الأحد 06 / ذو القعدة / 1446 - 04 / مايو 2025
فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَٰقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَقَتْلِهِمُ ٱلْأَنۢبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌۢ ۚ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ۝ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ۝ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ۝ بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ۝ وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [سورة النساء:155-159].
وهذه من الذنوب التي ارتكبوها مما أوجب لعنتهم، وطردهم، وإبعادهم عن الهدى، وهو نقضهم المواثيق، والعهود التي أُخذت عليهم، وكفرهم بآيات الله أي حججه، وبراهينه، والمعجزات التي شاهدوها على أيدي الأنبياء - عليهم السلام -".
 
في قوله: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ الآية [سورة النساء:155] أين جواب هذا الكلام؟
من أهل العلم من يقول: إن الباء في قوله: فَبِمَا نَقْضِهِم متعلقة بمحذوف أي: فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم يعني فبما نقضهم ميثاقهم، وكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وقولهم قلوبنا غلف وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا [سورة النساء:156] - إلى آخر ما ذكر الله من مخازيهم - لعناهم يعني بسبب هذه الأفعال وقع عليهم لعن الله - تبارك وتعالى -.
وبعضهم يقول: إنه متعلق بما قبله، أي أنه تفسير لما سبق في الآية السابقة فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ [سورة النساء:153] وما هذا الظلم؟ فسره بما بعده وهو اتخاذ العجل، وكذلك ما حصل منهم من الاعتداء في السبت، ونقض الميثاق، وكفرهم بآيات الله وما أشبه ذلك، فهذا تفسير لهذا الظلم، وهذا تحتمله الآية احتمالاً ليس بالقوي ولكن ذكره بعض أئمة اللغة كالكسائي مع أن كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - رد هذا القول، واستبعده نظراً لما ورد في ثنايا هذه الآيات؛ لأن الله ذكر فيها قتلهم الأنبياء، وذكر بهتانهم لمريم، وقولهم على عيسى - عليه الصلاة والسلام - ما ينزه عنه، وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله إلى آخر ما ذكر، وهذه الأمور وقعت بعد الصاعقة؛ لأن الصاعقة كانت في زمن موسى ﷺ، ورميهم لمريم بالبهتان، وقولهم عن عيسى ﷺ ما قالوا؛ كان هذا بعده بمدة طويلة فليس هو سبب أخذ الصاعقة، ومن يقول بهذا القول لا يخفى عليه مثل هذا الإيراد، ولكنهم يقولون ذكر الله أن الصاعقة أخذتهم بظلمهم، وذكر الاعتداء في السبت، ونقض الميثاق وما أشبه ذلك مما وقع في زمن موسى ﷺ، ثم ذكر الباقي على سبيل الاستطراد في ذكر صفاتهم السيئة، وهذا احتمال تحتمله الآية، والله تعالى أعلم.
وبعضهم يقول: إن الجزاء أنه حرم عليهم طيبات أحلت لهم هكذا فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء [سورة النساء:155] إلى آخر ما ذكر ثم قال: حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [سورة النساء:160] يعني بسبب ما وقع منهم من نقض الميثاق - إلى آخر ما ذكر - حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم، وبعضهم يقول: فبما نقضهم ميثاقهم طبع الله على قلوبهم، وبعضهم يقول: فبما نقضهم ميثاقهم - إلى آخر ما ذكر - لا يؤمنون إلا قليلاً حيث ختم الآية بقوله: بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [سورة النساء:155] فيقولون: إن الفاء مقحمة في قوله: فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً وإن المراد أن هذا هو الجزاء الذي رتبه على هذا أفعالهم السيئة التي ذكرها.
وعلى كل حال فالعرب تحذف مثل هذا في الكلام وثوقاً بفهم المخاطب، أي أن الله عاقبهم بما عاقبهم به من ألوان العقوبات من لعن، وختم على قلوبهم وما أشبه ذلك بسبب هذه الجرائم العظام، فيذهب ذهن السامع في مثل هذا إلى عقوبة الله التي ذكرها في ثنايا هذه الآيات وفي غيرها، وكل ذلك عدلٌ منه فالله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون، والله تعالى أعلم.
"قوله: وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ [سورة النساء:155] وذلك لكثرة إجرامهم، واجترائهم على أنبياء الله، فإنهم قتلوا جمّا غفيرًا من الأنبياء - عليهم السلام -".

فيقول - تبارك وتعالى -: وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ [سورة النساء:155] هذا القيد وأمثاله "بغير حق" إنما جرى لإيضاح الواقع، فذلك من الصفات الكاشفة وإلا فإن قتل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لا يكون بحق بحال من الأحوال.
فهذا ونظراؤه في القرآن كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة آل عمران:21] وما شابه ذلك هذا كله ذكر فيه هذا القيد "بغير حق" لبيان الحال الواقع فيها من الصفات الكاشفة وليست مقيدة، وإنما تكون مقيدة إذا كان ذلك يقع بحقٍ وبغير حق.
ومن الأمثلة على ما ذكرنا قوله تعالى: وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [سورة المؤمنون:117] فهل يمكن أن يدعو أحد من دون الله إلهاً له فيه برهان؟ يعني هل يمكن أن نقول: إن مثل هذا له مفهوم مخالفة معتبرة، يعني لو أن أحداً قال: مفهوم المخالفة من الآية السابقة أنهم إذا قتلوا النبيين بحق فلا إشكال، فهل هذا القول معتبر؟
أبداً لا أحد يقتل النبيين بحق، ولا أحد يدعو مع الله إلهاً آخر له به برهان، فهذه الآيات هي كقوله - تبارك وتعالى -: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [سورة الأنعام:38] والمقصود أن كل هذه القيود هي من الصفات الكاشفة أي التي تكشف وتوضح حقيقة الأمر، وجليته؛ لا أنها تزيد قيداً يخرج الصور الأخرى، وإن كان الأصل في الصفات أنها مقيِّدة، بمعنى أنه كلما زادت الأوصاف زادت القيود، فلو قلت مثلاً: أريد أن اشتري بهذه الدراهم كتاباً ثم قلت: عربياً، ثم قلت: في التفسير، ثم قلت: من المأثور، ثم قلت: للمتقدمين، ثم قلت: يجمع بين الآثار وبين توجيهها، فما بقي إلا أن تقول: لابن جرير، فهذه الأوصاف التي ذكرتها هي أوصاف مقيدة أخرجت كتب التفسير كلها، لكن القيد في قوله تعالى: وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ [سورة النساء:155] لا يخرج طوائف تقتل الأنبياء بحق.
وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ [سورة النساء:155] قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جُبَير، وعكرمة، والسّدّي، وقتادة، وغير واحد: أي في غطاء، وهذا كقول المشركين: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ الآية [سورة فصلت:5]".

هذا سبق الكلام عليه في سورة البقرة، وما قاله بعض المفسرين من أن المراد أنها أوعية للعلم أو غلاف للعلم فلا تحتاج إلى هذا الذي تأتينا به، فنحن مستغنون عنه، لكن هذا المعنى فيه بعد، وإنما المقصود أنهم يقولون: قلوبنا غلف أي: أنها لا تعي؛ لأن عليها ما يغلفها فيحول بينها وبين الانتفاع.
"قال الله تعالى: بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [سورة النساء:155] كأنهم اعتذروا إليه بأن قلوبهم لا تعي ما يقول؛ لأنها في غلف، وفي أكنة، فقال الله: بل هي مطبوع عليها بكفرهم، وقد تقدم الكلام على مثل هذا في سورة البقرة.
فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [سورة النساء:155] أي: مَرَدت قلوبهم على الكفر، والطغيان، وقلة الإيمان".

قوله: فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [سورة النساء:155] هذا يحتمل معنيين:
الأول: فلا يؤمنون إلا إيماناً قليلاً، وذلك أنهم يؤمنون ببعض الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، ويكفرون ببعض، فمثل هؤلاء كفرهم ببعض الأنبياء، وببعض الكتب، وقولهم: إن جبريل - عليه الصلاة والسلام - هو عدوهم، وما أشبه ذلك؛ هذا يفسد عليهم إيمانهم، فيكون إيمانهم بهذا الاعتبار قليلاً.
الاحتمال الثاني: أن يكون المعنى لا يؤمن منهم إلا القليل كعبد الله بن سلام ، ومن آمن من اليهود.
ومعلوم أن اليهود من أقل الطوائف دخولاً في الإسلام على مدى التاريخ فلا يدخل فيه منهم إلا الواحد بعد الواحد، كما أن أقل الطوائف رجوعاً إلى أهل السنة هم الرافضة فلا يرجع منهم إلا الواحد بعد الواحد، وذلك لوجوه من الشبه بين الطائفتين، ولغلبة الغل، والحسد، والحقد؛ الذي يرضعونه مع حليب أمهاتهم من الصغر، فلذلك كانوا بهذه المثابة خلافاً للطوائف الأخرى.
وعلى كل حال لعل أقرب المعنيين في الآية - والله تعالى أعلم - هو الأول أي لا يحصل منهم إلا القليل من الإيمان.
وأحياناً يأتي مثل هذا التعبير ويراد به العدم، وهذا معروف في كلام العرب، وفي أشعارهم حيث يعبرون بالقلة ويقصدون العدم المحض كقول من قال: مررت بأرض قليل بها الكرَّاث، يعني لا يوجد بها الكراث، وهكذا سُمع في أشعارهم مثل هذا التعبير.

مرات الإستماع: 0

"فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ [النساء:155] "ما" زائدةٌ للتأكيد، والباء تتعلق بمحذوف تقديره: بسبب نقضهم فعلنا بهم ما فعلنا، أو تتعلق بقوله: حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ [النساء:160] ويكون فَبِظُلْمٍ [النساء:160] على هذا بدلاً من قوله: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ [النساء:155]."

قوله: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ [النساء:155] الميثاق مضى في "الغريب": هو العقد المؤكد، عقد مؤكد، أو العهد المُحكم، ميثاق، يعني هو أخص من مجرد العهد، أو من مطلق العهد، فأصل هذه المادة: الواو، والثاء، والقاف تدل على العقد، والإحكام فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ [النساء:155] يقول: "مَا" زائدةٌ للتأكيد، يعني يكون المعنى فبنقضهم ميثاقهم، والباء تتعلق بمحذوف تقديره: بسبب نقضهم ميثاقهم لعناهم، يعني فعلنا بهم ما فعلنا كما يقول المؤلف فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ [النساء:155] فبنقضهم، أي بسبب، والكسائي يقول: بأنه متعلقٌ بما قبله[1] والمعنى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ [النساء:153] فهو تفسيرٌ لذلك الظلم بأنه نقض الميثاق فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ [النساء:155] لكن أنكره ابن جرير - رحمه الله -[2] لأن قتلهم الأنبياء، وقولهم البهتان على مريم وقع بعد موسى، بخلاف الصاعقة، فهذه وقعت في زمن موسى - عليه الصلاة، والسلام - والزجَّاج يقول: بأن التقدير: حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160] فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً ۝ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ۝ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ۝ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:155 - 158] ثم قال: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ۝ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:159 - 160] فالزجَّاج[3] يقول: التقدير: حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ [النساء:160] فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا [النساء:160] يعني حرمنا عليكم طيبات، فهو متصل بما سيأتي من قوله: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا [النساء:160].

وبعضهم يقول: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ [النساء:155] طبع الله على قلوبهم، وبعضهم يقول: فبنقضهم لا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً [النساء:155] والفاء في قوله: فَلا يُؤْمِنُونَ [النساء:155] يقولون: مُقحمة - على كل حال - فَبِمَا نَقْضِهِمْ [النساء:155] تكون "ما" هذه للتوكيد، يعني فبنقضهم ميثاقهم، بسبب نقضهم ميثاقهم فعلنا بهم ما فعلنا، تحريم الطيبات، واللعن، وما أشبه ذلك، أو تتعلق بقوله: حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ [النساء:160] ذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله -: إن هذا التحريم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ [النساء:160] هو تحريم عقوبة، بخلاف التحريم لهذه الأمة أمة محمد ﷺ فهو حينما يُحرِّم عليهم شيئًا إنما يحرِّم عليهم الخبائث، لكن أولئك أهل الكتاب حرَّم عليهم طيبات أُحلت لهم عقوبة لهم[4] وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ [الأنعام:146] وهو تحريم عقوبة.

وذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: أن هذا التحريم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ [النساء:160] قد يكون قدريًا بتحريفهم، وتنطعهم، فحرَّموا بعض الحلال[5] يعني الله لم يحرمه عليهم، لكنّه حرَّمه عليهم قدرًا، وليس شرعًا، فهم الذين امتنعوا منه بالتحريف، وزعموا أنه حرام، فكان ذلك قدرًا، التحريم القدري، وليس الشرعي، وقد يكون شرعيًا بمعنى أنه حرَّم عليهم في التوراة أشياء كانت حلالاً عقوبةً لهم، وهذا هو الأقرب كما يدل عليه قوله: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [الأنعام:146] الآية.

يقول: أو تتعلق بقوله: حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ [النساء:160] ويكون فَبِظُلْمٍ [النساء:160] على هذا بدلاً من قوله: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ [النساء:155] وأصل النقض كما مضى في "الغريب" هو ضد الإبرام، هو فك تركيب الشيء، ورده إلى ما كان عليه أولاً، نقض وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا [النحل:92] والمقصود بذلك هو نبذ هؤلاء نبذهم إياه بعد القبول به، وتركهم العمل به. 

  1.  تفسير القرطبي (6/7).
  2. المصدر السابق (7/649).
  3.  المصدر السابق (6/8).
  4.  مفتاح دار السعادة، ومنشور، ولاية العلم، والإرادة (2/10).
  5.  تفسير ابن كثير (2/467).