السبت 26 / ذو القعدة / 1446 - 24 / مايو 2025
وَإِنْ أَرَدتُّمُ ٱسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَىٰهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا۟ مِنْهُ شَيْـًٔا ۚ أَتَأْخُذُونَهُۥ بُهْتَٰنًا وَإِثْمًا مُّبِينًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً [سورة النساء:20].
أي: إذا أراد أحدكم أن يفارق امرأة، ويستبدل مكانها غيرها؛ فلا يأخذن مما كان أصدق الأولى شيئاً، ولو كان قنطاراً من مال."

هذا في حال ما إذا كانت الرغبة عنها ناتجة، ومبتدأة منه.
"وقد قدمنا في سورة آل عمران الكلام على القنطار بما فيه كفاية عن إعادته هاهنا، وفي هذه الآية دلالة على جواز الإصداق بالمال الجزيل، وقد كان عمر بن الخطاب نهى عن كثرة الإصداق، ثم رجع عن ذلك، كما روى الإمام أحمد عن أبي العجفاء السلمي، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: "ألا لا تغلوا في صداق النساء فإنها لو كانت مَكرُمة في الدنيا، أو تقوى عند الله؛ كان أولاكم بها النبي ﷺ، ما أصدق رسول الله ﷺ امرأة من نسائه، ولا أُصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، وإن كان الرجل ليبتلى بصَدُقَة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه، وحتى يقول: كَلِفتُ إليك عَلَق القِربة."

عَلَق القِربة: وهو حبل تعلق به، أي: تحملت لأهلك كل شيء حتى علق القربة، ويقال في أمر يوجد فيه كلفة، ومشقة، ولذلك لا يتحمل أن يرى منها تقصيراً، ويريد امرأته أن تكون كاملة في كل شيء.
"ثم رواه الإمام أحمد، وأهل السنن من طرق، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وروى الحافظ أبو يعلى عن مسروق قال: ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله ﷺ، ثم قال: أيها الناس ما إكثاركم في صُدُق النساء!!، وقد كان رسول الله ﷺ، وأصحابه، والصَّدُقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله، أو كرامة لم تسبقوهم إليه، فلا أعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم، قال: ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين نهيت الناس أن يزيدوا النساء صداقهم على أربعمائة درهم، قال: نعم، فقالت: أما سمعت ما أنزل الله في القرآن؟ قال: وأي ذلك؟ فقالت: أما سمعت الله يقول: َوَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا [سورة النساء:20] الآية؟ فقال: اللهم غفراً، كل الناس أفقه من عمر، ثم رجع فركب المنبر، فقال: إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صداقهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب، قال أبو يعلي: وأظنه قال: فمن طابت نفسه فليفعل. إسناده جيد قوي.

مرات الإستماع: 0

"وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ [النساء:20] الآية، معناها: المنع من أن يأخذ الرجل من المرأة فديةً على الطلاق إن أراد أن يبدلها بأخرى، وعلى هذا جرى مذهب مالكٍ، وغيره في المنع من الفدية إذا كان الضرر، وأرادت الفراق من الزوج، وقال قوم: إنّ هذه الآية منسوخةً بقوله في البقرة: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229]، وقال قوم: هي ناسخة، والصحيح أنها غير ناسخةٍ، ولا منسوخة، فإنّ جواز الفدية على وجهٍ، ومنعها على وجهٍ، فلا تعارض، ولا نسخ".

لا تعارض، ولا نسخ، هذا صحيح، فهذه الآية لها محمل، وتلك الآية لها محملٌ آخر، وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا [النساء:20] إذا أراد أن يطلقها، ويتزوج أخرى فلا يجوز له أن يأخذ العوض عن ذلك، وأن يسترجع المهر؛ لأنه لا رغبة له فيها، فلا يحل له أن يأخذ منها شيئًا، هذا في هذه الحالة، وأمَّا الفدية فذلك إذا كان ذلك مبتدأ من المرأة، هي التي لا ترغب بالزوج، وهو راغبٌ فيها، فيجوز له أن يأخذ منها الفدية.

ويقول: "وقال قوم: إنّ هذه الآية منسوخةً بقوله في البقرة: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229]" وهذا غير صحيح، والنسخ لا يثبت بالاحتمال.

"وقال قوم: هي ناسخة"، يعني: هذه الآية التي تحرم أخذ الافتداء ناسخة لما سبق من آية البقرة.

ونقل ابن جرير - رحمه الله - قول بكر بن عبد الله المزني: أنها منسوخة بآية البقرة[1] وهذا القول: بأنها منسوخة بآية البقرة، مروي عن بكر بن عبد الله المزني، ولا يُعرف ذلك لغيره، فابن جرير - رحمه الله - رده بإجماع الصحابة، والتابعين، والمسلمين بعدهم على جواز أخذ الفدية[2] فيكون قول بكر بن أبي عبد الله المزني شاذًا لا يعتد به.

وبيَّن ابن جرير - رحمه الله - محمل كل من الآيتين، أن هذه في من لا رغبة له في المرأة، يريد أن يطلقها فلا يجوز له أن يأخذ العوض، أو أن يسترجع المهر.

وأمَّا جواز الافتداء فإن ذلك يكون إذا كانت المرأة لا رغبة لها في الرجل مع رغبته فيها، وبنحو هذا التفصيل قال جماعة: كابن عطية[3] ونقل الإجماع على ما سبق أيضًا، والنحاس أيضًا في كتابه "الناسخ، والمنسوخ"[4] ذكر أيضًا شذوذ قول بكر بن عبد الله المزني، وأنه مخالفٌ للإجماع، فتكون هذه الآية لا ناسخة، ولا منسوخة، وإنما هما حالتان:

حالة يجوز فيها أخذ الفدية، وحالة لا يجوز الأخذ فيها، والله أعلم.

"قِنْطارًا مثالٌ على جهة المبالغة في الكثرة، وقد استدلت به المرأة على جواز المغالاة في المهور، حين نهى عمر بن الخطاب عن ذلك، فقال عمر : "امرأةٌ أصابت، ورجل أخطأ، كل الناس أفقه منك يا عمر"[5].

نحن عرفنا من قبل أن القنطار: هو المال الكثير، وأنه لا يحد، والعرب تقول القنطار: للمال الكثير، وهذا على سبيل المبالغة في الكثرة، يعني: ولو آتاها مالًا كثيرًا فهو يتأسف على هذا المال الذي أعطاها، يريد أن يسترجعه، لما ضعفت رغبته، أو انعدمت فيها، فالقليل من باب أولى؛ لأنه لا يأسف على القليل وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا [النساء:20] فما دون القنطار من باب أولى.

والرواية هذه عن عمر في المغالاة في المهور، وفي الخطبة، وكذلك رد المرأة عليه، فهذا في إسناده من طرقه المتعددة انقطاع.

والثابت عن عمر  فيما أخرجه أصحاب السنن الأربع[6] والإمام أحمد[7] - رحمه الله - وغيرهم، نهيه عن المغالاة في المهور، وليس فيه الذكر الرجوع عنه.

وأمَّا هذه الراوية التي فيها ذكر المرأة، سواء أكانت من رواية سعيد بن المسيب عن عمر، وهو لم يسمع منه، وكذلك في رواياتٍ أخرى، كالشعبي عن عمر[8] وغير هؤلاء، فكلها لا تخلو من انقطاع، وفيها: أنه قام على منبره فحمد الله، وأثنى عليه، فقال: ألا تغالوا في صدقات النساء.

وهذا الذي ذكره في الهامش هو إحدى الألفاظ، والروايات لهذه الواقعة، وفيها قول عمر: "فإنها لو كانت مُكرمة في الدنيا، أو تقوى عند الله، كان أولاكم بها نبيكم ﷺ ما زيدت امرأةٍ من نسائه، ولا بناته على اثنتي عشرة أوقية؛ وذلك أربعمائة درهم، وثمانين درهمًا[9]... إلى آخره. 

فالشاهد: أن المرأة قامت، واعترضت، لكن الرواية ثابتة من غير اعتراض المرأة، وهذه الرواية التي فيها اعتراض المرأة قال عنها الحافظ ابن كثير -رحمه الله -: إسناده جيدٌ قوي[10] مع أن الرواية التي ذكر ابن كثير - رحمه الله - مدارها على راوٍ يقال: له مجالد بن سعيد، وهو ضعيف، فالرواية لا تصح، وبعضهم ألف رسالة مستقلة في هذا "كل الناس أفقه منك يا عمر".

  1.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (8/132).
  2.  المصدر السابق (4/581).
  3.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/308).
  4.  الناسخ، والمنسوخ للنحاس (ص:227).
  5.  بنحوه في سنن سعيد بن منصور (1/195-598)، وشرح مشكل الآثار (13/57-5059)، ومصنف عبد الرزاق الصنعاني (6/180-10420).
  6.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب النكاح برقم: (1114)، وأبو داود في كتاب النكاح، باب الصداق برقم: (2106)، وابن ماجه في كتاب النكاح، باب صداق النساء برقم: (1887)، وصححه الألباني.
  7.  أخرجه أحمد ط الرسالة (1/382-285)، وقال محققو المسند: "حديث صحيح".
  8.  سنن سعيد بن منصور (1/195)، وشرح مشكل الآثار (13/57-5059).
  9.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب النكاح برقم: (1114)، وأبو داود في كتاب النكاح، باب الصداق برقم: (2106)، وابن ماجه في كتاب النكاح، باب صداق النساء برقم: (1887)، وصححه الألباني.
  10.  تفسير ابن كثير ت سلامة (2/244).