يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الإيمان، وشعبه، وأركانه، ودعائمه، وليس هذا من باب تحصيل الحاصل بل من باب تكميل الكامل، وتقريره، وتثبيته، والاستمرار عليه".
فقوله - تبارك وتعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا آمنوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ [سورة النساء:136] هذا الأسلوب في الخطاب بعض أهل العلم يقولون فيه وفي نظائره: إن آمنوا هو بمعنى أثبتوا على إيمانكم، لكن هذا التفسير وحده لا يكفي، وأصل هذا الإشكال ومنشؤه أنه كيف خوطب أهل الإيمان بالإيمان، يعني كيف طولبوا بالإيمان؛ وهم قد حققوه؟
ومثل هذا الإشكال ورد في قوله تعالى: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] يعني كيف يطلبون الهداية إلى الصراط المستقيم وقد هداهم الله إلى الإسلام، والصراط المستقيم هو الإسلام؟
وحاصل الجواب عن هذا الإشكال هو أن من أهل العلم من يحمل آية النساء هنا على أنها لأهل التوراة، والإنجيل، - اليهود، والنصارى - كما ذهب إلى ذلك كبير المفسرين ابن جرير الطبري.
والمعنى يا أيها الذين آمنوا بالتوراة وبموسى - عليه الصلاة والسلام - آمنوا بمحمد ﷺ، ويا أيها الذين آمنوا بعيسى، وبالإنجيل؛ آمنوا بمحمد ﷺ، وما آتاه الله من الوحي، وهذا التفسير لا حاجة إليه؛ لأن الإيمان شعب، وكل ما فرضه الله ، وأنزله على رسوله ﷺ فهو إيمان جديد يتطلب من المؤمنين أن يدخلوا فيه، وأن يذعنوا له، ولذلك فإن النبي ﷺ لما أرسل معاذً إلى اليمن أمره أن يدعوهم أولاً إلى شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم إن أجابوه دعاهم إلى الصلاة، ثم إلى الزكاة وهكذا، وقد ذكر ابن عباس نحو هذا المعنى بقوله: إن أول ما خاطب الله به الناس الإيمان بوحدانيته - يعني شهادة إلا إله إلا الله -، فلما أذعنوا لذلك نزلت الصلاة، فلما أذعنوا بها زادهم إيماناً ففرض عليهم الزكاة، فلما أذعنوا بذلك زادهم إيماناً ففرض عليهم الصيام وهكذا، فهذا الأثر لابن عباس يبين هذا المعنى، وهو وإن لم يذكر في تفسير هذه الآية لكنه يوضحه.
فالإيمان شعب، وفرائض الإسلام تنزل على رسول الله ﷺ، وهم مطالبون بالإيمان بذلك كله، ثم إن الثبات على هذا الإيمان داخل في عموم هذا الخطاب، وجزء من هذا المعنى.
ويقال في قوله تعالى: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] أي أن يهديه إلى الصراط المستقيم بمعرفة تفاصيل الصراط - أي هداية العلم الصحيح -، ثم إذا عرف الحق فهو بحاجة إلى هداية العمل به، فإذا عمل به فهو بحاجة إلى هداية التثبيت، وأن يُختم له عليها، كما أنه بحاجة إلى هداية أخرى هي معرفة تفاضل الأعمال في الهدى إلى أفضلها، وأحسنها، وأكملها - أعني من غير الواجبات -، ثم هو بحاجة إلى هدايات أخرى بعد الموت مثل الهداية إلى الصراط، وعلى الصراط، وإلى الجنة، وإلى منزله في الجنة كما قال تعالى: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ [سورة محمد:4-5] يعني من بعد ما قتلوا، إلا أن الهداية بعد الموت ليست داخلة في تفسير آية الفاتحة اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6].
كل هذا المعان جمعها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - ولم يقل بقول ابن جرير بل قال: إن ذلك من باب الثبات، والاستمرار، والتكميل، والتكميل معناه أن يؤمن بكل ما ينزل من شرائع الإسلام.
وقوله: وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ [سورة النساء:136] يعني القرآن، وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ [سورة النساء:136] وهذا جنس يشمل جميع الكتب المتقدمة.
وقال في القرآن: نَزَّلَ لأنه نزل مفرقاً منجماً على الوقائع بحسب ما يحتاج إليه العباد في معاشهم، ومعادهم، وأما الكتب المتقدمة فكانت تنزل جملة واحدة، ولهذا قال تعالى: وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ [سورة النساء:136]".
معلوم أن زيادة المبنى لزيادة المعنى، فقوله: نَزَّلَ تدل التنجيم أي أنه نزل منجماً، وهذه المعاني هي معاني تستنبط استنباطاً، وليست قاطعة في الدلالة على المعنى؛ لأنك إذا تتبعت نظائر هذا ستجد أشياء تخرج عنها.
وهذه الآية وردت فيها قراءة أخرى متواترة هكذا: والكتاب الذي نزَل - بتخفيف الزاي -، والقراءات تفسر بعضها بعضاً، ففي سورة الكهف يقول - تبارك وتعالى -: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [سورة الكهف:1].