السبت 17 / ذو الحجة / 1446 - 14 / يونيو 2025
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلْكَٰفِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا۟ لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَٰنًا مُّبِينًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا ۝ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ۝ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ۝ مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [سورة النساء:144-147].
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين يعني مصاحبتهم، ومصادقتهم، ومناصحتهم، وإسرار المودة إليهم، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم كما قال تعالى: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ [سورة آل عمران:28] أي: يحذركم عقوبته في ارتكابكم نهيه، ولهذا قال هاهنا: أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا [سورة النساء:144] أي: حجة عليكم في عقوبته إياكم.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس - ا - قوله: سُلْطَانًا مُّبِينًا كل سلطان في القرآن حجة، وهذا إسناد صحيح، وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبي، ومحمد بن كعب القُرَظي، والضحاك، والسدي، والنضر بن عَرَبي".

فهذه الأمور التي ذكرها الحافظ بن كثير - رحمه الله - في الموالاة من المناصحة، والمصادقة، والمصاحبة، وإسرار المودة؛ هي بعض أنواع المولاة، ولكن ذلك لا يختص بها، ولا يقتصر عليها، بل تكون المولاة أحياناً بالقلب، ولو لم يصدر قول، ولا عمل، فتارة يميل إليهم بقلبه، ويحبهم، ويقدمهم على المسلمين مثلاً، أو يتمنى ظهورهم، ونصرهم، وعلوهم وما إلى ذلك من الأمور، وتارة تكون الموالاة بالقول إلا ألا تكون على وجه المصانعة كما في قوله - تبارك وتعالى -: إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً [سورة آل عمران:28] يعني إذا احتاج إلى المداراة فلا بأس.
وأحياناً تكون الموالاة بالفعل كالذي يعينهم على المسلمين وما أشبه ذلك من صور الموالاة، وهذه الصورة الأخيرة هي من أقبح الصور.
ومفهوم المخالفة في قوله تعالى: مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ لا يحتج به في هذا الموضع، فهذا أحد المواضع التي لا يعتبر فيها مفهوم المخالفة، وقد ذكرنا مراراً أن مفهوم المخالفة حجة عند الجمهور، وقلنا: إن الكلام ينقسم إلى منطوق ومفهوم، والمنطوق هو ما دلَّ عليه اللفظ في محل النطق، والمسكوت هو ما دلَّ عليه لا في محل النطق بل من جهة السكوت، وهو ينقسم إلى مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة، وكلاهما حجة أي: يُحتج بهما في الأحكام، ومعنى مفهوم المخالفة أن يكون حكم المسكوت عنه مخالفاً لحكم المنطوق به.
ومن الأمثلة البسيطة على مفهوم المخالفة أنك إذا قلت لإنسان: أعط هذه الصدقة للفقراء فكأنك قلت له: لا تعطها للأغنياء، مع أنك لم تتلفظ بذلك، لكنه عُرف من جهة مفهوم المخالفة، وهو المعنى المسكوت عنه.
ومع أن مفهوم المخالفة حجة إلا أنه غير معتبر هنا؛ لأن مفهوم المخالفة حجة إلا في حالات مستثناة ومنها:
أن يكون اللفظ المنطوق به روعي فيه الحال الغالبة في الوقوع بمعنى أنه خرج مخرج الغالب، أي: أن الحكم جيء به مراعىً فيه حال كثيرة الوقوع، أو نزل في واقعة معينة، ومنها هذه الآية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة النساء:144] فلو قال قائل: أنا أريد أن أتخذ الكافرين أولياء مع المؤمنين فإن ذلك لا يجوز بحال لا من دون المؤمنين، ولا مع المؤمنين، لكن هذا الآية جاءت بهذا السياق لأنها نزلت على واقع معين حيث إن مجموعة من الناس اتخذوا بعض الكافرين أولياء من دون المؤمنين، فجاء النهي عن ذلك، وإلا فالموالاة منهي عنها بإطلاق كما قال الله : وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [سورة النور:33] فهذه الآية نزلت؛ لأن عبد الله بن أبي كان يكره جاريتين عنده على الزنا بأجرة، وكنَّ يأبين ذلك، فأنزل الله هذه الآية، فلو أن الجواري كنَّ يردن الزنا فلا يعني ذلك أنه يجوز له أن يمكنهن من ذلك، لذلك فقوله: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا نزلت تحكي واقعاً معيناً، فهو أحد المواضع التي لا يحتج بمفهوم المخالفة فيه كما قال في المراقي:
كذا دليل للخطاب انضافا ودع إذا الساكت عنه خافا
أو جهل الحكم أو النطق انجلب للسؤل أو جرى على الذي غلب
أو امتنان أو وفاق الواقع والجهلِ والتأكيد عند السامع
وهذا الموضع من سورة النساء هو من وفاق الواقع أي أن هذا الخطاب جاء وفق واقعٍ معين، لذلك لا يجوز لأحد أن يتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ولا مع المؤمنين.
يقول تعالى: أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا [سورة النساء:144] قال ابن كثير: "أي: حجة عليكم في عقوبته إياكم" وذكر الأثر عن ابن عباس أنه قال: "كل سلطان في القرآن حجة" وهذا هو الذي يقال له الكليات في القرآن، أعني الأشياء المبدوءة بـ"كل" يقال: كل كذا في القرآن فهو كذا، وهذه قضايا تحتاج إلى استقراء، يعني لو حتى صح عن الواحد من السلف مثل هذا فلا يعني أنه مسلم في كل المواضع، لأنك لو نظرت وتتبعت لفظة سلطان في القرآن، ونظرت إلى أقوال السلف فيها؛ تجدهم يختلفون في بعضها فمثلاً قوله تعالى: وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ [سورة الإسراء:33] فما معنى السلطان في الآية؟ كثير من أهل العلم يقولون: السلطان هنا هو القصاص، والقرينة المرجحة لهذا المعنى موجودة في الآية وهي قوله: فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ [سورة الإسراء:33] لكن الأقرب من هذا أن يقال: إن المراد بالسلطان أنه مخيَّرٌ بإحدى ثلاث: إما القصاص، أو الدية، أو العفو مجاناً، فإن اختار القصاص فقد أرشده الله بقوله: فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ [سورة الإسراء:33].
وإذا أردنا أن نفسر الآية تفسيراً يجمع ذلك كله فيمكن أن نقول: إن الله جعل لولي الدم تسلطاً على القاتل بأن جعل له إليه سبيلاً وحجة: إن شاء أن يقتص، وإن شاء أن يأخذ الدية، وإن شاء أن يعفوَ مجاناً، بهذه الطريقة يمكن الجمع بين الأقوال، وإن كان هذا لا يقول به كل أهل العلم، وعلى كل حال فقول ابن عباس - ا -: "كل سلطان في القرآن حجة" يحتاج إلى استقراء، ونظر في كل المواضع، مع ما قال أهل العلم في ذلك - والله أعلم -.

مرات الإستماع: 0

"سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:144] أي: حجةً ظاهرة."

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:144] يعني حجة ظاهرة، وقد جاء عن جماعة من السلف: كابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جُبير، ومحمد بن كعب القُرظي، والضحَّاك، والسُدي، أن كل سبيل في القرآن فهو حجة[1] لكن قد لا يكون هذا على إطلاقه، كما في قوله في الآية التي سبقت: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141] إلا عند من حملها على الحجة، لكن إذا قلنا: لا سبيل لهم عليهم أيضًا بقهرهم، وغلبتهم بميدان المعركة فلا يكون هنا بمعنى الحجة.

وقوله - تبارك، وتعالى - في القتيل: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ [الإسراء:33] ما المراد بالسلطان؟ قيل: الحجة، وابن كثير - رحمه الله - فسره بمعنى أدق من هذا: تسلط عليه شرعًا، وقدرًا[2] فشرعًا هذا بتسليط الشرع عليه بأن يُقاد منه، وقدرًا بأن يتمكن، فهذا الحجة بعضه على هذا المعنى[3] يعني من ذلك الحجة سلطانا.

  1. تفسير ابن كثير (2/441).
  2. انظر: المصدر السابق (2/437).
  3.  [mk1]تراجع من الأصل يبدو أن فيها سقط