الأحد 13 / ذو القعدة / 1446 - 11 / مايو 2025
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَءَامُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلْأَنْعَٰمِ وَلَءَامُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ ۚ وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيْطَٰنَ وَلِيًّا مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وَلأُضِلَّنَّهُمْ [سورة النساء:119] أي: عن الحق وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ [سورة النساء:119] أي: أزين لهم ترك التوبة، وأعدهم الأماني، وآمرهم بالتسويف، والتأخير، وأغرهم من أنفسهم".

كل المعاني التي ذكرها السلف في قوله: وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ صحيحة؛ فهو يمنيهم بطول العمر، وأنهم سيتوبون، ويمنيهم بأن لهم الدار الآخرة، ويمنيهم بتحقيق الآمال، وتحصيل المطالب من غير جدٍ، ولا عمل، ويمنيهم بأن الله غفور رحيم، وأنه لا ينتفع من تعذيبهم، ويمنيهم أيضاًَ بالشفاعة، وهكذا يمنيهم بكل ما يمنى به المبطل، والمبطل هذا تارة تكون أمانيه من قبيل الأمور الدنيوية، وتارة تكون في قضايا أخروية، وتارة من غير عمل وتسبُّب لتحصيل ذلك، فهذا كله داخلٌُ في هذه الأماني، وكل ما ذكره السلف مما يمني الشيطان به الناس فهو من قبيل التفسير بالمثال، ولذلك لا حاجة للترجيح بين هذه المعاني التي يذكرونها.
"وقوله: وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ [سورة النساء:119] قال قتادة والسدي، وغيرهما: يعني تشقيقها، وجعلها سمة، وعلامة للبحيرة، والسآئبة، والوصيلة".

البتك هو القطع، ويقصد به هنا قطع أذن البحيرة، والسائبة، والوصلية وما أشبه ذلك مما يسيبونه للطواغيت.
في قوله تعالى: مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ [سورة المائدة:103] هذه عقائد جاهلية عندهم حيث كانوا يُبَحِّرون البحائر، ويسيبون السوائب، ويحمون الحام وهو البعير الذي يتركونه بعد أن ضرب الضراب المعروف حيث يقولون: قد حمى ظهره، والمقصود أن عندهم أشياء معينة إذا حصلت فإنهم يسيبون هذه السوائب للطواغيت فلا ينتفعون بدرِّها، ولا بلحمها، ولا بوبرها، ولا غير ذلك، وهذا كله مما افتروه على الله .
وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ [سورة النساء:119] قال الحسن ابن أبي الحسن البصري: يعني بذلك الوَشْم، وفي صحيح مسلم النهي عن الوشم في الوجه، وفي لفظٍ: لعن الله من فعل ذلك[1]".

قوله: وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ [سورة النساء:119] منهم من فسره بالوشم، ومنهم من فسره بما يفعلونه بهذه البهائم من التغيير، والتبديل، ومنهم من فسره بغير هذا، وكل ذلك داخل فيه، ويمكن أن يفسر بتفسير يشمل ذلك جميعاً، وهو ما ذكره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، ومال إليه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - في الأضواء بأن المراد بقوله: فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ [سورة النساء:119] أي ليغيرن دين الله، ويدخل في تغيير دين الله قطع آذان البهائم، وما يفعلونه بالبحيرة، والسائبة، والوصيلة، ويدخل فيه كذلك الوشم المعروف، والوشر وهو برد الأسنان بالمبرد بحيث تكون متساوية، وتجعل متفرقة بطريقة متناسقة بحثاً عن الحسن، والجمال، وكل ما نهى الله - تبارك وتعالى - عنه فهو من تغيير دين الله ، وهذا قال به طائفة من السلف كابن عباس وإبراهيم النخغي، ومجاهد والحسن، والضحاك وقتادة، وسعيد بن المسيب وغيرهم، ويؤيده قوله - تبارك وتعالى -: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [سورة الروم:30] يعني لا تبديل لدين الله، ويدخل فيه قول النبي ﷺ: ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه ثم ذكر البهيمة فقال: كما تنتج بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟[2].
"وفي الصحيح عن ابن مسعود أنه قال: "لعن الله الواشمات، والمستوشِمات، والنامصات، والمُتَنَمِّصَاتِ، والمُتَفَلِّجات للحُسْن المغيّرات خَلْقَ الله " ثم قال: "ألا ألعن من لعن رسول الله ﷺ وهو في كتاب الله ؟ يعني قوله: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [سورة الحشر:7][3].
وقوله تعالى: وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا [سورة النساء:119] أي: فقد خسر الدنيا والآخرة، وتلك خسارة لا جبر لها، ولا استدراك لفائتها".
  1. أخرجه البخاري في كتاب اللباس - باب الوصل في الشعر (5589) (ج 5 / ص 2216) ومسلم في كتاب اللباس والزينة - باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات والمغيرات خلق الله (2124) (ج 3 / ص 1677).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الجنائز - باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه وهل يعرض على الصبي الإسلام (1292) (ج 1 / ص 456) ومسلم في كتاب القدر -  باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين (2658) (ج 4 / ص 2047).
  3. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة الحشر (4604) (ج 4 / ص 1853) ومسلم في كتاب اللباس والزينة - باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات والمغيرات خلق الله (2125) (ج 3 / ص 1678).

مرات الإستماع: 0

"وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ [النساء:119] أي: أعدهم الأماني الكاذبة".

يعدهم الأماني الكاذبة، فيمنيهم بالتوبة، حتى يوافون من غير توبة، ويمنيهم بمغفرة الله  فإذا قدموا القيامة بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، ويمنيهم بالجنة، وأن لهم عند الله الحسنى، فهذا كله من تمنياته الأماني الكاذبة، كقول اليهود: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة:80] يعني بقدر الأيام التي عبدوا بها العجل، وهكذا في دعواهم أنهم أبناء الله، وأحباؤه، وأولياؤه، وأصفياؤه من خلقه، فهذا كله من الأماني الكاذبة، ومن ذلك: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أو نَصَارَى [البقرة:111].

"فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ [النساء:119] أي: يقطعونها، والإشارة بذلك إلى البحيرة، وشبهها".

هذا المعنى عزاه الواحدي إلى جميع المفسرين[1] وكذلك الحافظ ابن القيم - رحمه الله - وهو أن قوله: فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ [النساء:119] المراد: البحيرة، وشبهها[2] ففي هذه البهائم كان للعرب فيها دعاوى، ومعتقدات، ومن ذلك أنهم كانوا يشقون، أو يقطعون أذانها إعلامًا، وإيذانًا بحالٍ، ووصفٍ لها، كل ذلك من عمل الشيطان فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ [النساء:119] أي: يشقونها، فالبتك: القطع، ويُستعمل هذا البتك في قطع الأعضاء، والشعر، وهنا قيده بآذان الأنعام، يقول: "أي: يقطعونها" يقطعون آذان الأنعام، فكانت لهم معتقدات في هذه البهائم، والحيوانات باعتبارات معينة، فعندهم الحامي، يقولون: حمى ظهره، وهو الفحل إذا ضرب الضراب المعدود عندهم بقدرٍ معين، تركوه، ولا يتعرض له أحد، ولا يُنحر، وهكذا السائبة تسيب لأصنامهم، وأوثانهم، ولا يتعرض لها أحد، ولا تُحلب، ولا تُنحر، ولا تُركب، وهكذا الوصيلة على اختلافٍ في وصف ذلك، وتحديده في كلام أهل العلم، وكل ذلك من عمل الشيطان، ومما زينه لهم، فيكون قوله هنا: فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ [النساء:119] على هذا التفسير، المقصود به تبتيك، وتقطيع خاص، فمن قطع في أذن البهيمة من باب التمييز لها عن غيرها لئلا تضيع لا يدخل في هذا، وإنما يكون ذلك منهيًا عنه إذا قصد به: البحيرة، لكن إن قصد به العلامة فقط لدوابهم لئلا تختلط بغيرها، أو تضيع فلا يدخل فيه قوله: فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ [النساء:119].

لكن قوله - تبارك، وتعالى -: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النساء:119] أعم؛ لذلك ذكروا في الثاني قطع الآذان، وذكروا فيه أشياء من تغيير خلق الله، كالخصاء، ونتف اللحية، وحلقها كذلك، وهكذا في ألوان التغيير، كعمليات التجميل التي لا تكون لغرض طبي، وسبب شرعي معتبر، فهذه لا تجوز، وهي من تغيير خلق الله .

"فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النساء:119] التغيير هو الخصاء، وشبهه، وقد رخص جماعةٌ من العلماء في خصاء البهائم، إذا كان فيه منفعة، ومنعه بعضهم لظاهر الآية".

يقولون: بأن الخصاء أوفر للحم، وسبب للسمن، وأطيب للحم، فرخصوا فيه بهذا الاعتبار، وبعضهم يقول: بأن المقصود هنا بتغيير خلق الله، أي: يبدلون حكمه، ودينه، لكن هذا خلاف الظاهر المتبادر، تغيير خلق الله - تبارك، وتعالى - بتغيير الهيئة، والصورة التي خلق الله خلقه عليها.

"وقيل: التغيير هو الوشم، وشبهه، ويدل على هذا الحديث الذي لُعن فيه الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحُسن، المغيرات خلق الله[3]".

وهذا داخلٌ فيه الوشم، الفلج، والنمص، مع تغيير خلق الله، كالشفاه، والآناف، وما يسمى بشد الوجه، أو الصدر، أو نحو هذا مما يقصد به مجرد التجميل، كتصغير الصدر، أو تكبيره، وهكذا سائر مواضع الجسد، فهذا كله داخلٌ فيه، وهو من تغيير خلق الله، وبعض أهل العلم أدخل فيه أيضًا تغيير الخلقة الباطنة، بمعنى تغيير الفطرة من التوحيد إلى الشرك، ونحو ذلك.

وأبو جعفر بن جرير - رحمه الله - فسر ذلك بتغيير دين الله[4] فيكون فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النساء:119] أي دينه، وأدخل في معناه كل ما نهى الله عنه من الوشم، وغيره؛ لأنه تغييرٌ لحكم الله فهو شيءٌ محرم.

ومما فسره بأن المراد به: دين الله جمع من السلف: كابن عباس، وإبراهيم النخعي، ومجاهد، والحسن، والضحاك، وقتادة، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير[5].

ويمكن أن يحتج لهذا بحديث: ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه[6] وهذا تغيير لفطرته، والله - تبارك، وتعالى - يقول: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30] ولهذا فسره بعض أهل العلم بهذا، وهذا، يعني بتغيير الخلقة الباطنة، وهي الفطرة بالشرك، ونحوه، وكذلك أيضًا تغيير الظاهر بهذه المزاولات، والأعمال من وشمٍ، ونمصٍ، وقطعٍ للآناف، ونحو ذلك، فيشمل هذا، وهذا، فكل ذلك من التغيير.

وحمله ابن جرير - رحمه الله - على هذا حيث قال: هو تغيير دين الله[7] فهذه التي تكون نامصة، أو واشمة، أو نحو ذلك، هي غيرت، وانتهكت حدوده، وفعلت ما يحرُم عليها. 

  1. التفسير الوسيط للواحدي (2/118).
  2.  تحفة المودود (ص:126).
  3.  أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب المتفلجات للحسن (7/164-5931) ومسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات والمغيرات خلق الله (3/1678-2125).
  4.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/222).
  5.  تفسير ابن كثير ت سلامة (2/415) وزاد المسير في علم التفسير (1/474).
  6. أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات، هل يصلى عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام (2/94-1358) ومسلم في القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة برقم: (2658).
  7.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/222).