الثلاثاء 05 / محرّم / 1447 - 01 / يوليو 2025
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَٰهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ۚ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله: وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [سورة النساء:164] أي: من قبل هذه الآية يعني: في السور المكية وغيرها.
وهذه تسمية الأنبياء الذين نصَّ الله على أسمائهم في القرآن وهم: آدم، وإدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وشعيب، وموسى، وهارون، ويونس، وداود، وسليمان، وإلياس، والْيَسَع، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين، وسيدهم محمد ﷺ".

يقول الله : وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا [سورة النساء:163] وهو اسم الكتاب الذي أتاه الله داود، وبغض النظر عن هذه التسمية ما أصلها، وما معناها؛ إلا أن الآية نص صريح في أن الله أنزل على داود - عليه الصلاة والسلام - الزبور، وهذا أمر لا يحتاج إلى تنبيه؛ إلا أن العجيب أن ظاهر كلام أحد المفسرين الذي قرأته مراراً لم أفهم منه معنى سوى أن الزبور ليس من عند الله، وأن الإنجيل ليس من عند الله!! وهذا أمر عجيب! وإن كان في آخر كلامه ما يناقض هذا الفهم تماماً، حتى إننا أردنا أن نتأول له لكن عبارته لا تساعد على ذلك، والأعجب من ذلك - مع أن كلاًّ يؤخذ من قوله ويرد - أنك تجد من يثني على هذا المفسر، ويعظمه غاية التعظيم، ولو وقع هذا الخطأ لشخص آخر يشنؤه هذا المادح لأقام الدنيا ولأقعدها عليه، ولكفره، ولما ترك شيئاً من الأوصاف السيئة إلا ألحقها به.
قوله: "وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين" يشير فيه إلى أن بعض المفسرين يقول: إن ذا الكفل هو ابن أيوب ﷺ، وبعضهم يقول: هو رجل صالح، وحكم عادل، ولم ويكن من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -.
وابن جرير - رحمه الله - توقف في هذا، لكن الله ذكره في سياق الأنبياء كما في سورة الأنبياء، وكما في سورة ص، وهذا يقتضي أنه من جملة الأنبياء فيما يظهر، والله تعالى أعلم.
"وقوله: وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [سورة النساء:164] أي: خلقاً آخرين لم يذكروا في القرآن.
قوله: وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [سورة النساء:164] وهذا تشريف لموسى بهذه الصفة؛ ولهذا يقال له: الكليم.
وقد روى الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه عن عبد الجبار بن عبد الله قال: جاء رجل إلى أبي بكر بن عيَّاش فقال: سمعت رجلاً يقرأ: "وكلم اللهَ موسى تكليماً" فقال أبو بكر: ما قرأ هذا إلا كافر، قرأتُ على الأعمش، وقرأ الأعمش على يحيى بن وثَّاب، وقرأ يحيى بن وثَّاب على أبي عبد الرحمن السَّلْمِيّ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي عَلَى عَلِيِّ بن أبي طالب، وقرأ علي بن أبي طالب على رسول الله ﷺ: وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [سورة النساء:164].
وإنما اشتد غضب أبي بكر بن عياش - رحمه الله - على مَن قرأ كذلك؛ لأنه حَرّف لفظ القرآن، ومعناه، وكان هذا من المعتزلة الذي ينكرون أن يكون الله كلَّم موسى ـ أو يكلِّمُ أحدًا من خلقه".

يعني أن ابن عياش تكلم في قضية معينة عن رجل بعينه من المعتزلة حرف الآية، وتحريف القرآن كفر كما هو معلوم، فقال عنه ما قال، وإلا فإن القراءة بالنصب مروية عن بعض التابعين - إن ثبت ذلك عنهم -، وإن كانوا قلة كإبراهيم النخعي، لكن في هؤلاء غاية ما يقال عنهم: إن هذه القراءة إن لم تثبت فهذا من قبيل الخطأ بحسب ما بلغهم، لكن إن صدر ذلك ممن يحرف، ويتعمد هذا؛ كبعض المعتزلة فهذا كفر، وفي هذا قال ابن عياش ما قال، فالعالم قد يقول المقالة في مناسبة معينة لكنه لا يقصد تعميم ذلك، فهناك فرق بين من حرَّف، أو تعمد التحريف، أو اتبع هواه، وبين من قرأ بها، وهو يظن أنها من القراءة، أو قرأ مخطئاً، فقد يقرأ بعض العامة هذا على سبيل الخطأ فلا يقال: هذا كافر، فابن عياش يتحدث عن حالة معينة، ولذلك تجد في كلام العلماء - رحمهم الله - أشباه هذا كثيراً، فلو تأملت في كلام المحدّثين لوجدت يحيى بن معين يسمع حديثاً ويقول: من هذا الكذاب - يعني راوي الحديث - فيقوم رجل، ويقول: أنا، فيبتسم له ويقول: لست بكذاب، فهو  - رحمه الله - يقصد إبطال الخبر، فبالغ في كلامه على الراوي، فلما قام قال له ما قال ليدل على أنه لم يقصد تكذيبه، وإنما قصد المبالغة في رد الخبر.
"كما رويناه عن بعض المعتزلة أنه قرأ على بعض المشايخ: "وكلم اللهَ موسى تكليما" فقال له: يا ابن اللَّخْنَاء فكيف تصنع بقوله تعالى: وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [سورة الأعراف:143] يعني أن هذا لا يحتمل التحريف، ولا التأويل".

وكذلك ماذا يصنع هذا المحرِّف بقوله تعالى: وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [سورة مريم:52] فالنداء والمناجاة كلها من الكلام، ولا يمكن احتمال أن يكون المنادي هو موسى - عليه الصلاة والسلام -، فالنداء هو صوت رفيع - كما يقول ابن القيم رحمه الله - يعني أعلى من مجرد المكالمة، والمخاطبة.

مرات الإستماع: 0

"إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [النساء:163] الآية: ردٌ على اليهود الذين سألوا النبي ﷺ أن يُنزِل عليهم كتابًا من السماء، واحتجاجٌ عليهم بأن الذي أتى به وحيٌ كما أتى من تقدّم من الأنبياء بالوحي من غير إنزال الكتاب من السماء، ولذلك أكثر من ذكر الأنبياء الذين كان شأنهم هذا لتقوم بهم الحجة.

وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ [النساء:164] منصوبٌ بفعلٍ مضمر أي أرسلنا رسلا."

وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ يعني أرسلنا رسلاً، ويحتمل أنه منصوب على الاشتغال أي بفعلٍ محذوف تقديره: وقصصنا رسلاً عليك يعني على حذف مضاف، يعني قصصنا أخبارهم، أو منصوب وَرُسُلاً منصوب عطفًا على معنى الآية قبلها أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ يعني: أوحينا بمعنى أرسلنا، يعني من جهة المعنى على هذا القول على معنى الآية، يكون الإعراب هنا على المعنى، وليس على اللفظ، أرسلنا معنى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ بمعنى أرسلنا، أو نبئنا نوحًا وَرُسُلاً يعني أرسلنا رسلاً، ونحو ذلك، لكن هذا كأن الذي قبله أولى منه - والله أعلم -. 

"وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] تصريحٌ بالكلام، مؤكَّدٌ بالمصدر؛ وذلك دليل على بطلان قول المعتزلة: إنّ الشجرة هي التي كلمت موسى".

"فقوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] تصريحٌ بالكلام مؤكدٌ بالمصدر، وذلك دليل على بطلان قول المعتزلة"... إلى آخره، القاعدة التي يتفق عليها، أو يوافق عليها أهل الكلام من الأشاعرة، والمعتزلة، وغيرهم: أن التوكيد بالمصدر ينفي احتمال المجاز، هذه القاعدة يُقرون بها، ومن هنا يقول: "هذا فيه توكيد بالمصدر الذي هو تَكْلِيمًا [النساء:164] تَكْلِيمًا هذا مصدر مُؤكد للفعل كَلَّمَ فالتوكيد بالمصدر ينفي احتمال المجاز، بمعنى أن هذا الكلام حقيقي، وهو أنه تكلم تكلمًا حقيقيًا، وليس بمجازي، والأشاعرة معروف أنهم يقولون: بأن الله يتكلم، لكن هم يثبتون كلامًا لا حقيقة له، فيقولون: يتكلم، لكن لا بحرفٍ، ولا بصوتٍ، وكلامه معنًى واحد قائم بالنفس، لا تعدد فيه، ولا تتابع، ولا انقضاء، إن عُبِّر عنه بالعبرانية فهو توراة، وإن عُبِّر بالسريانية فهو إنجيل، وإن عُبِّر بالعربية فهو قرآن، يقولون: معنًى واحد قائم في النفس، طيب، وهذه الحروف، والألفاظ؟ قالوا: هذه مخلوقة، هذا عند الأشاعرة، ويُصرِّحون بهذا في كتبهم كشرح الجوهرة، وغيره، لكنّهم يقولون: بأننا لا نُصرِّح بذلك إلا في مقام التعليم، يعني لطلبة العلم، لماذا؟ يقولون: من أجل ألا يلتبس على العامة، فيظنون أنّا نقول بأن القرآن مخلوق، والحقيقة أن قول الأشاعرة يرجع إلى القول بخلق القرآن، هم هكذا حقيقة مذهبهم، فهم أثبتوا كلامًا نفسيًا لا حقيقة له، ولا وجود، فلا يوجد شيء اسمه الكلام النفسي، الذي هو معنًى واحد قائم في النفس، الذي أثبته الأشاعرة، والكلام في هذا يطول، وهم يزعمون أنهم يثبتون صفة الكلام لله فيقولون: هذا رد على المعتزلة الذين ينفون الكلام أصلاً، ويقولون: هو مخلوق، وأن الله خلق كلامًا في الشجرة، فسمعه موسى، وأن الله لا يتكلم.

ومذهب المعتزلة في عددٍ من القضايا أضبط من مذهب الأشاعرة، وإن كان فاسدًا، يعني مثلاً في صفة الكلام: هم يقولون: لا يُعقل الكلام إلا أن يكون مجموع اللفظ، والمعنى، لا يوجد كلام نفسي، يردون على الأشاعرة في هذا، فيقولون: الكلام لفظ، ومعنى، لكنّه مخلوق، والأشاعرة يقولون: كلام الله غير مخلوق، ويُلبِّسون، يقولون: نقصد الكلام النفسي، الكلام النفسي معنًى واحد، والمعتزلة يقولون: كيف يكون معنًى واحد؟ هذا لا يمكن، ولا يمكن أن يكون المعنى هو الكلام دون اللفظ.

وكذلك في مسألة الكسب، ومسألة القدر، وكذلك في مسائل تتعلق بالتأثير، ونحو ذلك، الشاهد أن المعتزلة يوافقون على هذه القاعدة: أن التوكيد بالمصدر ينفي احتمال المجاز، طيب، وكيف يفسرون: كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] يقولون: هو حقيقة، ليس بمجاز، فكلمه مأخوذ من الكلْم الذي هو الجرح، أي كَلَمه بمعنى جرَّحه بمخالب الحكمة، وليس من التكليم، والكلام، وهذا غاية التحريف، هذا حينما تحيروا في هذا الموضع الذي جاء فيه بتأكيد الصفة بالمصدر، فأجابوا بهذا الجواب، قالوا: نعم هو تكليم حقيقي، لكن كلَّمه بمعنى جرَّحه، ليس بمجاز، فهذا - أعوذ بالله - فعل العقائد الفاسدة، وتحريف معاني كتاب الله بسبب أصولٍ، واعتقاداتٍ باطلة - والله المستعان - فهذا معنى قوله: بأنه مؤكد بالمصدر، وأنه دليل على بطلان قول المعتزلة: أن الشجرة هي التي كلمت موسى، لكن لو جئنا للأشاعرة، وقلنا: وأنتم ما تقولون؟ لقالوا: نعم كلَّمه، لكن بكلامٍ نفسيٍ أزليٍ هو معنًى في نفس الله معنًى واحد قائم في نفسه واحد، لا تعاقب فيه، ولا انقضاء، فحينما يقول الله مثلاً: يَا مُوسَى [النمل:9] يقولون: الياء، والألف، والميم، والواو، والسين إلى آخره، هذه ليست متعاقبة في كلام الله، هي هكذا شيء واحد، لا يأتي حرف الميم بعد الألف، وبعد الياء، وإنما كل ذلك يكون معنًى واحد لا يتعاقب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2 - 4] يقولون: هذه عبارة عن كلام الله، وإخوانهم من الماتريدية، والشبه بينهم كبير، يعني الاختلاف في مسائل محدودة نحو ثلاثة عشر مسألة، أو قريب من هذا، لكن الأصول واحدة، فيقول الماتريدية: حكاية عن كلام الله، وهؤلاء يقولون: عبارة، ويقولون: الألفاظ مخلوقة، والمعنى غير مخلوق، والكلام يقولون: هو المعنى القائم بالنفس، والواقع أنهم لم يثبتوا لله هذه الصفة، كقولهم في الرؤيا، يقولون: يُرى لا في جهة؛ لأنهم ينفون العلو.