"وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ [النساء:20] الآية، معناها: المنع من أن يأخذ الرجل من المرأة فديةً على الطلاق إن أراد أن يبدلها بأخرى، وعلى هذا جرى مذهب مالكٍ، وغيره في المنع من الفدية إذا كان الضرر، وأرادت الفراق من الزوج، وقال قوم: إنّ هذه الآية منسوخةً بقوله في البقرة: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229]، وقال قوم: هي ناسخة، والصحيح أنها غير ناسخةٍ، ولا منسوخة، فإنّ جواز الفدية على وجهٍ، ومنعها على وجهٍ، فلا تعارض، ولا نسخ".
لا تعارض، ولا نسخ، هذا صحيح، فهذه الآية لها محمل، وتلك الآية لها محملٌ آخر، وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا [النساء:20] إذا أراد أن يطلقها، ويتزوج أخرى فلا يجوز له أن يأخذ العوض عن ذلك، وأن يسترجع المهر؛ لأنه لا رغبة له فيها، فلا يحل له أن يأخذ منها شيئًا، هذا في هذه الحالة، وأمَّا الفدية فذلك إذا كان ذلك مبتدأ من المرأة، هي التي لا ترغب بالزوج، وهو راغبٌ فيها، فيجوز له أن يأخذ منها الفدية.
ويقول: "وقال قوم: إنّ هذه الآية منسوخةً بقوله في البقرة: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229]" وهذا غير صحيح، والنسخ لا يثبت بالاحتمال.
"وقال قوم: هي ناسخة"، يعني: هذه الآية التي تحرم أخذ الافتداء ناسخة لما سبق من آية البقرة.
ونقل ابن جرير - رحمه الله - قول بكر بن عبد الله المزني: أنها منسوخة بآية البقرة وهذا القول: بأنها منسوخة بآية البقرة، مروي عن بكر بن عبد الله المزني، ولا يُعرف ذلك لغيره، فابن جرير - رحمه الله - رده بإجماع الصحابة، والتابعين، والمسلمين بعدهم على جواز أخذ الفدية فيكون قول بكر بن أبي عبد الله المزني شاذًا لا يعتد به.
وبيَّن ابن جرير - رحمه الله - محمل كل من الآيتين، أن هذه في من لا رغبة له في المرأة، يريد أن يطلقها فلا يجوز له أن يأخذ العوض، أو أن يسترجع المهر.
وأمَّا جواز الافتداء فإن ذلك يكون إذا كانت المرأة لا رغبة لها في الرجل مع رغبته فيها، وبنحو هذا التفصيل قال جماعة: كابن عطية ونقل الإجماع على ما سبق أيضًا، والنحاس أيضًا في كتابه "الناسخ، والمنسوخ" ذكر أيضًا شذوذ قول بكر بن عبد الله المزني، وأنه مخالفٌ للإجماع، فتكون هذه الآية لا ناسخة، ولا منسوخة، وإنما هما حالتان:
حالة يجوز فيها أخذ الفدية، وحالة لا يجوز الأخذ فيها، والله أعلم.
"
قِنْطارًا مثالٌ على جهة المبالغة في الكثرة، وقد استدلت به المرأة على جواز المغالاة في المهور، حين نهى عمر بن الخطاب عن ذلك، فقال عمر
: "امرأةٌ أصابت، ورجل أخطأ، كل الناس أفقه منك يا عمر"

.
نحن عرفنا من قبل أن القنطار: هو المال الكثير، وأنه لا يحد، والعرب تقول القنطار: للمال الكثير، وهذا على سبيل المبالغة في الكثرة، يعني: ولو آتاها مالًا كثيرًا فهو يتأسف على هذا المال الذي أعطاها، يريد أن يسترجعه، لما ضعفت رغبته، أو انعدمت فيها، فالقليل من باب أولى؛ لأنه لا يأسف على القليل وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا [النساء:20] فما دون القنطار من باب أولى.
والرواية هذه عن عمر في المغالاة في المهور، وفي الخطبة، وكذلك رد المرأة عليه، فهذا في إسناده من طرقه المتعددة انقطاع.
والثابت عن عمر فيما أخرجه أصحاب السنن الأربع والإمام أحمد - رحمه الله - وغيرهم، نهيه عن المغالاة في المهور، وليس فيه الذكر الرجوع عنه.
وأمَّا هذه الراوية التي فيها ذكر المرأة، سواء أكانت من رواية سعيد بن المسيب عن عمر، وهو لم يسمع منه، وكذلك في رواياتٍ أخرى، كالشعبي عن عمر وغير هؤلاء، فكلها لا تخلو من انقطاع، وفيها: أنه قام على منبره فحمد الله، وأثنى عليه، فقال: ألا تغالوا في صدقات النساء.
وهذا الذي ذكره في الهامش هو إحدى الألفاظ، والروايات لهذه الواقعة، وفيها قول عمر: "فإنها لو كانت مُكرمة في الدنيا، أو تقوى عند الله، كان أولاكم بها نبيكم ﷺ ما زيدت امرأةٍ من نسائه، ولا بناته على اثنتي عشرة أوقية؛ وذلك أربعمائة درهم، وثمانين درهمًا... إلى آخره.
فالشاهد: أن المرأة قامت، واعترضت، لكن الرواية ثابتة من غير اعتراض المرأة، وهذه الرواية التي فيها اعتراض المرأة قال عنها الحافظ ابن كثير -رحمه الله -: إسناده جيدٌ قوي مع أن الرواية التي ذكر ابن كثير - رحمه الله - مدارها على راوٍ يقال: له مجالد بن سعيد، وهو ضعيف، فالرواية لا تصح، وبعضهم ألف رسالة مستقلة في هذا "كل الناس أفقه منك يا عمر".