من أهل العلم من يقول: إن الباء في قوله: فَبِمَا نَقْضِهِم متعلقة بمحذوف أي: فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم يعني فبما نقضهم ميثاقهم، وكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وقولهم قلوبنا غلف وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا [سورة النساء:156] - إلى آخر ما ذكر الله من مخازيهم - لعناهم يعني بسبب هذه الأفعال وقع عليهم لعن الله - تبارك وتعالى -.
وبعضهم يقول: إنه متعلق بما قبله، أي أنه تفسير لما سبق في الآية السابقة فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ [سورة النساء:153] وما هذا الظلم؟ فسره بما بعده وهو اتخاذ العجل، وكذلك ما حصل منهم من الاعتداء في السبت، ونقض الميثاق، وكفرهم بآيات الله وما أشبه ذلك، فهذا تفسير لهذا الظلم، وهذا تحتمله الآية احتمالاً ليس بالقوي ولكن ذكره بعض أئمة اللغة كالكسائي مع أن كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - رد هذا القول، واستبعده نظراً لما ورد في ثنايا هذه الآيات؛ لأن الله ذكر فيها قتلهم الأنبياء، وذكر بهتانهم لمريم، وقولهم على عيسى - عليه الصلاة والسلام - ما ينزه عنه، وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله إلى آخر ما ذكر، وهذه الأمور وقعت بعد الصاعقة؛ لأن الصاعقة كانت في زمن موسى ﷺ، ورميهم لمريم بالبهتان، وقولهم عن عيسى ﷺ ما قالوا؛ كان هذا بعده بمدة طويلة فليس هو سبب أخذ الصاعقة، ومن يقول بهذا القول لا يخفى عليه مثل هذا الإيراد، ولكنهم يقولون ذكر الله أن الصاعقة أخذتهم بظلمهم، وذكر الاعتداء في السبت، ونقض الميثاق وما أشبه ذلك مما وقع في زمن موسى ﷺ، ثم ذكر الباقي على سبيل الاستطراد في ذكر صفاتهم السيئة، وهذا احتمال تحتمله الآية، والله تعالى أعلم.
وبعضهم يقول: إن الجزاء أنه حرم عليهم طيبات أحلت لهم هكذا فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء [سورة النساء:155] إلى آخر ما ذكر ثم قال: حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [سورة النساء:160] يعني بسبب ما وقع منهم من نقض الميثاق - إلى آخر ما ذكر - حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم، وبعضهم يقول: فبما نقضهم ميثاقهم طبع الله على قلوبهم، وبعضهم يقول: فبما نقضهم ميثاقهم - إلى آخر ما ذكر - لا يؤمنون إلا قليلاً حيث ختم الآية بقوله: بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [سورة النساء:155] فيقولون: إن الفاء مقحمة في قوله: فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً وإن المراد أن هذا هو الجزاء الذي رتبه على هذا أفعالهم السيئة التي ذكرها.
وعلى كل حال فالعرب تحذف مثل هذا في الكلام وثوقاً بفهم المخاطب، أي أن الله عاقبهم بما عاقبهم به من ألوان العقوبات من لعن، وختم على قلوبهم وما أشبه ذلك بسبب هذه الجرائم العظام، فيذهب ذهن السامع في مثل هذا إلى عقوبة الله التي ذكرها في ثنايا هذه الآيات وفي غيرها، وكل ذلك عدلٌ منه فالله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون، والله تعالى أعلم.
فيقول - تبارك وتعالى -: وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ [سورة النساء:155] هذا القيد وأمثاله "بغير حق" إنما جرى لإيضاح الواقع، فذلك من الصفات الكاشفة وإلا فإن قتل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لا يكون بحق بحال من الأحوال.
فهذا ونظراؤه في القرآن كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة آل عمران:21] وما شابه ذلك هذا كله ذكر فيه هذا القيد "بغير حق" لبيان الحال الواقع فيها من الصفات الكاشفة وليست مقيدة، وإنما تكون مقيدة إذا كان ذلك يقع بحقٍ وبغير حق.
ومن الأمثلة على ما ذكرنا قوله تعالى: وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [سورة المؤمنون:117] فهل يمكن أن يدعو أحد من دون الله إلهاً له فيه برهان؟ يعني هل يمكن أن نقول: إن مثل هذا له مفهوم مخالفة معتبرة، يعني لو أن أحداً قال: مفهوم المخالفة من الآية السابقة أنهم إذا قتلوا النبيين بحق فلا إشكال، فهل هذا القول معتبر؟
أبداً لا أحد يقتل النبيين بحق، ولا أحد يدعو مع الله إلهاً آخر له به برهان، فهذه الآيات هي كقوله - تبارك وتعالى -: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [سورة الأنعام:38] والمقصود أن كل هذه القيود هي من الصفات الكاشفة أي التي تكشف وتوضح حقيقة الأمر، وجليته؛ لا أنها تزيد قيداً يخرج الصور الأخرى، وإن كان الأصل في الصفات أنها مقيِّدة، بمعنى أنه كلما زادت الأوصاف زادت القيود، فلو قلت مثلاً: أريد أن اشتري بهذه الدراهم كتاباً ثم قلت: عربياً، ثم قلت: في التفسير، ثم قلت: من المأثور، ثم قلت: للمتقدمين، ثم قلت: يجمع بين الآثار وبين توجيهها، فما بقي إلا أن تقول: لابن جرير، فهذه الأوصاف التي ذكرتها هي أوصاف مقيدة أخرجت كتب التفسير كلها، لكن القيد في قوله تعالى: وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ [سورة النساء:155] لا يخرج طوائف تقتل الأنبياء بحق.
هذا سبق الكلام عليه في سورة البقرة، وما قاله بعض المفسرين من أن المراد أنها أوعية للعلم أو غلاف للعلم فلا تحتاج إلى هذا الذي تأتينا به، فنحن مستغنون عنه، لكن هذا المعنى فيه بعد، وإنما المقصود أنهم يقولون: قلوبنا غلف أي: أنها لا تعي؛ لأن عليها ما يغلفها فيحول بينها وبين الانتفاع.
فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [سورة النساء:155] أي: مَرَدت قلوبهم على الكفر، والطغيان، وقلة الإيمان".
قوله: فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [سورة النساء:155] هذا يحتمل معنيين:
الأول: فلا يؤمنون إلا إيماناً قليلاً، وذلك أنهم يؤمنون ببعض الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، ويكفرون ببعض، فمثل هؤلاء كفرهم ببعض الأنبياء، وببعض الكتب، وقولهم: إن جبريل - عليه الصلاة والسلام - هو عدوهم، وما أشبه ذلك؛ هذا يفسد عليهم إيمانهم، فيكون إيمانهم بهذا الاعتبار قليلاً.
الاحتمال الثاني: أن يكون المعنى لا يؤمن منهم إلا القليل كعبد الله بن سلام ، ومن آمن من اليهود.
ومعلوم أن اليهود من أقل الطوائف دخولاً في الإسلام على مدى التاريخ فلا يدخل فيه منهم إلا الواحد بعد الواحد، كما أن أقل الطوائف رجوعاً إلى أهل السنة هم الرافضة فلا يرجع منهم إلا الواحد بعد الواحد، وذلك لوجوه من الشبه بين الطائفتين، ولغلبة الغل، والحسد، والحقد؛ الذي يرضعونه مع حليب أمهاتهم من الصغر، فلذلك كانوا بهذه المثابة خلافاً للطوائف الأخرى.
وعلى كل حال لعل أقرب المعنيين في الآية - والله تعالى أعلم - هو الأول أي لا يحصل منهم إلا القليل من الإيمان.
وأحياناً يأتي مثل هذا التعبير ويراد به العدم، وهذا معروف في كلام العرب، وفي أشعارهم حيث يعبرون بالقلة ويقصدون العدم المحض كقول من قال: مررت بأرض قليل بها الكرَّاث، يعني لا يوجد بها الكراث، وهكذا سُمع في أشعارهم مثل هذا التعبير.