الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ ءَامِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلْكِتَٰبِ ٱلَّذِى نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَٱلْكِتَٰبِ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ مِن قَبْلُ ۚ وَمَن يَكْفُرْ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلًۢا بَعِيدًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا آمنوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا [سورة النساء:136].
يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الإيمان، وشعبه، وأركانه، ودعائمه، وليس هذا من باب تحصيل الحاصل بل من باب تكميل الكامل، وتقريره، وتثبيته، والاستمرار عليه".

فقوله - تبارك وتعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا آمنوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ [سورة النساء:136] هذا الأسلوب في الخطاب بعض أهل العلم يقولون فيه وفي نظائره: إن آمنوا هو بمعنى أثبتوا على إيمانكم، لكن هذا التفسير وحده لا يكفي، وأصل هذا الإشكال ومنشؤه أنه كيف خوطب أهل الإيمان بالإيمان، يعني كيف طولبوا بالإيمان؛ وهم قد حققوه؟
ومثل هذا الإشكال ورد في قوله تعالى: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] يعني كيف يطلبون الهداية إلى الصراط المستقيم وقد هداهم الله إلى الإسلام، والصراط المستقيم هو الإسلام؟
وحاصل الجواب عن هذا الإشكال هو أن من أهل العلم من يحمل آية النساء هنا على أنها لأهل التوراة، والإنجيل، - اليهود، والنصارى - كما ذهب إلى ذلك كبير المفسرين ابن جرير الطبري.
والمعنى يا أيها الذين آمنوا بالتوراة وبموسى - عليه الصلاة والسلام - آمنوا بمحمد ﷺ، ويا أيها الذين آمنوا بعيسى، وبالإنجيل؛ آمنوا بمحمد ﷺ، وما آتاه الله من الوحي، وهذا التفسير لا حاجة إليه؛ لأن الإيمان شعب، وكل ما فرضه الله ، وأنزله على رسوله ﷺ فهو إيمان جديد يتطلب من المؤمنين أن يدخلوا فيه، وأن يذعنوا له، ولذلك فإن النبي ﷺ لما أرسل معاذً إلى اليمن أمره أن يدعوهم أولاً إلى شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم إن أجابوه دعاهم إلى الصلاة، ثم إلى الزكاة وهكذا، وقد ذكر ابن عباس نحو هذا المعنى بقوله: إن أول ما خاطب الله به الناس الإيمان بوحدانيته - يعني شهادة إلا إله إلا الله -، فلما أذعنوا لذلك نزلت الصلاة، فلما أذعنوا بها زادهم إيماناً ففرض عليهم الزكاة، فلما أذعنوا بذلك زادهم إيماناً ففرض عليهم الصيام وهكذا، فهذا الأثر لابن عباس يبين هذا المعنى، وهو وإن لم يذكر في تفسير هذه الآية لكنه يوضحه.
فالإيمان شعب، وفرائض الإسلام تنزل على رسول الله ﷺ، وهم مطالبون بالإيمان بذلك كله، ثم إن الثبات على هذا الإيمان داخل في عموم هذا الخطاب، وجزء من هذا المعنى.
ويقال في قوله تعالى: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] أي أن يهديه إلى الصراط المستقيم بمعرفة تفاصيل الصراط - أي هداية العلم الصحيح -، ثم إذا عرف الحق فهو بحاجة إلى هداية العمل به، فإذا عمل به فهو بحاجة إلى هداية التثبيت، وأن يُختم له عليها، كما أنه بحاجة إلى هداية أخرى هي معرفة تفاضل الأعمال في الهدى إلى أفضلها، وأحسنها، وأكملها - أعني من غير الواجبات -، ثم هو بحاجة إلى هدايات أخرى بعد الموت مثل الهداية إلى الصراط، وعلى الصراط، وإلى الجنة، وإلى منزله في الجنة كما قال تعالى: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ۝ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ [سورة محمد:4-5] يعني من بعد ما قتلوا، إلا أن الهداية بعد الموت ليست داخلة في تفسير آية الفاتحة اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6].
"وليس هذا من باب تحصيل الحاصل بل من باب تكميل الكامل، وتقريره، وتثبيته، والاستمرار عليه".

كل هذا المعان جمعها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - ولم يقل بقول ابن جرير بل قال: إن ذلك من باب الثبات، والاستمرار، والتكميل، والتكميل معناه أن يؤمن بكل ما ينزل من شرائع الإسلام.
"كما يقول المؤمن في كل صلاة: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] أي: بَصِّرنا فيه، وزدنا هدى، وثبتنا عليه، فأمرهم بالإيمان به، وبرسوله كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمنوا بِرَسُولِهِ [سورة الحديد:28].
وقوله: وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ [سورة النساء:136] يعني القرآن، وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ [سورة النساء:136] وهذا جنس يشمل جميع الكتب المتقدمة.
وقال في القرآن: نَزَّلَ لأنه نزل مفرقاً منجماً على الوقائع بحسب ما يحتاج إليه العباد في معاشهم، ومعادهم، وأما الكتب المتقدمة فكانت تنزل جملة واحدة، ولهذا قال تعالى: وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ [سورة النساء:136]".

معلوم أن زيادة المبنى لزيادة المعنى، فقوله: نَزَّلَ تدل التنجيم أي أنه نزل منجماً، وهذه المعاني هي معاني تستنبط استنباطاً، وليست قاطعة في الدلالة على المعنى؛ لأنك إذا تتبعت نظائر هذا ستجد أشياء تخرج عنها.
وهذه الآية وردت فيها قراءة أخرى متواترة هكذا: والكتاب الذي نزَل - بتخفيف الزاي -، والقراءات تفسر بعضها بعضاً، ففي سورة الكهف يقول - تبارك وتعالى -: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [سورة الكهف:1].
" ثُمَّ قَالَ: وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا [سورة النساء:136] أي فقد خرج عن طريق الهدى، وبعُد عن القصد كل البعد".

مرات الإستماع: 0

"آمِنُوا بِاللَّهِ [النساء:136] الآية خطابٌ للمسلمين: معناه الأمر بأن يكون إيمانهم على الكمال بكل ما ذُكر، أو يكون أمرًا بالدوام على الإيمان، وقيل: خطابٌ لأهل الكتاب الذين آمنوا بالأنبياء المتقدّمين: معناه الأمر بأن يؤمنوا مع ذلك بمحمدٍ ﷺ وقيل: خطاب للمنافقين: معناه الأمر بأن يؤمنوا بألسنتهم، وقلوبهم."

هنا قوله - تبارك، وتعالى -: آمِنُوا بِاللَّهِ [النساء:136] الخطاب لأهل الإيمان يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ [النساء:136] فيقول: خطابٌ للمسلمين، وهذا هو اختيار الحافظ ابن كثير - رحمه الله -[1] وهو الأقرب بناءً على ظاهر الآية.

يقول: معناه الأمر بأن يكون إيمانهم على الكمال بكل ما ذُكر، أو يكون أمرًا بالدوام على الإيمان، هذه الآية هكذا يقول بعض أهل العلم: المقصود به الدوام باعتبار أنهم آمنوا آمِنُوا [النساء:136] ويمكن أن يُقال - والله تعالى أعلم -: بأن المعنى لا يقتصر على هذا، وذلك أن الإيمان يجب أن يكون بكل شرائع الإيمان، والإيمان بضعٌ، وسبعون شعبة: أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق[2] وشرائع الإيمان كانت تنزل على النبي ﷺ فأهل الإيمان مُطالبون بأن يؤمنوا بكل ما نزل من شرائعه، فحينما يقول لهم: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء:136] ونحو ذلك، فيدخل فيه كل شرائع الإيمان، فهو إيمانٌ يتلوه إيمان يتلوه إيمان، كما قال الله - عز، وجل - عن الصلاة إلى بيت المقدس: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] فسماها إيمانًا، فحينما يُفرض على الناس الصلاة فهذا إيمان، يجب عليهم أن يُقروا بذلك، ويصدقوا به، ويذعنوا له، وأن يمتثلوا، فهو إيمانٌ من جهة الاعتقاد، وإيمان من جهة العمل، والامتثال، فإذا فُرضت الزكاة كذلك، فإذا فُرض الصوم كذلك، فإذا فرض الحج كذلك، فُرض الجهاد كذلك، وهكذا، كل آيةٍ تنزل فهم مُطالبون بالإيمان بها، وكل خبرٍ عن الله فهم مُطالبون بالإيمان به، وتصديقه، ويدخل في ذلك الثبات، والدوام على الإيمان، الذين حملوه على أن ذلك في أهل الكتاب - أن الخطاب لأهل الكتاب - كأنهم نظروا إلى أمرين:

الأمر الأول: أن أهل الإيمان آمنوا، فكيف يُخاطبون بالدخول فيه؟

والأمر الثاني: أن الله - تبارك، وتعالى - قال: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء:136] فهذا إيمان، قالوا: كأن ذلك يُشعر بأن المُخاطب بذلك أهل الكتاب وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء:136] وليس بالضرورة، ومن قال: بأنها في المنافقين، كأنه أخذ من ذلك أولاً: من جهة الأمر بالإيمان: فهؤلاء آمنوا ظاهرًا، ولم يؤمنوا باطنًا، الأمر الآخر: الآية التي بعدها: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا [النساء:137] مثل هذا لا يكون من أهل الإيمان، وإنما يحصل ذلك من المنافقين سواءً كانوا من منافقي أهل الكتاب، أو من غيرهم، لكن لا حاجة لمثل هذا - والله أعلم - بحمل قوله - تعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:136] على أنها في أهل الكتاب، فهذا خلاف الظاهر المتبادر.

وكذلك لا حاجة لحملها على المنافقين؛ لأنها في المؤمنين، والمنافقون لا يُخاطبون بمثل هذا، أعني بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:136] - والله أعلم - لكن ابن جرير - رحمه الله - اختار أنها في أهل الكتاب الذين آمنوا بكتابهم[3] فطالبهم بالإيمان بالكتاب الذي نزَّله على رسوله ﷺ لكن المعنى الأول أظهر أنها في أهل الإيمان - والله أعلم - والقاعدة: أن مثل هذا الخطاب حينما يتوجه لمطالبتهم بالإيمان فعندنا قاعدة عامة في مثل هذه الخطابات، بصرف النظر عن المطالبة بالإيمان، لكن هذا مثال من أمثلة القاعدة، خطاب الشارع يتوجه إلى المكلفين بأمرٍ، وهم غير داخلين فيه، فهو مطالبةٌ للدخول فيه، مثل خطابات أهل الكتاب، مخاطبة أهل الكتاب بالإيمان بالنبي ﷺ يا أهل الكتاب، وإن كانوا داخلين فيه فذلك يكون بمعنى تكميله، وتتميمه، إذا كان داخلاً فيه فهذا مطالبةٌ له بتكميله، وتصحيحه، وتتميمه - والله أعلم - فلا إشكال بهذا الاعتبار.

  1. تفسير ابن كثير (2/434).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان، برقم (35).
  3. تفسير الطبري (5/633).