قال قتادة: ذُكرَ لنا أنّ المسلمين وأهل الكتاب افتخروا فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، فنحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم، ونبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله، فأنزل الله: لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [سورة النساء:123] وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ الآية [سورة النساء:125]، ثم أفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان.
وكذا روي عن السّدي ومسروق، والضحاك وأبي صالح وغيرهم، وكذا رَوَى العَوْفيّ عن ابن عباس - ا - أنه قال في هذه الآية: تخاصَمَ أهل الأديان فقال أهل التوراة: كتابنا خير الكتب، ونبينا خير الأنبياء، وقال أهل الإنجيل مثل ذلك، وقال أهل الإسلام: لا دين إلا الإسلام، وكتابنا نَسَخَ كلّ كتاب، ونبينا خاتم النبيين، وأُمرْتُم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم، ونعمل بكتابنا، فقضى الله بينهم وقال: لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ الآية [سورة النساء:123]".
فهذه الآثار التي ذكرها في سبب النزول جاءت عن مثل هؤلاء التابعين - رحمهم الله - فهي من قبيل المراسيل، والمرسل نوع من الضعيف، ثم إن رواية العوفي عن ابن عباس معلوم أنها من الطرق الضعيفة ولو صح ذلك لكان بيِّناً أن قوله: لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ [سورة النساء:123] يعني أماني المسلمين، ولذلك لم يتفق أهل العلم على أن هذا هو المعنى لهذه الآية، فأبو جعفر بن جرير - رحمه الله - يربط هذه الآية بما قبلها، فالشيطان قال: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا [سورة النساء:118] وهم أتباعه وأولياؤه من أهل الإشراك، وقال: وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ [سورة النساء:119] وهذه كما سبق هي في البحيرة، والوصيلة، والسآئبة التي كان يجعلها المشركون، ولذلك فإنه - رحمه الله - يرى أن قوله: لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ يعني أيها المشركون من قريش، ويحتج على هذا بأنه لم يرد ذكر أماني للمسلمين، وإنما ذكرت أماني الشطيان الذي قال: ولأضلنهم، ولأمنينهم.
وأما أماني أهل الكتاب فقد ذكرها في هذه الآية لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [سورة النساء:123] وذكرها في مواضع أخرى من القرآن كقوله تعالى: قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ [سورة آل عمران:24] وكقوله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [سورة المائدة:18]، وكقوله تعالى: وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:111] وأشباه ذلك من الأماني.
وبالنسبة للعرب فقد ورد قول الله عنهم: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سورة سبأ:35] وقال تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [سورة المؤمنون:37].
والحاصل أن هذه الآية لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [سورة النساء:123] تقرر معنىً وهو أن كل من تمنى على الله الأماني من غير أن يكون له رصيد من العمل الذي يقربه إلى الله - تبارك وتعالى - فإنه لا تنفعه تلك الأماني؛ لأن ما عند الله لا ينال بأمانيه، ويدخل في ذلك أماني أهل الإشراك من العرب، ويدخل فيها أماني المخاطبين عموماً كما يدل على ذلك ظاهر هذا الخطاب، وكما تدل عليه تلك الروايات، والمراسيل، وإن كانت لا تخلو من ضعف كرواية العوفي عن ابن عباس، والله أعلم.
وقد روي أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على كثير من الصحابة .
روى ابن أبي حاتم عن عائشة - ا - قالت: قلت: يا رسول الله إني لأعلم أشد آية في القرآن فقال: ما هي يا عائشة؟ قلت: مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ فقال: هو ما يصيب العبد المؤمن حتى النَّكْبَة يَنْكُبها [رواه ابن جرير وأبو داود][1].
روى سعيد بن منصور أن أبا هريرة قال: لما نزلت مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [سورة النساء:123] شقَّ ذلك على المسلمين، فقال لهم رسول الله ﷺ: سددوا، وقاربوا؛ فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى الشوكة يُشَاكها، والنَّكْبَة يَنْكُبُهَا وهكذا رواه أحمد عن سفيان بن عيينة، ومسلم، والترمذي، والنسائي[2].
وقوله: وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا [سورة النساء:123] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: "إلا أن يتوب فيتوب الله عليه" [رواه ابن أبي حاتم]".
- أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز - باب عيادة النساء (3095) (ج 3 / ص 151) وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة.
- أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها (2574) (ج 4 / ص 1993).