الثلاثاء 24 / صفر / 1447 - 19 / أغسطس 2025
يَٰٓأَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ لَا تَغْلُوا۟ فِى دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا۟ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْحَقَّ ۚ إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥٓ أَلْقَىٰهَآ إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ فَـَٔامِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ ۖ وَلَا تَقُولُوا۟ ثَلَٰثَةٌ ۚ ٱنتَهُوا۟ خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ ۖ سُبْحَٰنَهُۥٓ أَن يَكُونَ لَهُۥ وَلَدٌ ۘ لَّهُۥ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً [سورة النساء:171].
ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو، والإطراء - وهذا كثير في النصارى -، فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلهاًَ من دون الله يعبدونه كما يعبدونه، بل قد غلوا في أتباعه، وأشياعه؛ ممن زعم أنه على دينه، فادَّعوْا فيهم العصمة، واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقًا أو باطلاً، أو ضلالاً، أو رشادًا، أو صحيحًا، أو كذبًا؛ ولهذا قال الله تعالى: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ الآية [سورة التوبة:31].
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس عن عمر أجمعين أن رسول الله ﷺ قال: لا تُطْرُوني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبدٌ فقولوا عبد الله، ورسوله، وهكذا رواه البخاري ولفظه: فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله[1]".

فقوله - تبارك وتعالى -: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ [سورة النساء:171] هذا الخطاب عام لأهل الكتاب، ويدخل فيه اليهود، والنصارى، ولهذا فسره جماعة من أهل العلم بما يشمل الطائفتين، وذلك أن اليهود غلوا في العزير، وقالوا أيضاً: إنه ابن الله كما قال الله : وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ [سورة التوبة:30] فهذا كله من الغلو، وإن كان ظاهر السياق بعده في النصارى؛ لأنه قال: إنما المسيح عيسى ابن مريم؛ إلا أن هذا لا يمنع من عموم الخطاب في أوله - كما هو ظاهر -، ثم بعد ذلك خص النصارى بهذا لأن الذين تهافتوا على هذا القول من النصارى هم عامتهم، وأغلبهم؛ حتى صار ذلك شعاراً لدينهم، وصار التوحيد فيهم قليلاً بالنسبة للطوائف التي غلت في المسيح - عليه الصلاة والسلام -.
وقد وقع الغلو أيضاً من اليهود في عيسى وفي أمه حيث قالوا كلاماً شنيعاً فظيعاً يثقل على الأسماع، فهذا من الغلو أيضاً؛ لأن الغلو يكون تارة بمجاوزة الحد في الإطراء، والتعظيم، والتقديس، وتارة يكون من جهة التفريط، والبغض، والعداوة، والبهتان، والله أعلم.
والخلاصة أن اليهود غلوا فقالوا كلاماً شنيعاً، والنصارى أيضاً غلوا في الطرف الآخر، وقالوا كلاماً شنيعاً، فيكون الكلام موجهاً للطائفتين ناهياً لهم عن الغلو، وهذا الذي اعتمده القرطبي في تفسير الآية، وإن كان ظاهر الآية في النصارى الذين غلوا في عيسى، والله أعلم.
"وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك أن رجلاً قال: يا محمد، يا سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله ﷺ: يا أيها الناس! عليكم بقولكم، ولا يَسْتَهْويَنَّكُمُ الشيطانُ، أنا محمدُ بنُ عبد الله، عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني اللَّهُ تفرد به من هذا الوجه[2].
وقوله تعالى: وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ [سورة النساء:171] أي: لا تفتروا عليه، وتجعلوا له صاحبة، وولداً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وتنزه، وتقدس، وتوحد في سؤدده، وكبريائه، وعظمته، فلا إله إلا هو، ولا رب سواه؛ ولهذا قال: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ [سورة النساء:171] أي: إنما هو عبد من عباد الله، وخَلق من خلقه، قال له: كن فكان، ورسول من رسله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ [سورة النساء:171] أي: خَلقَه بالكلمة التي أرسل بها جبريل إلى مريم، فنفخ فيها من روحه بإذن ربه فكان عيسى بإذن الله ".

يقول الحافظ - رحمه الله - في قول الله : وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ [سورة النساء:171]: "أي: خَلقَه بالكلمة التي أرسل بها جبريل إلى مريم، فنفخ فيها من روحه بإذن ربه ، فكان عيسى بإذن الله " هذا القول هو من أحسن ما تفسر به هذه الجملة، ومعناه أن الله خلق عيسى بكلمة كن، أي أنه قال له: كن فكان، وهذا من تفسير القرآن بالقرآن حيث قال تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [سورة النحل:40] وقال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة يس:82].
والقول الثاني الذي قاله طائفة من السلف ومنهم ابن جرير: إن المراد بالكلمة هي ما جاء به جبريل إلى مريم، حيث قال لها: إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ [سورة آل عمران:45] ويكون هذا من قبيل تفسير القرآن بالقرآن أيضاً، لكن تفسير القرآن بالقرآن يدخله اجتهاد المفسر، ولذلك قد يربط المفسر بين آيتين فيصيب، وقد يخطئ، فالذي يظهر أن القول الأول هو الأقرب؛ لأن المسألة هنا مسألة خلق، وتكوين، وإيجاد، وهذا الخلق والتكوين يكون بـ"كن" - والله تعالى أعلم -.
قوله تعالى: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ [سورة النساء:171] يعني أن الله - تبارك وتعالى - أرسل جبريل إلى مريم، فنفخ في جيب درعها نفخة نزلت حتى دخلت من فرجها، ولذلك قال بعضهم: إن الروح هي تلك النفخة التي نفخها جبريل فيها، وبعض أهل العلم قال في تفسير الروح غير هذا، فالله أعلم.
وأما الكلمة التي أُرسل بها جبريل فليست هي النفخة التي نفخها فيها؛ ولهذا قال: وَرُوحٌ مِّنْهُ [سورة النساء:171] أي: روح مخلوقة من جملة الأرواح التي خلقها الله ، والإضافة هنا هي إضافة تشريف كإضافة البيت والناقة في قولنا: بيت الله وفي قوله تعالى: نَاقَةَ اللَّهِ [سورة الشمس:13].
ويبقى أن الله خلق عيسى بالكلمة، وبعث جبريل - عليه الصلاة والسلام - فنفخ في درع أمه، فهو روح مخلوقة لله .
و"مِن" في قوله تعالى: وَرُوحٌ مِّنْهُ [سورة النساء:171] لابتداء الغاية كما في قوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ [سورة الجاثية:13] ولا أحد يقول: إن ما في السماوات والأرض جزء من الله كما زعم النصارى في قوله تعالى: وَرُوحٌ مِّنْهُ [سورة النساء:171].
والمقصود أنه مما يرد به على احتجاج النصارى بهذه الآية قوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ [سورة الجاثية:13] أي: إذا قلتم: إن قوله: وَرُوحٌ مِّنْهُ [سورة النساء:171] يعني جزء منه فكذلك يقال في قوله: مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ [سورة الجاثية:13] أي فكذلك إذاً ما في السماوات، وما في الأرض؛ هو جزء من الله، ومعلوم أن النصارى لا يقولون بهذا، وإنما يقولون: إن "مِن" في قوله: جَمِيعًا مِّنْهُ [سورة الجاثية:13] هي لابتداء الغاية، فيقال لهم: وكذلك "مِن" في قوله تعالى: وَرُوحٌ مِّنْهُ [سورة النساء:171] هي لابتداء الغاية، فإذا كنتم تحتجون بالقرآن فهذا هو القرآن.
ومن الأمور الغريبة أن النصارى يتشبثون بآيات من القرآن الكريم ليجادلوا بها المسلمين وهم أصلاً لا يؤمنون بالقرآن، ولذلك إذا أراد النصراني أن يجادل بما في القرآن فليُقل له: لا تجادل بالقرآن إلا إذا آمنت به، وبما يقول في عيسى - عليه الصلاة والسلام -، وبما فيه من وصف لكم بالضلال، وبلعنه إياكم؛ وذلك أنهم يريدون أن يحتجوا بالقرآن للتلبيس بالشُّبه الباطلة التي يسهل الرد عليها ببديهة دون اطلاع، أو مراجعة؛ لما في احتجاجاتهم من ضعف.
ومع سهولة الرد على شبه النصارى إلا أننا نقول: لا ينبغي لمن لم يطلب العلم، ولم يثنِ ركبتيه لذلك؛ أن يجادلهم؛ لأن من لا يحسن ركوب البحر يغرق فيه، وقد رأيت من يرد عليهم فيأتونه بنحو عشر شبه لا يعرف الجواب عنها إطلاقاً، مع أن كل واحدة منها يسهل الرد عليها ببديهة من ستة أو سبعة أوجه قوية، ويكفي كل وجه منها في إبطال تلك الشبهة.
وقد اتصل شخص بأحد طلاب العلم يريد إنقاذه من غرقه في شبه النصارى، حيث كان يريد أن يرد على النصارى في أحد مواقع الإنترنت وهو ليس من طلاب العلم؛ فكان مما قال: إنه لم يصم من رمضان ثلاثة أيام حيث شكَّ في دينه، وإيمانه، فهو يريد الإغاثة.
لذلك ينبغي أن يتخصص في مجادلة النصارى أناس من أهل العلم بحيث تكون لديهم لجان شرعية - وهذا موجود ولله الحمد -، فيعرضون عليهم ما عندهم، ثم يناقشونهم بحيث لا يخرجون في مناقشتهم إلى ما ليس منها مما قد يؤدي إلى أن يقرروا بعض الأخطاء، أو يردوا عليهم بباطل، وأما من ليسوا من هؤلاء فلا ينبغي أن يدخلوا في هذا الباب، والله المستعان.
"فنفخ فيها بإذن الله فكان عيسى بإذن الله وكانت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها فنزلت حتى وَلَجت فرجها بمنزلة لقاح الأب والأم، والجميع مخلوق لله ولهذا قيل لعيسى: إنه كلمة الله، وروح منه؛ لأنه لم يكن له أب تولَّد منه، وإنما هو ناشئ عن الكلمة التي قال له بها: كن، فكان، والروح التي أرسل بها جبريل قال الله تعالى: مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ [سورة المائدة:75]، وقال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [سورة آل عمران:59]، وقال تعالى: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ [سورة الأنبياء:91]، وقال تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا [سورة التحريم:12] إلى آخر سورة التحريم، وقال تعالى إخباراً عن المسيح: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ الآية [سورة الزخرف:59].
وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ هو كقوله: كن فكان.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي قال: سمعت شَاذ بن يحيى يقول في قول الله: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ [سورة النساء:171] قال: ليست الكلمةُ صارت عيسى، ولكن بالكلمة صار عيسى.
وروى البخاري عن عبادة بن الصامت عن النبي ﷺ قال: من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروحٌ منه، وأن الجنةَ حق، والنارَ حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل زاد في رواية: من أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء وكذا رواه مسلم[3].
فقوله في الآية والحديث: وَرُوحٌ مِّنْهُ [سورة النساء:171] كقوله: وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ [سورة الجاثية:13] أي: مِنْ خَلْقه، ومِن عنده، وليست "مِنْ" للتبعيض كما تقوله النصارى - عليهم لعائن الله المتتابعة -، بل هي لابتداء الغاية كما في الآية الأخرى.
وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله في قوله: هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ [سورة هود:64]، وفي قوله: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [سورة الحج:26]، وكما ورد في الحديث الصحيح: فأدخل على رَبِّي في داره[4] أضافها إليه إضافة تشريف لها، وهذا كله من قبيل واحدٍ، ونمَط واحد".

قول النبي ﷺ: فأدخل على رَبِّي في داره يعني في الجنة، والله أعلم.
ومن الأمثلة اليسيرة على بطلان عقيدة النصارى لو أردنا أن نجادلهم في العبارات التي في كتبهم، ويجعلونها ديناً لهم - مع أننا نقول: إن هذه العبارات قد تكون من المحرف - أنهم ينسبون إلى عيسى - عليه الصلاة والسلام - أنه عبّر عن ربه بقوله: "أبي"، فنقول: إن التربية، والتربيب؛ يدخل فيها التربيب بالعلم، والرعاية وما إلى ذلك، ويدخل فيها أيضاً تربية الأبدان، والمربي في لغة العرب يقال له أب، فإذا صحَّ أن عيسى قال عن ربه "أبي" فإنه يقصد بذلك لفظة "ربي"، وليس ما تزعمه النصارى - عليهم لعائن الله -.
"وقوله: فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ [سورة النساء:171] أي: فصدقوا بأن الله واحد أحد، لا ولد له، ولا صاحبة، واعلموا وتيقنوا بأن عيسى عبد الله، ورسوله؛ ولهذا قال تعالى: وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ [سورة النساء:171] أي: لا تجعلوا عيسى وأمه مع الله شريكين - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً -.
وهذه الآية كالتي في سورة المائدة حيث يقول تعالى: لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ [سورة المائدة:73] وكما قال في آخر السورة المذكورة: وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي [سورة المائدة:116] وقال في أولها: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ الآية [سورة المائدة:72] فالنصارى - عليهم لعنة الله - من جهلهم ليس لهم ضابط، ولا لكفرهم حد، بل أقوالهم وضلالهم منتشر، فمنهم من يعتقده إلهًا، ومنهم من يعتقده شريكاً، ومنهم من يعتقده ولدًا، وهم طوائف كثيرة لهم آراء مختلفة، وأقوال غير مؤتلفة، ولقد أحسن بعض المتكلمين حيث قال: لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا على أحد عشر قولاً".

فالطوائف المنحرفة من النصارى متفقون على الكفر، والضلال، والتثليث، ولكنهم يختلفون في تفصيل ذلك، فهم يقولون: هو جوهر واحد، ولكن له ثلاثة أقانيم، ثم يختلفون في تفسير الأقانيم هل هي صفات أو غير ذلك، فبعضهم يقول: هي الوجود، والحياة، والعلم، وبعضهم يقول: إنه الله، وعيسى، وجبريل، وبعضهم يقول: إن الوجود يرمز إلى الله، والحياة إلى جبريل، وبعضهم يقول: الله، وعيسى، ومريم، إلى غير ذلك من كفرهم الذي يختلفون فيه كثيراً، ولو طلب منهم أن يفسروا هذا التثليث كيف يكون ثلاثة في واحد لم يستطيعوا، ولذلك فإن من أفسد العقائد البشرية هي عقيدة التثليث، وأهل هذه العقيدة أكثر ما ينازعون فيه، ويُحتج عليهم به؛ هي عقيدة التثليث التي هي أصل اعتقادهم، وأعظم قضية في دينهم، وهم ليسوا متثبتين منها، ولا على يقين إطلاقاً.
"ولقد ذكر بعض علمائهم المشاهير عندهم وهو سعيد بن بطْرِيق - بطْرَكُ الإسكندرية - في حدود سنة أربعمائة من الهجرة النبوية أنهم اجتمعوا في المجمع الكبير الذي عقدوا فيه الأمانة الكبيرة التي لهم".

سعيد هذا هو ابن بطريق، لكن البطريك هو رئيس الأساقفة عند النصارى كما قال: "بطرك الإسكندرية" أي مقدمهم، أو رئيس رؤساء الأساقفة، وقد يطلق مثل هذا على العالم عند اليهود، لكنه اشتهر عند النصارى.
"أنهم اجتمعوا في المجمع الكبير الذي عقدوا فيه الأمانة الكبيرة التي لهم؛ وإنما هي الخيانة الحقيرة الصغيرة".

هذا حينما تركوا العمل بالتوراة لشدة كراهيتهم لليهود، فبقوا من غير شريعة؛ لأن عيسى لم يبعث بشرع جديد، فلم يكن عندهم قانون يتحاكمون إليه، ولا نظام يضبطون معاملاتهم، وسلوكهم به؛ فالذي حصل أنهم اخترعوا هذا القانون الذي سموه بالأمانة الكبيرة.
"وذلك في أيام قسطنطين باني المدينة المشهورة، وأنهم اختلفوا عليه اختلافًا لا ينضبط، ولا ينحصر، فكانوا أزيد من ألفين أَسْقُفًا".

الأسقف هو مرتبة دينية أعلى من القسيس، ودون المطرم عندهم.
"فكانوا أزيد من ألفين أَسْقُفًا، فكانوا أحزابًا كثيرة، كل خمسين منهم على مقالة، وعشرون على مقالة، ومائة على مقالة، وسبعون على مقالة، وأزيد من ذلك وأنقص، فلما رأى منهم عصابة قد زادوا على الثلاثمائة بثمانية عشر نفرًا وقد توافقوا على مقالة؛ فأخذها الملك، ونصرها، وأيدها - وكان فيلسوفًا داهية -، ومَحَقَ ما عداها من الأقوال، وانتظم دَسْتُ أولئك الثلاثمائة والثمانية عشر".

يعني أن المبرر لاختيار مقالة أهل التثليث التي اعتمدها قسطنطين هي أنهم زادوا على الثلاثمائة بقليل! فهم أكثر مجموعة كانت عند النصارى اتفقت على قول بهذا العدد، فاعتمد قولهم ديناً لهم بهذه الطريقة!!
"وبنيت لهم الكنائس، ووضعوا لهم كتبًا، وقوانين، وأحدثوا فيها الأمانة التي يلقنونها الولدان من الصغار ليعتقدوها، ويُعَمّدونهم عليها، وأتباع هؤلاء هم الملكية، ثم إنهم اجتمعوا مجمعاً ثانيًا فحدث فيهم اليعقوبية، ثم مجمعًا ثالثًا فحدث فيهم النسطورية، وكل هذه الفرق تثبت الأقانيم الثلاثة في المسيح، ويختلفون في كيفية ذلك، وفي اللاهوت والناسوت على زعمهم هل اتحدا أو ما اتحدا، أو امتزجا أو حل فيه؟ على ثلاث مقالات! وكل منهم يكفر الفرقة الأخرى، ونحن نكفر الثلاثة".

اللاهوت يقصدون به الإله، والناسوت يعني الناس، ويريدون عيسى - عليه الصلاة والسلام - أي هل اتحد معه أو مازجه كما يمازج الملح الماء مثلاً، أو أنه حل فيه ولم يتحد معه، يوجد خلاف بينهم في هذه الأقوال التي هي كلها في غاية الكفر، والضلال.
وكل منهم يكفر الفرقة الأخرى، ونحن نكفر الثلاثة.
هكذا هي عقائدهم الفاسدة، ومع ذلك ترى من أبناء المسلمين من يغتر ويعجب بهم، ويقلدهم، وينشر مبادئهم، وأزياءهم، وأفكارهم، وما عندهم من حضارة - كما يزعمون -، فتفسد العقائد، والأخلاق في أوساط المسلمين.
حدثني أحد الإخوة أنه لقي شاباً صغيراً عمره ست عشرة سنة قد تنصر، ولبس الصليب، وتخلى عن دين الإسلام؛ بسبب ما يشاهده في القنوات، وإن كان قد رجع عن هذا بعد أن بقي على هذا الأمر مدة - ولله الحمد -، لكن نقول: إن هذه الأمور الجسام تقع بسبب إتيانهم بالفاتنات، والممثلات، ويعرضونهم على أنهم في غاية البريق، واللمعان، والنجومية، وتركز الكاميرا على الصليب الذي يلبسه في رقبته، وفي يده، وعلى الوشم؛ فيدمن الشاب رؤية هذا الأشياء، ويعجب بها غاية الإعجاب، ثم يجد نفسه قد دخل في دينهم، ولا غرابة.
وقد رأيت عند هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كيساً مليئاً بالصلبان، وقالوا: إنها مما يلبسها الشباب في السوق، وقالوا: إنهم وجدوا أحد الشباب الصغار في السادسة عشرة من عمره - وهو ابن لأحد الدعاة - يلبس لباساً في غاية السوء، فقلت: هلا سألتموه؟ فقالوا: سألناه هل أنت مقتنع بهذا الصليب؟ فقال: إنه تجديد!!
يا تُرى هل هؤلاء القوم بهذه العقائد مما يصح أن نُعجب بهم، أو بعقائدهم؟ فالله المستعان.
"ولهذا قال تعالى: انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ [سورة النساء:171] أي: يكن خيراً لكم إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ [سورة النساء:171] أي: تعالى وتقدس عن ذلك علواً كبيراً.
لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً [سورة النساء:171] أي: الجميع ملكه، وخلقه، وجميع ما فيها عبيده، وهم تحت تدبيره، وتصريفه، وهو وكيل على كل شيء، فكيف يكون له منهم صاحبة، وولد؟ كما قال في الآية الأخرى: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ الآية [سورة الأنعام:101]، وقال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ۝ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا [سورة مريم:88-89] إلى قوله: فَرْدًا [سورة مريم:95]".
  1. أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء - باب قول الله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا [سورة مريم:16] (3261) (ج 3 / ص 1271) وأحمد (164) (ج 1 / ص 24).
  2. أخرجه أحمد (12573) (ج 3 / ص 153) ولفظه: عليكم بتقواكم بدل قولكم وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم ورجاله ثقات رجال الشيخين غير حماد بن سلمة فمن رجال مسلم.
  3. أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء - باب قوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ.. [سورة النساء:171] (3252) (ج 3 / ص 1267) ومسلم في كتاب الإيمان - باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً (28) (ج 1 / ص 57).
  4. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [سورة القيامة:22-23] (7002) (ج 6 / ص 2708).

مرات الإستماع: 0

"يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171] هذا خطابٌ للنصارى؛ لأنهم غلوا في عيسى، حتى كفروا، فلفظ: أَهْلَ الْكِتَابِ عمومٌ يُراد به الخصوص في النصارى، بدليل ما بعد ذلك، والغلو هو الإفراط، وتجاوز الحد".

وفي الحديث: لا تطروني، كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله، ورسوله[1] كما قال الله : مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ [المائدة:75] لكن تخصيص ذلك بالنصارى كما يقول هنا: "فلفظ: أَهْلَ الْكِتَابِ عمومٌ، يُراد به الخصوص في النصارى" ولكن اليهود غلوا أيضًا، فالآية: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ [النساء:171] تشمل اليهود أيضًا؛ لأنه وقع عندهم غلوا بشأن المسيح - عليه الصلاة، والسلام - فاتهموه بأنه ابن لغير رِشدة - نسأل الله العافية - اتهموا أمه، فهذا لا شك أنه غلو؛ ولذلك حملها بعض أهل العلم على ظاهرها من العموم، وأنها في أهل الكتاب يعني اليهود، والنصارى، فهؤلاء حصل لهم غلو من جهة الإفراط، وهؤلاء حصل لهم غلوٌ من جهة التفريط، فكل هؤلاء غلو في شأن المسيح، فكانوا على طرفين، إلا من هداه الله للحق.

يقول: "بدليل ما بعد ذلك" يقصد بما جاء بعد ذلك من ذكر المسيح إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [النساء:171] إلى آخره وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ [النساء:171] فالذين قالوا: ثَلاثَةٌ هم النصارى.

فقال: "هذا عمومٌ، يُراد به الخصوص" والعموم الذي يُراد به الخصوص معروف، والفرق بينه، وبين العام المخصوص: أن العام المخصوص الذي هو عام، وجاء دليل يُخصصه، وأما العام المراد به الخصوص: فهذا لم يرد فيه دليل يخرج بعض الأفراد، وإنما جاء اللفظُ عامًا ابتداءً، لكن لا يُراد به العموم، وإنما يُراد به فرد واحد، أو بعض ما يصدق عليه العام ابتداءً، ولم يُخرج ذلك دليل يخرج بعض الأفراد كما في العام المخصوص، إلى غير ذلك من الفروقات التي يذكرونها، وبعضها صحيح، وبعضها غير صحيح.

"وَكَلِمَتُهُ [النساء:171] أي: مكونٌ عن كلمته التي هي (كن) من غير واسطة أبٍ، ولا نطفة".

وَكَلِمَتُهُ [النساء:171] يعني أنه كان بالكلمة، فهذا المعنى هو الذي اختاره ابن جرير[2] والحافظ ابن كثير[3] يعني هو متسببٌ عن الكلمة، وُجد بسبب الكلمة، وأُطلق عليه كلمة، فيكون من باب إطلاق السبب على المُسبَب، كما قيل: 

إذا نزل السماء بأرض قومٍ رعيناه، ولو كانوا غضابا[4].

فالسماء: يعني المطر، فلمّا كان المطر سببًا لظهور الكلأ عُبِّر به عنه، وهنا يقول: "أي: مكونٌ عن كلمته التي هي (كن) من غير، وساطة أبٍ، ولا نطفة" كما قال الله : إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59].

"وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء:171] أي: ذو روحٍ من الله، فـمِنْ هنا لابتداء الغاية، والمعنى من عند الله، وجعله من عند الله؛ لأن الله أرسل به جبريل - عليه الصلاة، والسلام - إلى مريم".

يعني مبتدئة من الله، والمعنى من عند الله، كقوله - تبارك، وتعالى -: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13] والنصارى يحتجون بقوله: وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء:171] على أنه روح الله، ويقولون: بأن هذه الروح غير مخلوقة، فهو جزءٌ من الله، والواقع أن هذا غير صحيح؛ لأن هذه الروح مخلوقة، ومِنْ هذه ابتدائية، ويُقال: هو روح الله بمعنى التشريف، فأُضيف إلى الله تشريفًا، كما يُقال: بيت الله، وناقة الله، ونحو ذلك.

يقول: "لأن الله أرسل به جبريل إلى مريم" فهذه الآية وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13] يُرد بها على النصارى، حينما يحتجون بقوله: وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء:171] فيقولون: معنى ذلك أنه جزءٌ من الله، فيقال لهم وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13] هل ما في السماوات، وما في الأرض هو جزءٌ من الله؟ فإذا قالوا: لا، نقول لهم: وكذلك أيضًا قولوا في المسيح - عليه الصلاة، والسلام - ولا يمكن أن يقولوا: جميع ما في السماوات، والأرض هو جزءٌ من الله، فكذلك يُقال في المسيح .

يقول: "والمعنى من عند الله، وجعله من عند الله؛ لأن الله أرسل به جبريل - عليه الصلاة، والسلام - إلى مريم" كما قال: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا [الأنبياء:91] وقال: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا [التحريم:12] فنفخ الملك في درعها، وفي جيبها، وصارت هذه النفخة إلى فرجها، فحملت بعيسى .

"وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ [النساء:171] نهيٌ عن التثليث، وهو مذهب النصارى [وفي النسخة الخطية: نهيٌ عن التثليث الخبيث، وهو مذهب النصارى] وإعراب ثَلاثَةٌ خبرٌ لمبتدأٍ مضمر".

"وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ نهيٌ عن التثليث" والنصارى متفقون على التثليث، لكن يختلفون في التعبير عنه، وتوصيف ذلك، فيقولون مثلاً: هو جوهرٌ واحد، وله ثلاثة أقانيم: أقنوم الوجود، والحياة، والعلم، وربما عبَّروا عنها بالأب، والابن، والروح القدس، فيعنون بالأب أحيانًا الوجود، وبالروح الحياة، وبالابن المسيح .

وبعضهم يقول: بأن الآلهة الثلاثة: الله، ومريم، والمسيح، وهؤلاء طوائف كثيرة، بينهم اختلافات كثيرة جدًا، حتى قال بعض المتكلمين: لو اجتمع عشرة من النصارى لاختلفوا على أحد عشر قولاً، أو نحو ذلك، فهذا حال النصارى في كثرة الاختلاف.

وأصعب سؤال يُوجَّه إلى كبرائهم فضلاً عن دهمائهم هو هذا السؤال: كيف يكون ثلاثة بمعنى واحد؟ هذا لا يمكن، ولا يكون، ولا يصير؛ ولذلك هذا السؤال يستفزهم كثيرًا، ولا يستطيعون الجواب عنه، فالحمد لله الذي هدانا للإيمان، وعقيدة التوحيد، ونسأل الله أن يثبِّتنا على ذلك إلى أن نلقاه.

يقول: "وإعراب ثَلاثَةٌ خبرٌ لمبتدأٍ مضمر" يعني، ولا تقولوا: آلهتنا ثلاثة، أو المعبود ثلاثة.

وبعضهم يقول التقدير: الله ثالث ثَلاثَةٌ ثم حُذف المضاف، وأُقيم المضاف إليه مقامه (ثالث) هذا مضاف، فحُذف المضاف، وأُقيم المضاف إليه، الذي هو ثَلاثَةٌ مقامه، لكن ما ذُكر قبل ذلك أوضح، أي: لا تَقُولُوا المعبود ثَلاثَةٌ أو آلهتنا ثَلاثَةٌ أو وَلا تَقُولُوا الآلهة ثَلاثَةٌ ونحو ذلك- والله أعلم -.

"لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [النساء:171] برهانٌ على تنزيهه تعالى عن الولد؛ لأنه مالك كل شيء".

يعني إذا كان لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [النساء:171] فكل من في هذا الوجود هو خلقه، وهم عبيده، ومماليكه، والولد جزءٌ من الوالد، والله غنيٌ عن الولد، وإنما يكون الولد للحاجة، والفقر، والله - تبارك، وتعالى - غنيٌ بذاته عن خلقه، فإذا كان كل ما سواه فهو مخلوق، ومربوب، وعبدٌ لله ومملوكٌ له لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [النساء:171] فمن ذلك المسيح - عليه الصلاة، والسلام - قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [المائدة:17] فهؤلاء كلهم خلقه، ومماليكه.

  1.  أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا [مريم:16] برقم: (3445).
  2.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/422).
  3.  تفسير ابن كثير ت سلامة (2/478).
  4.  البيت دون نسبة في غريب الحديث لابن قتيبة (1/440) والصحاح تاج اللغة، وصحاح العربية (6/2382) ومقاييس اللغة (3/98) ونسبه في تاج العروس (38/303) للفرزدق، وفي لسان العرب (14/399) لمعاوية بن مالك.