الثلاثاء 17 / صفر / 1447 - 12 / أغسطس 2025
لَّا يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوٓءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

 
لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ۝ إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [سورة النساء:148-149].
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - في الآية: لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ يقول: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوماً فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله: إِلاَّ مَن ظُلِمَ [سورة النساء:148]، وإن صبر فهو خير له.
وقال الحسن البصري: لا يدعو عليه وليقل: اللهم أعني عليه، واستخرج حقي منه، وفي رواية عنه قال: قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه من غير أن يعتدي عليه".

قوله تعالى: لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ [سورة النساء:148] فسر بالدعاء عليه لكن يشكل على هذا المعنى أن الدعاء قد لا يكون من الجهر بالسوء وذلك أنه قد يدعو عليه فيما بينه وبين الله - تبارك وتعالى - ولا يكون جاهراً بذلك، ولذلك فسره بعض أهل العلم - ولعله تفسيرُ قريب - بأن يتكلم المظلوم فيقول: فلان ظلمني كما قال النبي ﷺ: لي الواجد يحل عرضه، وعقوبته[1] طيعاً إلا أن يكون والداً فليس له ذلك؛ لقول النبي ﷺ: أنت ومالك لأبيك[2] - والله تعالى أعلم -.
ومعنى يُحل عرضه أي بأن يقول: فلان مطلني، ويؤيد ذلك أن النبي ﷺ أرشد  الرجل الذي كان يؤذيه جاره بأن يُخرج متاعه إلى الشارع، فكان كلما مرَّ به أحد قال له: جاري ظلمني، وأساء في جواري؛ فكان الناس يدعون عليه، فجاءه جاره، وطلب منه أن يرجع إلى بيته.
فالمقصود أن مثل هذا الأمر يجوز في حق الإنسان المظلوم، لكن ليس له أن يتوسع في عرضه، بل يتكلم بقدر مظلمته فقط، وليس معنى ذلك أنه يتكلم عليه، ويقول مثلاً: وإنه ليتخلف عن صلاة الفجر، وله  مواقف ريب فقد رأيته في السوق يفعل كذا، وأحياناً يدخل عليه نساء، ونحو ذلك؛ فهذا لا يجوز أن يتكلم به عليه؛ لأن هذه الأمور ليست لها علاقة بالظلم الواقع به، فليتكلم بالقدر الذي حصل فيه الظلم؛ لأن الأعراض محرمة، فالأصل فيها التحريم كما قال النبي ﷺ: إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم؛ عليكم حرام[3].
يقول الحسن - رحمه الله -: "لا يدعو عليه، وليقل: اللهم أعني عليه، واستخرج حقي منه" يعني يكتفي بهذا مخافة أن يظلمه في الدعاء، لكن لا بأس أن يدعو عليه بقدر المظلمة، ومن أسلم ذلك أن يقول: اللهم جازه بما يستحق، أو وجازه على عمله هذا، أو نحو ذلك؛ لأن الإنسان - كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - قد يدعو على ظالمه فيكون ظالماً بهذا الدعاء، وذلك بأن يدعو عليه بأكثر من المظلمة، وذلك أن بعضهم إذا سُرق عليه جوال - مثلاً - وجدته يدعو على السارق بتيتيم أطفاله، وترميل نسائه، وأن يأخذ سمعه، وبصره، وأن يشل أركانه، ويجعله يتمنى الموت ولا يجده، ودعا الله أن يُجمِّد الدم في عروقه، وأن يلعنه لعناً يدخل معه إلى قبره!! فهذا لا يجوز لأنه ظلم واعتداء في الدعاء، وإنما يقول: اللهم خذ حقي منه، أو اللهم جازه بما يستحق على ظلمه لي أو نحو ذلك.
"وقال عبد الكريم بن مالك الجَزَريّ في هذه الآية: هو الرجل يشتمك فتشتمه، ولكن إن افترى عليك فلا تفترِ عليه؛ لقوله: وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ [سورة الشورى:41].
وروى أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: المُسْتَبَّانِ ما قالا فعلى البادئ منهما؛ ما لم يعتد المظلوم[4]".

والخلاصة أن من أهل العلم من يقول: هو الدعاء، ومنهم من يقول: أن يذكره بهذا الظلم عند الناس، وحمله ابن جرير - رحمه الله - على الدعاء، وعلى أن يذكره به عند الناس، وبهذا يكون قد جمع بين المعنيين، وهذا جيد، لكن إذا دعا عليه فلا يزيد على قدر المظلمة، وإذا تكلم عند الناس فلا يتكلم إلا بما وقع له من ظلم دون التعرض لما فيه من المعايب التي لا صلة لها بالظلم الواقع عليه كما سبق، والله أعلم.
  1. أخرجه أبو داود في كتاب الأقضية -  باب في الحبس في الدين وغيره (3630) (ج 3 / ص 349) والنسائي في كتاب البيوع - باب مطل الغني (4689) (ج 7 / ص 316) وابن ماجه في كتاب الصدقات - باب الحبس في الدين والملازمة (2427) (ج 2 / ص 811) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (2919).
  2. أخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات - باب ما للرجل من مال ولده (2291) (ج 2 / ص 769) وصححه الألباني في الإرواء برقم (838).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الحج - باب الخطبة أيام منى (1652) (ج 2 / ص 619) ومسلم في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (1679) (ج 3 / ص 1305).
  4. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب النهي عن السباب (2587) (ج 4 / ص 2000).

مرات الإستماع: 0

"إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148] أي: إلّا جهر المظلوم، فيجوز له من الجهر أن يدعو على من ظلمه، وقيل: أن يذكر ما فُعل به من الظلم، وقيل: أن يرد عليه بمثل مظلمته إن كان شتمه." 

 

فقوله - تبارك، وتعالى -: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148] يقول: إلّا جهر المظلوم، فيجوز له من الجهر أن يدعو على من ظلمه، هذا جاء عن ابن عباس، والحسن البصري [1].

وقيل: أن يذكر ما فُعل به من الظلم، وهذان القولان: سواءً بالدعاء عليه، أو بذكره هذا يرجع إلى الجهر لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148] يعني سواءً كان بالدعاء عليه، أو بذكر ظلمه له، لكن عندما يُفسر بالدعاء فقد لا يكون الدعاء جهرًا، فالدعاء أعم من هذا يدعو على من ظلمه الْجَهْرَ بِالسُّوءِ [النساء:148] قد يدعو سرًا، وهذا هو الغالب، ولهذا كان تفسيره: أن يذكر ما فُعل به من الظلم، أن هذا كأنه أوفق - والله أعلم - وأقرب لظاهر اللفظ، يذكر ذلك يتحدث عن الناس، فالله لا يحب الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم، هذا كأنه أقرب، والدعاء عليه جهرًا يدخل في ذلك، لكن بقدر مظلمته؛ لأنه كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: أن المظلوم قد يكون ظالمًا بالدعاء إذا تجاوز[2] يعني يُظلم مظلمة - مظلمة قد تكون يسيرة - فيدعو على ظالمه بالهلاك، والبوار، والدمار، والموت، والاستئصال، ويُتم الأطفال، وترميل النساء، وما إلى ذلك، أن يتمنى الموت، ولا يجده، ونحو هذا، على كلمة أخطأ في حقه، أو اقتطع حقًا له، لا يصل إلى هذا فيدعو عليه بمثل هذا الدعاء، فيكون ظالمًا بدعائه، يتجاوز الحد، ويظلم من ظلمه، ولهذا إذا أراد أن يدعو فإنه مثلاً يقول: اللهم جازه بما يستحق، عامله بما يستحق، اقتص لي منه، ونحو ذلك؛ لئلا يتجاوز في هذا الدعاء.

وقيل: أن يرد عليه بمثل مظلمته إن كان شتمه، قيده هنا إن كان شتمه، هذا نُقل عن بعض السلف كعبد الكريم بن مالك الجزري، لكن إن كان شتمه باعتبار أن القضية تتصل بالجهر، فالشتم قول، فيشتم مثلاً من شتمه فيكون قد جهر، يعني يرد عليه بمثل المظلمة إن كان شتمه، يعني في الأشياء التي تتصل بالقول بالكلام؛ لأن ذلك مما يتعلق بالجهر، لكنّه في الواقع لا يختص بذلك، وإنما يكون سواء بالظلم الواقع عليه من جهة القول، أو الفعل، فقد لا يرد عليه بمثل ذلك أن يشتمه، لو قذف عرضه فهل يقذف عرضه؟

الجواب: لا، إذا لعنه فلا يلعنه، لكنّه يمكن أن يتحدث بقدر ذلك، يعني لا يتحدث عن الأمور الأخرى من نقائصه، وجرائره، وما إلى ذلك في حق غيره، كأن يقول: فلان يزني، ويفجر، أو صاحب رِيب، أو إنسان صاحب أخلاق سيئة، وأعمال سيئة، لا، إنما يتحدث عن مظلمته فقط، فيقول: فلان ظلمني، أخذ حقي، قال فيَّ كذا، وكذا، أساء إليّ، أساء الأدب معي، اجترأ عليّ، تطاول عليّ، ونحو ذلك، بمظلمته فقط لا يستبيح عِرضه، بقدر مظلمته.

وهذا فيه تعليم من الشارع لمعنى كبير، وهو أن يكون المجتمع، والألسن نظيفة من قالة السوء، فكيف بالذي يتحدث، وهو لم يُظلم؟ يتكلم في أعراض الناس، وينشر قالة السوء، ويصف الناس بالأوصاف السيئة القبيحة سواءً كانت فيهم، أو لم تكن فيهم، إذا كانت ليست فيهم فهذا أعظم، هذا من البهتان، فنشر قالة السوء أمرٌ مرفوض شرعًا، فهنا: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148] فكيف الذي يجهر، وهو لم يُظلم بأي دعوى كانت، فإذا كان ذلك في أعراض أهل الخير، والصلاح، أهل العلم، الدعاة إلى الله فهذا أشد، وأعظم، ممن ليس له قوت يقتات به إلى الآخرة إلا الوقيعة في الأعراض فبئس ما صنع، بئس الزاد إلى المعاد أعراض العباد.

فمن ظُلم يرخَّص له بقدر مظلمته، وأما من كان بخلاف ذلك فلا يجوز له أن يجهر بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ [النساء:148] وفي كثيرٍ مما يتداوله الناس مما هو مكتوب، أو مسموع الواقع أنه نشرٌ لقالة السوء، بل نشرٌ للباطل، والمنكر، مثل ما ذكرنا في الاستهزاء بآيات الله مثلاً عندما يُنشر هذا على أوسع نطاق، يهون أثر ذلك، يخف على الأسماع، ومن، ثم تألفه القلوب، فلا يوجد فيها تلك الشفافية، وتنقبض منه، ويجترئ سفهاء على مثل ذلك، ويتتابعون، إلى غير هذا من المفاسد، نشر مثل ذلك، وإذاعته أمرٌ غير جيد.

  1. تفسير ابن كثير (2/442 - 443).
  2. مجموع الفتاوى (20/80).