الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ كُونُوا۟ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا۟ ٱلْهَوَىٰٓ أَن تَعْدِلُوا۟ ۚ وَإِن تَلْوُۥٓا۟ أَوْ تُعْرِضُوا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [سورة النساء:135]".

الكلام السابق الذي ذكرته في تفسير قوله تعالى: مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [سورة النساء:134] والقول بأنها عامة هو ما يراه ابن كثير، وهو مخالف لقول ابن جرير - رحمهما الله تعالى -.
"يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط أي: بالعدل".

الكلام في هذه الآية عام أيضاً، فهو نداء للمؤمنين أن يكونوا قوامين بالعدل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ لكن ابن جرير - رحمه الله - يرى أن الكلام لا يزال في الذين دخلوا في أمر بني أبيرق، وأن الله يأمرهم بالقيام بالقسط، ويأمرهم ألا يكونوا مدافعين لهؤلاء باعتبار أن هذا فقير أو مسكين - حيث قيل ذلك في بشير - فهذا ليس مبرراً للوقوف مع من خان، وسرق، أو قارف ما لا يليق.
"فلا يعدلوا عنه يميناً، ولا شمالاً، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا متعاونين متساعدين، متعاضدين متناصرين فيه.
وقوله: شُهَدَاء لِلّهِ كَمَا قَالَ: وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ [سورة الطلاق:2] أي ليكن أداؤها ابتغاء وجه الله فحينئذ تكون صحيحة، عادلة حقاً، خالية من التحريف، والتبديل، والكتمان".

هذه الآية كقوله تعالى في سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ [سورة المائدة:8].
 ولفظة قوامين في الآيتين تدل على الكثرة أي أن قيامكم يكون كثيراً لله - تبارك وتعالى - وهو القيام بالحق، والعدل.
وهاتان الآيتان فيهما دعوة للمؤمنين أن يكون العدل من شأنهم، وديدنهم، وعادتهم؛ لا أن يكون ذلك منهم في الأحيان التي توافق أهواءهم، ولهذا فإن القيام بأداء الشهادة يجب أن يكون لله - تبارك وتعالى -، ورجاء ما عنده، لا أن يكون الإنسان قائماً بالشهادة؛ لأن ذلك يوافق هواه، أو لأنه يريد أن يؤيد هذا فيشهد، أو يريد أن ينتقم من الآخر فيشهد شهادة يتضرر بها ولو كان محقاً، ومن فعل ذلك فإنما صار قيامه بالشهادة لحظّ النفس، والهوى، والشيطان، وهذا لا يجوز، بل يجب أن تكون الشهادة لله - تبارك وتعالى - وحده.
وقد أورد ابن القيم - رحمه الله - عبارات جيدة في الكلام على القيام بالقسط، ومما ذكر من العبارات في هذا المعنى قوله: وأعظم ذلك يكون في الحكم على الطوائف، والمذاهب، والآراء.
ويقول: وكثير من الناس ميزانه الذي يزن به الناس إنما هو ما وافق نحلته، ومذهبه، ورأيه، فما وافق ذلك فهو الحق، وما خالفه فهو الباطل.
وإذا كان كل طائفة من طوائف الأمة تزن بهذا الميزان فهذا ميزان جور، وعليه فكل طائفة ستخالف غيرها، وستضلل الطوائف الأخرى، ومن هنا ترى أن ما هي عليه هو الحق، وما عداه هو باطل، وضلال، لذلك نقول: إن هذا الميزان باطل، وهذه الطريقة هي من أعظم آفات التعصب التي لا يجوز الاعتماد عليها.
وهذا النوع من الميزان يوجد في متعصبة المذاهب الفقهية، وفي طوائف أهل الأهواء، وربما وُجد في بعض من ينتسب إلى السنة حيث تجده يتعصب لرأيه، وقوله، واجتهاده، أو مذهبه، أو مقدمه، أو إمامه، أو شيخه، ويرى أن كل ما قاله هو فهو الحق، والله المستعان.
التمذهب والتعصب:
يقال - على سبيل المثال -: مذهب أهل الكوفة، ومذهب البصريين يعني في النحو، ويقال أيضاً: مدرسة الرأي في الكوفة، ومدرسة الحديث في الحجاز، فلو تأملت كيف صار لهؤلاء مذهب، ولأولئك مذهب؛ تجد أن السبب في ذلك أن أهل هذه البلد أو تلك يدرسون عند إمام من الأئمة، أو عالِمَيْن، أو ثلاثة، ويتلقون عنهم منذ نعومة أظفارهم، فيسمعون الحجج، والأدلة، وكما هو معلوم أن هؤلاء العلماء لا يتكلمون بأهوائهم؛ وإنما يتكلمون عن اجتهاد، فهم حذاق، وأذكياء، وأئمة، فينبهر بهم التلاميذ، وهذا الانبهار من التلاميذ ليس غريباً فهو يقع منهم أحياناً من خلال نظرتهم إلى من هم طلاب فوقهم وكأنهم أناس كبار، فكيف بمن هو عالم كبير، فالمقصود أن هؤلاء الطلاب يعظمون هذا العالم وذاك غاية التعظيم، ولما كانت النفوس من طبعها أنها قابلة للانجذاب، والتأثر، والمحاكاة، تجد هؤلاء يتأثرون بهذا العالم تأثراً يسيطر عليهم إلى درجة أنهم يتأثرون به حتى في حركاته، وفي طريقة كلامه، بل حتى لو كان به علة أحياناً في البصر يجعله يحرك عينه أو العينين بطريقة معينة فإنهم يحركون أعينهم مثله، وكذا لو كان كلامه غير واضح فإنهم يبدؤون يحاكون طريقة كلامه، ولو كان خطه غير جيد فإنهم يحاكونه في الخط، ولو كان يلبس بشتاً بطريقة معينة فوق رأسه فإنهم يلبسون البشت فوق رؤوسهم محاكاة تامة له لشدة محبتهم لهذا الإمام، فإذا كانت محاكاتهم للعالم بأعماله الظاهرة تصل إلى هذه الدرجة فكيف بآرائه.
إن مثل هؤلاء الطلاب عندما يقرر لهم العالم المسائل فإنها ترسخ عندهم، فيبدؤون من خلال هذه القناعات ينطلقون في دراستهم، فكلما وجدوا شيئاً يؤيد هذا القول أخذوا به، وردوا على من خالفه، وبعض هؤلاء الطلاب قد يكونون من أهل السنة فيتعصبون لعلمائهم بهذه الطريقة، وهذا مرفوض؛ لأن كونهم من أهل السنة يعني أن كل جزئية أو كل تصرف منهم يعتبر صحيحاً.
وهكذا نجد مثل هذه الصور في مسائل الفقه، أو النحو، أو التفسير، أو غير هذا فتصير مدرسة متناغمة، منسجمة، وتجد كل هؤلاء أو عامتهم صبة واحدة إلا في جزئيات لا تؤثر.
كما أن كل الطوائف تسير بهذه الطريقة إلا ما شاء الله، فينشئون بهذه الطريقة، فتكون تلك مدرسة لهم، وقد لا يتلقون من الشيخ مباشرة لكن من كتبه، فهم يقرؤون هذه الكتب والأدلة التي فيها، ويرون أنها واضحة كالشمس مع أنه لا يعني أن كل فهم لهذا الشيخ يكون صحيحاً، لكنهم يعجبون بتقرير الأدلة، وبقوة الحجة منذ نعومة أظفارهم، ويسمعون من زملائهم، وأقرانهم، ومن سبقوهم أن هذا تقرير قوي جداً، وأن هذا الكتاب براهينه قوية، وساطعة، وربما ما قرؤوه لكنهم يرددون مثل هذا الكلام عشرات السنين، ولو أن الإنسان درس كل مسألة دراسة مستقلة من البداية لما صار يوافق في كل هذا المسائل التي قررها ذلك الشيخ.
فالإنسان ينبغي أن يعدل فيكون قيامه بالقسط، وشهادته لله، لا لهوى النفس، ولا على طريقة من شب على شيء شاب عليه.
وعلى كل حال فالكلام السابق كله حول المسائل الاجتهادية، أما الثوابت العقدية - عقيدة أهل السنة - التي قد دلت عليها النصوص الشرعية فهي غير قابلة للمناقشة، وليست مقصودة هنا.
كما أن الكلام السابق لا يعني مطالبة صغار الطلبة بأن يجتهدوا، وإنما المطلوب منهم التجرد، وعدم التعصب للشيخ الفلاني أو المذهب الفلاني، ولذلك فإن تعديد الشيوخ في الدراسة، وتلقي العلم؛ مفيد جداً؛ لأن الطالب إذا كان لا يتلقى إلا من شيخ واحد فإنه لا يعرف إلا قوله، والله المستعان.
"ولهذا قال: وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ [سورة النساء:135] أي: اشهد الحق ولو عاد ضرره عليك، وإذا سُئِلت عن الأمر فقل الحق فيه ولو عادت مَضرته عليك؛ فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجاً ومخرجاً من كل أمر يضيق عليه".

بعض أهل العلم يفسر قوله تعالى: وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ بتفسير فيه بُعد، وكأنهم لم يتصوروا شهادة الإنسان على نفسه فقالوا: يعني أن يشهد على غيره شهادة تضره هو - تضر الشاهد -، فيكون كأنه شهد على نفسه، وهذا بعيد وهو خلاف ظاهر القرآن، وإنما المراد أن يشهد الإنسان على نفسه أنه أخطأ، أو أنه وقع في تقصير وذنب، وارتكاب محظور.
وهذا الأمر في غاية الصعوبة؛ لأن الإنسان كثيراً ما يحيد ولا يقر، ويصعب عليه غاية الصعوبة أن يقر بالخطأ والتقصير، بل يحاول أن يبرر ذلك الفعل الذي ارتكبه، أو يدفعه عن نفسه قدر الإمكان، وإذا ما استطاع أن يصوب رأيه في التبرير فإنه يدفع عن نفسه التهمه.
"وقوله: أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [سورة النساء:135] أي: وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك فلا تُراعهم فيها بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم؛ فإن الحق حاكم على كل أحد، وهو مقدم على كل أحد".

علاقة الابن بالوالدين أنه يعظمهما، ويبرهما، وعلاقته بالأقربين أنه يتعصب لهم، ويحسن إليهم، فبيَّن الله تعالى أن من تعظمه، ومن تتعصب معه بحكم قربك منه، وبحكم ما له من الحق عليك؛ لا يجوز أن تشهد معه على الباطل، وإنما يجب عليك أن تقوم لله بالحق، والقسط، وتكون شهادتك على وجه الحق وإن تضرروا بذلك.
"وقوله: إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا [سورة النساء:135] أي: لا ترعاه لغناه، ولا تشفق عليه لفقره، الله يتولاهما، بل هو أولى بهما منك، وأعلم بما فيه صلاحهما.
وقوله: فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ [سورة النساء:135] أي: فلا يحملنكم الهوى، والعصبية، وبغْضُ الناس إليكم؛ على ترك العدل في أموركم، وشئونكم، بل الزموا العدل على أي حال كان كما قال تعالى: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [سورة المائدة:8]".

لفظ "تعدلوا" في قوله تعالى: فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ [سورة النساء:135] يحتمل معنيين:
الأول: أن يكون من العدل الذي هو القسط، وضده الظلم، والجور، ويمكن أن يكون من العدول كما يقال: عدل عن كذا أي مال عنه، فعلى الأول يكون المعنى فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا، يعني لا تتبعوا أهواءكم كراهة منكم للعدل، وهذا المعنى هو المتبادر، وهو الذي عليه البصريون من النحاة، وهو الذي اختاره كثير من المحققين، وعليه عامة المفسرين، وهو اختيار الحافظ ابن القيم أيضاً، واختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -.
وعلى الثاني أنه من العدول عن الشيء، والميل عنه، ويكون المعنى لا تتبعوا الهوى مخافة أن تعدلوا عن الحق، وتحيدوا عنه، أي أنه نهاهم عن اتِّباع الهوى مخافة العدول والانصراف عن الحق، وهذا فيه بعد، والله أعلم.
"ومن هذا القبيل قول عبد الله بن رواحة لما بعثه النبي ﷺ يخرص على أهل خيبر ثمارهم، وزروعهم، فأرادوا أن يُرْشُوه ليرفق بهم، فقال: "والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليَّ، ولأنتم أبغض إليَّ من أعدادكم من القردة، والخنازير، وما يحملني حُبي إياه، وبغضي لكم؛ على ألا أعدل فيكم"، فقالوا: "بهذا قامت السماوات والأرض" وسيأتي الحديث مسنداً في سورة المائدة إن شاء الله تعالى.
وقوله: وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ [سورة النساء:135] قال مجاهد وغير واحد من السلف: تَلْوُواْ أي: تحرفوا الشهادة، وتغيروها.
واللّي هو التحريف، وتعمد الكذب قال تعالى: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ الآية [سورة آل عمران:78]".

قوله تعالى: وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ [سورة النساء:135] في قراءة ابن عامر والكوفيين: (وإن تلوا)، وبعض أهل العلم مثل ابن جرير - رحمه الله - يرى أن القراءتين بمعنى واحد، وكثير من المفسرين يرون الفرق بينهما فيقولون: وَإِن تَلْوُواْ من اللي، وهو هنا بمعنى التبديل، والتحريف، والتغيير.
وقوله: أَوْ تُعْرِضُواْ بمعنى أن تمسكوا عن الشهادة، وأن تعرضوا عن إقامتها، وأن تتركوها، كما قال الحافظ ابن القيم - رحمه الله -: "فإن الحق إذا ظهرت حجته، ولم يجد من يروم دفْعَها طريقاً إلى دفْعِها؛ أعرض عنها، وأمسك عن ذكرها .. وتارة يلويها، ويحرفها"[1].
واللي هو التحريف، وهو نوعان: ليٌّ في اللفظ، وليٌّ في المعنى، والله ذكر اللي في غير هذا الموضع فقال: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ [سورة آل عمران:78] فاللي يكون بتحريف الألفاظ، ويكون بتحريف المعاني، ومنه سلام اليهود على النبي ﷺ كما قال تعالى: وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ [سورة المجادلة:8] فهذا من اللي حيث كانوا يوهمونه أنهم يقولون: السلام عليك وهم يقولون: السام عليك، يعنون الدعاء بالموت على النبي ﷺ.
وقوله تعالى: وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ [سورة النساء:135] تَلْوُواْ يعني تحرفوا، وتُعْرِضُواْ يعني بترك إقامة الشهادة.
وعلى القراءة الثانية تلوا من الولاية بمعنى أنكم تلوا الشهادة أي تتحملوها، لكن تتركون القيام بما وجب عليكم فيها، أَوْ تُعْرِضُواْ يعني عن توليها، والله أعلم.
"والإعراض هو كتمان الشهادة وتركها قال الله تعالى: وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [سورة البقرة:283]، وقال النبي ﷺ: خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها[2] ولهذا توعدهم الله بقوله: فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [سورة النساء:135] أي: وسيجازيكم بذلك".
  1. الرسالة التبوكية لابن القيم - رحمه الله - (ج 9 / ص 15).
  2. أخرجه مسلم في كتاب الأقضية - باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور (1719) (ج 3 / ص 1344).

مرات الإستماع: 0

"كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [النساء:135] أي مجتهدين في إقامة العدل."

القوامون جمع قوَّام، وهي صيغة مبالغة من قائم، وأصل هذه المادة كما مضى في الغريب تدل على مراعاة الشيء، وحفظه، القيام على الشيء يدل على مراعاته، وحفظه، وابن جرير - رحمه الله - يرى أيضًا أن هذه الآية تتصل بأولئك الذين سعوا في أمر بني أُبيرق، يرى أنها تتصل بهذا، والآية خطاب لأهل الإيمان عمومًا.

"شُهَدَاءَ لِلَّهِ [النساء:135] معناه لوجه الله، ولمرضاته."

يعني ليس رياءً، ولا سمعةً، ولا لطلب دنيا، فتكون الشهادة من أجل عرضٍ زائل، أو قصدٍ فاسد، أو محاباةٍ لأحد.

"وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ [النساء:135] يتعلق بشهداء، وشهادة الإنسان على نفسه هي إقراره بالحق."

إقراره بالحق يعني، ولو عاد ضررها عليكم، يكون أمر الإنسان لله لا يبالي، إذا كان أداء ذلك يعود عليه بالضرر فالحق حاكمٌ عليه، وعلى غيره، فهو يدور مع الحق، وتكون شهادته على نفسه بمعنى الإقرار على النفس؛ لأنها كالشهادة في كونه موجبًا إلزام الحق، يُلزم بما أقر به، كما يُلزم بمقتضى الشهادة لو شُهد عليه.

وبعضهم يقول: ولو كانت الشهادة، وبالاً على أنفسكم، وأقاربكم، فلا مجال لمحاباة القرابات، ومراعاة النفس، فيميل بشهادته بحسب ما يترتب عليها، هذا غير صحيح، وهذا يدل على كمال التجرد بطلب الحق، والقيام به في كل الأحوال سواء كان ذلك له، أو عليه، ولا يخفى وجه ارتباط هذا مع قوله في أولها: شُهَدَاءَ لِلَّهِ [النساء:135] فهذه الشهادة حينما تكون لله فمعنى ذلك أن صاحبها لا يبالي لو عاد ضرر هذه الشهادة عليه، هذه مراتب عالية يربي القرآن أهل الإيمان عليها، الإقرار اُعتُبر شهادة لقوله - تبارك، وتعالى -: سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [الزخرف:19] سمَّاها شهادة، لمّا قالوا: بأن الملائكة بنات الله، قال: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ [الزخرف:19] وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [الزخرف:19] مع أنهم ما تفوهوا بلفظ أشهد، ونحو ذلك، وليس هذا بالضرورة.

"وشهادة الإنسان على نفسه هي إقراره بالحق، ثم ذكر الوالدين، والأقربين، إذ هم مظنةٌ للتعصب، والميل: فإقامة الشهادة على الأجنبيين من باب أولى، وأحرى."

فلا حاجة لذكرهم غير الوالدين، والأقربين؛ لأن ذلك متحقق إذا كان الإنسان يشهد على نفسه، وعلى قرابته، ولا يبالي، فغير هؤلاء معلوم أنه سيشهد بالحق، ويقوم بالحق.

 

"إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا [النساء:135] جواب إِنْ محذوفٌ على الأظهر، أي إن يكن المشهود عليه غنيًا، فلا تمتنع من الشهادة تعظيما [وفي النسخة الخطية: فلا يمتنع من الشهادة تعظيمًا له] وإن كان فقيرا فلا تمتنع [وفي النسخة الخطية: فلا يمتنع] من الشهادة عليه إشفاقًا عليه، فإنّ الله أولى بالغني، والفقير، أي بالنظر إليهما [وفي النسخة الخطية: أي بالنظر لهما]."

إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [النساء:135] كما ذكر المؤلف - رحمه الله -: بأنه قد يحابي الغني فيشهد له، وقد يكون العكس، قد يقول: إن هذا الغني يتحمل ليس كالضعيف، والفقير، فيميل بالشهادة، فيُظلم محاباةً للفقير، وقد يكون ميله إلى الغني على حساب الفقير، فيظلم الفقير، ولا يؤدي هذه الشهادة؛ لأنه لا يبالي به، فسواء كان هذا، أو هذا، يعني قد يحابي الفقير على حساب الغني، قد يحابي الغني على حساب الفقير، فيُضيِّع حقه، وقد يكون محابيًا لهذا، وهذا، المقصود أن يكون دائرًا مع الحق في كل حالاته، لا تقل: هذا ضعيف هذا مسكين، أو هذا إنسان طيب، وهذا من أهل الخير، وهذا من أهل الصلاح، فيميل بالشهادة محاباةً له، فالعدل هو الأساس الذي يجب إقراره، والقيام به، والعمل على كل ما يُوصل إليه سواء كان ذلك من أصحابه، أو من قراباته، أو من عشيرته، أو غير ذلك، أو من أعدائه.

 

"فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135] أَنْ مفعولٌ من أجله، ويحتمل أن يكون المعنى من العدل، فالتقدير: إرادة أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135] بين الناس، أو من العدل [وفي النسخة الخطية: أو من العدول] فالتقدير: كراهة أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135] عن الحق."

فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى [النساء:135] مضى في الغريب: أن الهوى هو ميل النفس إلى مطالبها، ميل النفس إلى رغباتها، إلى شهواتها، ولذلك لا يكاد يُذكر في القرآن إلا مذمومًا، لكن في غير القرآن قد يأتي بمعنًى غير الذم، جاء عن ابن عباس - ا - ما يدل على أنه لا يُذكر إلا مذمومًا، لكن في غير القرآن على كل حال كما جاء عن عائشة - ا - لمّا قالت: "ما أرى ربك إلا يسارع في هواك"[1] ليس المقصود هنا الذم، وميل النفس إلى شهواتها، ورغباتها، وما إلى ذلك بإطلاق هكذا، ولو كانت مخالفةً لأمر الله وإنما فيما تميل إليه النفس من الحق مما هو حق، وليس بباطل في قول عائشة - ا - على كل حال فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى [النساء:135] تَجاري مع النفس، ورغباتها أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135] يقول: أَنْ مفعولٌ من أجله، ويحتمل أن يكون المعنى من العدل، والقسط، فالتقدير: إرادة أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135] بين الناس.

إذا كان المعنى من العدل الذي هو القسط - كما هو ظاهر - فالتقدير: إرادة أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135] بين الناس، أو فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى [النساء:135] كراهة أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135] بين الناس، وهذا قول البصريين، واختاره الحافظ ابن القيم - رحمه الله -[2].

فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى [النساء:135] كراهة أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135] وعلى الأول الذي ذكره ابن جُزي: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى [النساء:135] لأجل، أو إرادة أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135] يكون مفعولاً من أجله، لأجل أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135] إرادة أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135] بين الناس، لكن ما ذكره البصريون أوضح في المعنى - والله أعلم - فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135] كراهة أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135] لأنه حينما يتبع الهوى لا يكون طالبًا للعدل، وإنما يكون راغبًا عنه - والله أعلم -.يقول: أو من العدول، عدِّلوها عندكم مكتوب، أو من العدل، هو الأول من العدل، الاحتمال الأول أن يكون المعنى من العدل فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى [النساء:135] كراهة أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135] أن تقسطوا يعني، أو من العدول، هذا لا بد أن يُصحح، فالتقدير: كراهة، أو مخافة أن تعدلوا عن الحق، يعني أن تميلوا عن الحق، يعني فلا يحملنَّكم هوى الأنفس المعارض للحق على ترك الحق، فإنكم إن اتبعتم أهواءكم؛ عدلتم عن الصواب، ووقعتم في الظلم، واضح؟ فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135] كراهة أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135] لا يحملنكم ذلك على ترك العدل، يعني كراهة أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135] هذه الكراهة تكون من الله - تبارك، وتعالى -.

 

"وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا [النساء:135] قيل: إنّ الخطاب للحكَّام، وقيل للشهود، واللفظ عامٌ في الوجهين، والليّ: هو تحريف الكلام، أي تَلْوُوا [النساء:135] عن الحكَّام بالعدل، أو عن الشهادة بالحق، أو تعرضوا عن صاحب الحق، أو عن المشهود له بالحق، فإنّ الله يجازيكم فإنه خبير بما تعملون."

قوله: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا [النساء:135] قيل: إنّ الخطاب للحكام، وقيل: للشهود، واللفظ عامٌ في الوجهين وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا [النساء:135] يقول: والليّ: هو تحريف الكلام، أي تَلْوُوا [النساء:135] عن الحكم بالعدل.

هذا بالنسبة للحكام يعني القضاة، أو عن الشهادة بالحق، هذا بالنسبة للشهود، فهو يشمل هذا، أو هذا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا [النساء:135] عن صاحب الحق، أو عن المشهود له بالحق، فإنّ الله يجازيكم كل ذلك تلووا عن الحق، أو عن صاحبه، أو في الشهادة، أو عن الشهادة بالحق تعرضوا عنها، يعني كأن يقلب الشهادة تَلْوُوا [النساء:135] الشاهد حينما يلوي لسانه بالشهادة إلى غير الحق بالزيادة، أو التحريف، يميل إلى أحد الطرفين، وأصل الليّ: فتل الحبل، وإمالة الشيء، يعني من لويت فلانًا حقه ليًّا، يعني بمعنى دافعته، وماطلته، والمعنى: وَإِنْ تَلْوُوا [النساء:135] ألسنتكم عن شهادة الحق، وحكومة العدل، يعني إن تُحرفوا الشهادة، وتغيروها أَوْ تُعْرِضُوا [النساء:135] عنها بكتمانها، وتركها فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135] يعني ليكن قيامكم لله، ومن أجل إقامة الحق، فإن حصل منكم انحرافٌ عن ذلك في الشهادة، أو في الحكم فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135] وهذا تهديدٌ مُبطن، يعني لا يخفى عليه من ذلك شيء، وسيجازيكم عليه، الخبير هو الذي يعلم بواطن، وخفايا الأمور.

"وقُرئ: (وَإِنْ تَلُوُوا) بضم اللام من الولاية."

هذه قراءة ابن عامر، وحمزة، (تَلُوُوا) من الولاية، (تَلُوُوا) يعني تكونوا أصحاب ولاية، وهذا، واضح أنه خطاب للحكَّام، ولو حُملت القراءة الأولى وَإِنْ تَلْوُوا [النساء:135] من الميل، والليّ أن ذلك أقرب إلى الشهادة، وهذه (تَلُوُوا) يكون الأول خطاب للشهود في القراءة الأولى، والثاني خطاب للحكَّام، والقراءتان إذا كان لكل قراءة معنى هما بمنزلة الآيتين، وتكون إحداهما دلَّت على مخاطبة الشهود، وإن كان ذلك ليس بصريح في الاقتصار عليهم، فهي تحتمل الحكَّام أيضًا، لكن القراءة الثانية واضحة في مخاطبة الحكَّام (تَلُوُوا) لأنّ تَلْوُوا [النساء:135] يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ [آل عمران:78] يدل على التحريف، التغيير بطريقةٍ قد لا يشعر بها أحد.

"وقُرئ (وَإِنْ تَلُوُوا) بضم اللام من الولاية: أي إن، وُلِّيتم إقامة الشهادة، أو أعرضتم عنها."

(وَإِنْ تَلُوُوا أَوْ تُعْرِضُوا) عن إقامة الشهادة، لكن ممكن أن يكون (تَلُوُوا) يعني تكونوا أصحاب ولاية أَوْ تُعْرِضُوا [النساء:135] يعني وُلِّيتم الأمر، والإعراض عنها هو كتمان الشهادة، وتركها، هذا هو الإعراض عنها. 

  1. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: تُرْجِئُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ برقم (4788) وبرقم (5113) في كتاب النكاح، باب هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد، ومسلم، كتاب الرضاع، باب جواز هبتها نوبتها لضرتها، برقم (1464).
  2. الرسالة التبوكية (زاد المهاجر إلى ربه) (ص:31).