السبت 26 / ذو القعدة / 1446 - 24 / مايو 2025
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُۥ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَٰقًا غَلِيظًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ [سورة النساء:21] أي: وكيف تأخذون الصداق من المرأة، وقد أفضيت إليها، وأفضت إليك، قال ابن عباس - ا -، ومجاهد، والسدي، وغير واحد: يعني بذلك الجماع.
وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال للمتلاعنين بعد فراغهما من تلاعنهما: الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ ثلاثاً، فقال الرجل: يا رسول الله مالي؟ يعني - ما أصدقها - قال: لا مال لك، إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها[1]، ولهذا قال الله تعالى: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ."

فإن الاستفهام في قوله سبحانه: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ استفهام استنكاري، وأما الإفضاء في قوله: وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ فأصله المخالطة، يقال للشيء المختلط: فضاء، ويقال: القوم فوضى، وفضاء، أي: مختلطون لا أمير عليهم، وفسر الإفضاء في الآية بأنه الخلوة، وقالت طائفة: الإفضاء بأن يكون معها في لحاف واحد جامَعَ، أو لم يجامع، وفسر بأجلى صوره، وهو الجماع، فالإفضاء يكون بهذه الألوان من المخالطة، وغايته الجماع.
ولذلك لما قال الله : لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [سورة الممتحنة:8] عدى الفعل تقسطوا بإلي؛ وذلك لأنه مضمن معنى الإفضاء إلى هؤلاء الكفار الذين لم يقاتلوا في الدين، والخلاصة أن الإفضاء قد يفسر في كل مقام بحسبه، إلا أن أصله يبقى بمعنى المخالطة، - والله أعلم -.
"وقوله: وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا، روى عن ابن عباس - ا -، ومجاهد، وسعيد بن جبير أن المراد بذلك العقد، وفي صحيح مسلم عن جابر في خطبة حجة الوداع: أن النبي ﷺ قال فيها: واستوصوا بالنساء خيراً، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله[2]."

أصل الميثاق: العهد، وحمل الحافظ ابن كثير - رحمه الله - الميثاق في الآية على العقد، وهذا لا يعارض القول بأن الإمساك بمعروف، أو التسريح بإحسان هو مقتضى العقد، وقد ذكرت طائفة من أهل العلم كابن جرير، وغيره أنهم كانوا إذا تزوج الرجل يقولون له: عليك عهد الله، وميثاقه أن تمسك بمعروف، أو تسرح بإحسان، أو كلاماً نحوه، وكلا التفسيرين صحيح، ومعلوم أن مجرد الإيجاب، والقبول بين الرجل، والمرأة يوجب علي الرجل أن يمسك بمعروف، أو يفارق بإحسان، - والله أعلم -. 
  1. أخرجه البخاري في كتاب الطلاق - باب قول الإمام للمتلاعنين: إن أحدكما كاذب فهل منكما من تائب؟ (5006) (ج 5 / ص 2035)، ومسلم في كتاب اللعان (1493) (ج 2 / ص 1130).
  2. رواه البخاري في كتاب النكاح – باب الوصاة بالنساء برقم (4890)، ورواه مسلم في كتاب الحج – باب حجة النبي ﷺ برقم (1218).

مرات الإستماع: 0

"أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ [النساء:21] كنايةٌ عن الجماع."

فالإفضاء إلى الشيء بمعنى الانتهاء إليه، (أفضى إلى زوجته، امرأته)؛ يعني: انتهى إليها من غير حائل، وفُسر بالمخالطة، والخلوة؛ يعني الوصول إلى الشيء بالمباشرة.

أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ ولذلك هنا قال: (كناية عن الجماع) وهذا مروي عن جماعة من السلف كـابن عباس من الصحابة  ومن التابعين كـمجاهد، والسُدِّي[1].

وقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ بحيث يكون قد عاشرها، وجامعها، فكيف يأخذ المهر؟ هذا إذا كان الزوج لا رغبة له فيها، وأمَّا إذا كان الزوج راغبًا في امرأته، وهي التي لا رغبة لها فيه فله أن يأخذ منها كما سيأتي في النشوز.

"مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21]، قيل: عقدة النكاح، وقيل قوله: فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:119]، وقيل: الأمر بحسن العشرة."

الميثاق الغليظ هنا يقول: (عقدة النكاح)، وهذا مروي عن ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير[2] وجاء في حديث جابر في الخطبة المشهورة، التي خطبها النبي ﷺ في حجة الوداع، وفيه: واسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فإِنَّكَم أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى[3] فهذا عقدة النكاح.

يقول: وقيل قوله: فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ يعني: يكون كما يقول أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -: يعني ما وثَّقتم به لهنَّ على أنفسكم[4].

وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا بما وثقتم أنتم لهنَّ على أنفسكم من العهد بذلك، هذا اختيار ابن جرير وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ولا يبعد - والله تعالى أعلم - أن يكون المراد بـ(الميثاق الغليظ) هو عقد النكاح، وما يقتضيه من حسن العشرة، وكذلك أيضًا أن يكون ذلك بإمساكٍ بمعروف أو تسريحٍ بإحسان، فهذا من مقتضيات النكاح؛ لأن الشريعة أمرت بالإحسان، وأولى الناس بالإحسان أقرب الناس إليه، وزوجه هي العشير، وأعظم المعاشرة كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : هو ما يكون بين الزوجين فهو عشيرها، وهي كذلك أيضًا فهي أولى الناس في الإحسان بإحسانه، ومعاشرتها بالمعروف.

  1.  تفسير ابن كثير (2/244).
  2. المصدر السابق (2/245)
  3.  أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي ﷺ رقم: (1218).
  4. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (8/127).