الثلاثاء 05 / محرّم / 1447 - 01 / يوليو 2025
إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيِّۦنَ مِنۢ بَعْدِهِۦ ۚ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰٓ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْمَٰعِيلَ وَإِسْحَٰقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيْمَٰنَ ۚ وَءَاتَيْنَا دَاوُۥدَ زَبُورًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ۝ وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ۝ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [سورة النساء:163-165].
قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس - ا - قال: "قال سُكَين وعَديّ بن زيد: يا محمد! ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى، فأنزل الله في ذلك من قولهما: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ [سورة النساء:163] إلى آخر الآيات".

مثل هذه الرواية لا تخلو من ضعف، وكذلك محمد بن أبي محمد فيه ضعف، لكن العلماء يتساهلون في الرواية في التفسير، وفي السير؛ لأنهم لو طبقوا عليها شروط المحدّثين لذهب كثير من هذه المرويات.
"فذكر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله محمد ﷺ كما أوحى إلى غيره من الأنبياء المتقدمين فقال: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ [سورة النساء:163] إلى قوله: وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا [سورة النساء:163]، والزبور اسم الكتاب الذي أوحاه الله إلى داود ".

مرات الإستماع: 0

"إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [النساء:163] الآية: ردٌ على اليهود الذين سألوا النبي ﷺ أن يُنزِل عليهم كتابًا من السماء، واحتجاجٌ عليهم بأن الذي أتى به وحيٌ كما أتى من تقدّم من الأنبياء بالوحي من غير إنزال الكتاب من السماء، ولذلك أكثر من ذكر الأنبياء الذين كان شأنهم هذا لتقوم بهم الحجة.

وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ [النساء:164] منصوبٌ بفعلٍ مضمر أي أرسلنا رسلا."

وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ يعني أرسلنا رسلاً، ويحتمل أنه منصوب على الاشتغال أي بفعلٍ محذوف تقديره: وقصصنا رسلاً عليك يعني على حذف مضاف، يعني قصصنا أخبارهم، أو منصوب وَرُسُلاً منصوب عطفًا على معنى الآية قبلها أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ يعني: أوحينا بمعنى أرسلنا، يعني من جهة المعنى على هذا القول على معنى الآية، يكون الإعراب هنا على المعنى، وليس على اللفظ، أرسلنا معنى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ بمعنى أرسلنا، أو نبئنا نوحًا وَرُسُلاً يعني أرسلنا رسلاً، ونحو ذلك، لكن هذا كأن الذي قبله أولى منه - والله أعلم -. 

"وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] تصريحٌ بالكلام، مؤكَّدٌ بالمصدر؛ وذلك دليل على بطلان قول المعتزلة: إنّ الشجرة هي التي كلمت موسى".

"فقوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] تصريحٌ بالكلام مؤكدٌ بالمصدر، وذلك دليل على بطلان قول المعتزلة"... إلى آخره، القاعدة التي يتفق عليها، أو يوافق عليها أهل الكلام من الأشاعرة، والمعتزلة، وغيرهم: أن التوكيد بالمصدر ينفي احتمال المجاز، هذه القاعدة يُقرون بها، ومن هنا يقول: "هذا فيه توكيد بالمصدر الذي هو تَكْلِيمًا [النساء:164] تَكْلِيمًا هذا مصدر مُؤكد للفعل كَلَّمَ فالتوكيد بالمصدر ينفي احتمال المجاز، بمعنى أن هذا الكلام حقيقي، وهو أنه تكلم تكلمًا حقيقيًا، وليس بمجازي، والأشاعرة معروف أنهم يقولون: بأن الله يتكلم، لكن هم يثبتون كلامًا لا حقيقة له، فيقولون: يتكلم، لكن لا بحرفٍ، ولا بصوتٍ، وكلامه معنًى واحد قائم بالنفس، لا تعدد فيه، ولا تتابع، ولا انقضاء، إن عُبِّر عنه بالعبرانية فهو توراة، وإن عُبِّر بالسريانية فهو إنجيل، وإن عُبِّر بالعربية فهو قرآن، يقولون: معنًى واحد قائم في النفس، طيب، وهذه الحروف، والألفاظ؟ قالوا: هذه مخلوقة، هذا عند الأشاعرة، ويُصرِّحون بهذا في كتبهم كشرح الجوهرة، وغيره، لكنّهم يقولون: بأننا لا نُصرِّح بذلك إلا في مقام التعليم، يعني لطلبة العلم، لماذا؟ يقولون: من أجل ألا يلتبس على العامة، فيظنون أنّا نقول بأن القرآن مخلوق، والحقيقة أن قول الأشاعرة يرجع إلى القول بخلق القرآن، هم هكذا حقيقة مذهبهم، فهم أثبتوا كلامًا نفسيًا لا حقيقة له، ولا وجود، فلا يوجد شيء اسمه الكلام النفسي، الذي هو معنًى واحد قائم في النفس، الذي أثبته الأشاعرة، والكلام في هذا يطول، وهم يزعمون أنهم يثبتون صفة الكلام لله فيقولون: هذا رد على المعتزلة الذين ينفون الكلام أصلاً، ويقولون: هو مخلوق، وأن الله خلق كلامًا في الشجرة، فسمعه موسى، وأن الله لا يتكلم.

ومذهب المعتزلة في عددٍ من القضايا أضبط من مذهب الأشاعرة، وإن كان فاسدًا، يعني مثلاً في صفة الكلام: هم يقولون: لا يُعقل الكلام إلا أن يكون مجموع اللفظ، والمعنى، لا يوجد كلام نفسي، يردون على الأشاعرة في هذا، فيقولون: الكلام لفظ، ومعنى، لكنّه مخلوق، والأشاعرة يقولون: كلام الله غير مخلوق، ويُلبِّسون، يقولون: نقصد الكلام النفسي، الكلام النفسي معنًى واحد، والمعتزلة يقولون: كيف يكون معنًى واحد؟ هذا لا يمكن، ولا يمكن أن يكون المعنى هو الكلام دون اللفظ.

وكذلك في مسألة الكسب، ومسألة القدر، وكذلك في مسائل تتعلق بالتأثير، ونحو ذلك، الشاهد أن المعتزلة يوافقون على هذه القاعدة: أن التوكيد بالمصدر ينفي احتمال المجاز، طيب، وكيف يفسرون: كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] يقولون: هو حقيقة، ليس بمجاز، فكلمه مأخوذ من الكلْم الذي هو الجرح، أي كَلَمه بمعنى جرَّحه بمخالب الحكمة، وليس من التكليم، والكلام، وهذا غاية التحريف، هذا حينما تحيروا في هذا الموضع الذي جاء فيه بتأكيد الصفة بالمصدر، فأجابوا بهذا الجواب، قالوا: نعم هو تكليم حقيقي، لكن كلَّمه بمعنى جرَّحه، ليس بمجاز، فهذا - أعوذ بالله - فعل العقائد الفاسدة، وتحريف معاني كتاب الله بسبب أصولٍ، واعتقاداتٍ باطلة - والله المستعان - فهذا معنى قوله: بأنه مؤكد بالمصدر، وأنه دليل على بطلان قول المعتزلة: أن الشجرة هي التي كلمت موسى، لكن لو جئنا للأشاعرة، وقلنا: وأنتم ما تقولون؟ لقالوا: نعم كلَّمه، لكن بكلامٍ نفسيٍ أزليٍ هو معنًى في نفس الله معنًى واحد قائم في نفسه واحد، لا تعاقب فيه، ولا انقضاء، فحينما يقول الله مثلاً: يَا مُوسَى [النمل:9] يقولون: الياء، والألف، والميم، والواو، والسين إلى آخره، هذه ليست متعاقبة في كلام الله، هي هكذا شيء واحد، لا يأتي حرف الميم بعد الألف، وبعد الياء، وإنما كل ذلك يكون معنًى واحد لا يتعاقب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2 - 4] يقولون: هذه عبارة عن كلام الله، وإخوانهم من الماتريدية، والشبه بينهم كبير، يعني الاختلاف في مسائل محدودة نحو ثلاثة عشر مسألة، أو قريب من هذا، لكن الأصول واحدة، فيقول الماتريدية: حكاية عن كلام الله، وهؤلاء يقولون: عبارة، ويقولون: الألفاظ مخلوقة، والمعنى غير مخلوق، والكلام يقولون: هو المعنى القائم بالنفس، والواقع أنهم لم يثبتوا لله هذه الصفة، كقولهم في الرؤيا، يقولون: يُرى لا في جهة؛ لأنهم ينفون العلو.