك: بأن المشركين قالوا: إن الملائكة بنات الله، واتخذوهن أربابًا، وصوروهن جواري، فحلوا، وقلدوا - وضعوا القلائد على هذه المصورات - وقالوا: هؤلاء يشبهون بنات الله الذي نعبده[2] فيكون: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا [النساء:117] باعتبار هذه الصور التي صوروها للملائكة مدعين أن الملائكة بنات الله.

فقال: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا [النساء:117] لكن اختار أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -: أن المقصود إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا [النساء:117] يعني أنها سُميت بأسماء الإناث كاللات، والعزى، ونحو ذلك[3] ومن أراد الاطلاع على أحوال العرب، وما كانوا عليه في هذا الباب تفصيلاً، وهذه الأصنام، وما كان يحصل عندها، فلينظر في مثل كتاب: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، فهذا كتابٌ جامع يقع في نحو أحد عشر مجلدًا، مع الفهارس، فيه كل ما يتصل بالعرب، من الكعبات، وأماكن الذبح، والأنصاب، والأزلام، وكل ما يتعلق بها، وتلبية العرب في الجاهلية، وكل قبيلة بماذا كانت تُلبي؟ وكذلك الأصنام التي عندهم، ومواضعها، والأوثان، إلى غير ذلك تجده في هذا الكتاب، وكذلك مثل كتاب: الأصنام لابن الكلبي، وهو كتاب متقدم، وهو حافل أيضًا بهذه الأمور، وإن لم يكن مثل الأول، هو مجلد واحد، وهناك كتاب آخر معاصر مفيد جدًا في هذا الموضوع اسمه: الشرك الجاهلي، ومعبودات العرب قبل الإسلام، فهذا كل ما يتعلق بجاهليتهم، ومعبوداتهم، ومناسكهم، تجد كل ذلك مفصلاً في هذه الكتب.

وقديمًا ذكرتُ أشياء، وتفاصيل من هذا في شرح كتاب: التوحيد، وذكرتُ تلبية العرب، وكعباتهم، وما كانت عليه كل قبيلة من المناسك، والشرك قبل الحج، أو بعده، وما إلى ذلك.

وبعض أهل العلم يقولون: بأن المعنى: إن يدعون إلا شيئًا مثل الإناث، باعتبار أنه لا دفع، ولا قوة، فهو لا ينفعهم، ولا يدفع عن نفسه، فيكف يدفع عن غيره؟ فكيف يدعونه بهذا الاعتبار؟ يعني عاجز، فلا يدفع عن نفسه، فالأنثى معلومٌ أنها ضعيفة، كما يقول الشاعر لما رأى جاريةً يوجّه إليها الاتهام، واللوم، ولا تُجيب عن نفسها، فقال:

بنفسي، وأهلي من إذا عرضوا له ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب؟
فلم يعتذر عذر البريء، ولم يزل به سكتة حتى يُقال: مُريب[4]

فهو يتغزل بها لضعفها، فالضعف في المرأة كمال، وإلا لو كانت قوية مترجلة مثل الرجل في عقلها، وفي جسدها، وفي شخصيتها، ونحو ذلك لما أمكن الاستمتاع بها، والاستلطاف لها، والرجل ينجذب إليها لضعفها، فالله قد جعل لكل شيءٍ ما يصلح له، ويناسبه.

ولذلك الطفل يُستملح بضعفه، وصغر جسده، وتفكيره، ونحو ذلك، لو كان الطفل هذا يحمل عقل الكبير لاستوحش الكبار منه، وما استطاعوا ملاعبته، أليس كذلك؟ فهذا الصغير لائق به أن يكون مثل هذه الحال في عقله، وفي جسده فيُستلطف، والمرأة اللائق بها أن تكون بصفات الإناث من الرقة، واللطف، والضعف الجبلي، فإذا ترجلت فإنها تكون عديمة اللون، والطعم، والرائحة، وهذا واضح.

لكن هذا القول، وهو أن معنى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا [النساء:117] يعني شيء مثل الإناث لا يدفع عن نفسه، لا يخلو من بُعد - والله أعلم -.

فلذلك إما أن يُقال: بأن هذا باعتبار أنها تُسمى بأسماء الإناث، أو باعتبار أن مع كل صنم جنية، فهم في الواقع يدعون هذه الجنية، أو باعتبار أن هؤلاء صوروا صور الملائكة، وقالوا: هي بنات الله، فحلوها، وزينوها - والله أعلم -.

"وقيل: المراد الملائكة، لقول الكفار: إنهم إناث، وكانوا يعبدونهم، فذكر ذلك على وجه إقامة الحُجة عليهم بقولهم الفاسد، وقيل: المراد الأصنام؛ لأنها لا تعقل، فيُخبر عنها، كما يُخبر عن المؤنث".

كيف يُخبر عنها كما يُخبر عن المؤنث؟ صيغ العقلاء يُقال مثلاً: يقولون، يفعلون، يسجدون، يدعون، يأكلون، يشربون، وأما غير العقلاء، فيقال: تشرب، تأكل، تقول - هي لا تقول لكن لو فُرض - ونحو ذلك؛ لهذا يتحدثون عن مثل قوله: أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا [الأعراف: 195] فلم يقل: تبطش، لكن قال: يبطشون، وهي غير عاقل، فالعلماء أوردوا سؤالاً هنا: لماذا عبّر عنها بصيغة العقلاء (يبطشون)؟ فقالوا: هذا في اعتقادهم، فهم يعتقدون ليس فقط أنها عقلاء، بل أنها آلهة، فجاء الخطاب مُراعًا فيه حال المخاطبين، وفي قوله - تبارك، وتعالى - حاكيًا قول يوسف - عليه الصلاة، والسلام - وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف:4] فلم يقل: رأيتها لي ساجدة، وإنما عبّر بالعقلاء، أجابوا عنه: لأنه أضاف إليها فعلاً من أفعال العقلاء، وهو السجود، فعاملها معاملة العقلاء بهذا الاعتبار.

وهنا يقول: "لأنها لا تعقل" فيُخبر عنها كما يُخبر عن المؤنث، فيُقال: هذه الأصنام مثلاً قائمة، ودعواها باطلة، وعباداتها باطلة، ونحو ذلك، ولا يُقال: هؤلاء الأصنام المعبودون من دون الله، وإنما يُقال: المعبودة من دون الله، ونحو ذلك من التعبير عنها: معبودة، باطلة، جامدة، هامدة، ساكنة، لكن في العقلاء تقول: ساكنون، صامتون.

"إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا [النساء:117] يعني: إبليس، وإنما قال: إنهم يعبدونه؛ لأنهم يطيعونه في الكفر، والضلال، والمريد: هو الشديد العتوّ، والإضلال".

يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا [النساء:117] كما قال الله : بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:41] وكما سبق أيضًا هذا يكون باعتبار أن كل صنم من هذه الأصنام معه جنية، ويكون أيضًا بإضلال الشياطين لهم، فهم بهذه الاستجابة لعبادة الأصنام عابدون لمن وراءها، ومن يزينها في نفوسهم، وهو الشيطان؛ لأنهم أطاعوه، فطاعته هذه عبادةٌ لهم.

قال: "إنهم يعبدونه؛ لأنهم يطيعونه في الكفر، والضلال" فهو الذي أغواهم، وأغراهم بعبادتها، يقول: "المريد هو الشديد العتو، والإضلال" يعني هو الذي كان بعيدًا عن الخير، وظهر شره، كما يُقال: شجرةٌ مردى إذا سقط ورقها، فظهرت عيدانها، فالمارد، والمريد يقولون: كل عاتٍ من شياطين الجن، والإنس، فهو مريد، يعني هي مرتبة عليا من مراتب الشياطين، وفي حديث ليلة القدر في تصفيد الشياطين، جاءت تقيد ذلك بالمردة صفدت الشياطين، ومردة الجن[5] وهم العتاة الكبار، فهذا ليست صفة كاشفة، ليس كل شيطان فهو مارد، وإنما المردة أعلى رتبةً فيهم، وأكثر شرًا، وإضلالاً، وعتوًا من التمرد، فهو مريد، ومارد لعتوه على الله - تبارك، وتعالى - والله أعلم -.

  1.  مسند أبي يعلى الموصلي (2/196-902) وقال حسين سليم أسد: "إسناده صحيح".
  2.  تفسير ابن أبي حاتم، الأصيل - مخرجا (4/1067-5974).
  3.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/211).
  4.  البيتان لابن الدمينة في غريب الحديث لابن قتيبة (1/332) والرواية فيه: (صعقة) بدل (سكتة). وهما له في عيون الأخبار (3/118) والرواية فيه: (ضعفة) بدل (سكتة). وهما له في العقد الفريد (7/86) والرواية فيه: (بهتة) بدل (سكتة).
  5.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الصوم، باب ما جاء في فضل شهر رمضان (3/57-682) وابن ماجه في كتاب الصيام باب ما جاء في فضل شهر رمضان (1/526-1642) وصححه الألباني.