الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ثُمَّ كَفَرُوا۟ ثُمَّ ءَامَنُوا۟ ثُمَّ كَفَرُوا۟ ثُمَّ ٱزْدَادُوا۟ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًۢا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

 
إِنَّ الَّذِينَ آمنوا ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمنوا ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً ۝ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ۝ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا ۝ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [سورة النساء:137-140].
يخبر تعالى عمن دخل في الإيمان ثم رجع عنه، ثم عاد فيه، ثم رجع واستمر على ضلاله وازداد حتى مات".

هذا المعنى هو الذي يظهر في تفسير الآية أي أنها في من آمن ثم كفر، ولا حاجة للتكلف في حملها على اليهود، والنصارى؛ حيث قال بعض أهل العلم: إنها نزلت في اليهود، والنصارى، وذلك أن اليهود آمنوا بموسى ﷺ ثم كفروا بعبادتهم العجل، ثم بعد ذلك آمنوا ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفراً بمحمد ﷺ فهذا واقع متحقق فيه، لكن الآية لا تختص بهم، بل كل من يقع بمثل هذا ممن ينتسب إلى الإسلام ومن غيره.
كذلك يقولون: النصارى آمنوا بعيسى، ثم بعد ذلك كفروا به، وادَّعوا أنه ثالث ثلاثة ... إلى آخره أو قالوا: آمنوا بموسى، ثم جاء عيسى ﷺ فآمنوا به، ثم كفروا بقولهم: إنه ثالث ثلاثة، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد ﷺ.
وبعضهم يقول: أي اليهود آمنوا بموسى، ثم كفروا بالعُزير، ثم آمنوا به، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفراً بمحمد ﷺ.
وبعضهم يقول: إنها في الطائفتين يعني أن قوله: الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ أي اليهود آمنوا بموسى، ثم كفروا بعيسى، وهذا قول لقتادة، وقوله: ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ أي أن هذه في النصارى، وقوله: ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا أي ازدادوا كفراً - اليهود، والنصارى جميعاً - بكفرهم بمحمد ﷺ، وهذا التفسير فيه بعد.
وابن جرير - رحمه الله - يحمل الآية على أهل الكتاب الذين آمنوا بالتوراة، ثم كذبوا بخلافهم إياها في الإنجيل، ثم ازدادوا كفراً بمحمد ﷺ.
وعلى كل حال فالآية تشمل هذا وغيره ممن وقع في مثل ذلك بأن آمن ثم كفر، ثم آمن ثم كفر، وقد أخبر النبي ﷺ أن في آخر الزمان - أيام الفتن - يصبح الرجل مؤمناً ثم يمسي كافراً، ثم يصبح كافراً ويمسي مؤمناً، فمثل هؤلاء الذين يتقلبون يدخلون في هذه الآية.
يقول الله : لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً [سورة النساء:137] بعض أهل العلم يقولون: هذا في من مات منهم على الكفر، وإلا فإن من تاب تاب الله عليه، ومنهم من يقول: إن مثل هؤلاء الذين يؤمنون ثم يكفرون، ثم يؤمنون ثم يكفرون؛ لا يوفقون إلى التوبة، ولا يهديهم الله ، بل يطبع على قلوبهم فيضلون.
"ثم رجع واستمر على ضلاله، وازداد حتى مات؛ فإنه لا توبة بعد موته، ولا يغفر الله له، ولا يجعل له مما هو فيه فرجاً، ولا مخرجاً، ولا طريقاً إلى الهدى ولهذا قال: لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً [سورة النساء:137].
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس - ا - في قوله تعالى: ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا [سورة آل عمران:90] قال: تَمَّمُوا على كفرهم حتى ماتوا، وكذا قال مجاهد".

مرات الإستماع: 0

"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [النساء:137] الآية، قيل: هي في المنافقين لتردّدهم بين الإيمان، والكفر، وقيل: في اليهود، والنصارى؛ لأنهم آمنوا بأنبيائهم، وكفروا بمحمد ﷺ والأوّل أرجح؛ لأنّ الكلام هنا فيهم، والأظهر أنها فيمن آمن بمحمدٍ ﷺ ثم ارتدّ، ثم عاد إلى الإيمان، ثم ارتدّ، وازداد كفرا."

يعني حتى مات، فبهذا الاعتبار لا يكون له توبة بعد موته كما قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -[1] فهؤلاء تمادوا في الكفر حتى الموت، وإلا فمعلوم أن التوبة بابها مفتوح ما لم تطلع الشمس من مغربها، وما لم يغرغر الإنسان، فهؤلاء قال الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً [النساء:137] معنى ذلك إذا ماتوا، تمادوا حتى الموت، وإلا فمن تاب تاب الله عليه، وما ذُكر من أن الآية في المنافقين يمكن أن يكون القرينة الدالة على ذلك هي قوله بعده: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:138] فيكون ذلك في الوعيد للمنافقين.

وقد ذهب جماعة من السلف كقتادة، ذهب بعض السلف إلى أنها في اليهود، والنصارى كما أشار ابن جُزي - رحمه الله - فاليهود آمنوا بالتوراة، ثم كفروا، ثم ذكر النصارى فهؤلاء ازدادوا كفرًا بمحمدٍ ﷺ وحملها ابن جرير - رحمه الله - على أهل الكتاب الذين آمنوا بالتوراة، ثم كذَّبوا بخلافهم إياها[2] يعني كفروا، تلكؤ هؤلاء في الاستجابة، والقبول، والمخالفة، والتبديل، فوقع منهم كفرٌ بكتابهم، وكذلك أيضًا وقع منهم كفرٌ آخر بالتكذيب بالإنجيل ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا [النساء:137] بكفرهم بالنبي ﷺ وبالكتاب الذي أُنزل عليه، وبعضهم يقول: نزلت في اليهود آمنوا بموسى، ثم كفروا بعزير، ثم آمنوا به، وكفروا بعيسى - عليه الصلاة، والسلام - ثم ازدادوا كفرًا بكفرهم بمحمدٍ ﷺ وبعضهم يقول في وجه ذلك: أنهم آمنوا بموسى، ثم كفروا بعبادتهم للعجل، ثم آمنوا بعده، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفرًا بمحمدٍ ﷺ على كل حال كأن السياق - والله أعلم - في المنافقين إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ [النساء:137] فمن وقع له شيءٌ من ذلك ممن ينتسب إلى هذه الأمة فهو داخلٌ في ذلك قطعًا، وأهل الكتاب الذين وقع منهم هذه الأنواع من الكفر تشملهم هذه الآية - والله تعالى أعلم - لكن الأقرب - والله أعلم - فيما يظهر باعتبار ما قبلها يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا [النساء:136] ثم توعد من آمن، ثم كفر، ثم آمن، ثم كفر، فالآية الأولى - كما ذكرت - بأنها مطالبة لهم بالثبات على الإيمان، وتكميل شرائعه، ثم توعَّد من يكون على خلاف هذه الصفة، فكون ذلك فيمن ينتسب إلى هذه الأمة أولى - والله تعالى أعلم -. 

والذين يكونون بهذه المثابة لا شك أنهم أهل نفاق، لكن لو وقع ذلك من غيرهم هذا الذي يؤمن، ثم يكفر، ثم يؤمن، ثم يكفر هذا الذي يحصل منه هذا عادةً هو المنافق الذي يتلون، في الضحى على حال، وفي الظهر - نسأل الله العافية - على حال، وفي العصر على حال، وفي المغرب على حال، ويبيت على حالٍ، ويتقلب على أحوال، فهذا هو المنافق، لا مذهب، ولا دين، ولا مبدأ - والله أعلم -.

"لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ [النساء:137] ذلك فيمن علم الله أنه يموت على كفره، وقد يكون إضلالهم عقابًا لهم بسوء أفعالهم."

إذا حُملت على ما سبق لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ [النساء:137] أنهم ماتوا على ذلك، تمادوا حتى الموت كما قال ابن كثير[3] فهذا هو الموافق لما جاء في النصوص من كون الله يقبل التوبة عن عباده. 

  1. تفسير ابن كثير (2/434).
  2. تفسير الطبري (7/599).
  3. انظر: تفسير ابن كثير (2/434).