الثلاثاء 01 / ذو القعدة / 1446 - 29 / أبريل 2025
وَلَا تَنكِحُوا۟ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةً وَمَقْتًا وَسَآءَ سَبِيلًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقال تعالى: وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء [سورة النساء:22] الآية، يحرم الله - تعالى - زوجات الآباء تكرمة لهم، وإعظاماً، واحتراماً أن توطأ من بعده، حتى إنها لتحرم على الابن بمجرد العقد عليها، وهذا أمر مجمع عليه، وروى ابن جرير عن ابن عباس - ا - قال: كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله إلا امرأة الأب، والجمع بين الأختين، فأنزل الله - تعالى -: وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء [سورة النساء:22]، وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ [سورة النساء:23]، وهكذا قال عطاء، وقتادة."
أورد أهل التفسير في إعراب "ما" في قوله سبحانه: وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء، وجهين من الإعراب:
الأول: أنها مصدرية، والمعنى: لا تنكحوا نكاح آبائكم للنساء إلا ما قد سلف، فيكون المنهي عنه طريقة الآباء في النكاح زمن الجاهلية، والذي من جملته التزوج بزوجة الأب، ولم يعهد بين أهل الجاهلية هذا النوع من الزواج عن جميعهم، ولذا كانوا يمقتونه، ويسمونه نكاح المقت، ويطلقون على الرجل المتزوج بزوجة أبيه "الضيزن"، فهو عمل بغيض عندهم، وهذا المحمل هو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، والذي حمل القائلين من أهل العلم على هذا القول هو أن لفظة [ما] تأتي في الأصل لغير العاقل، وقد يعبر بها في حالات عمن يوصف بالعقل، وذلك إذا كان من باب التغليب، فيغلب من يعقل على من لا يعقل مثلاً، أو بحسب الكثرة؛ لأنه أكثر...، لكن هنا حصر ذلك كله في صنف واحد، وهو النساء.
الثاني: أنها موصولة، والمعنى على ذلك لا تنكحوا الذي نكحه آباؤكم من النساء.
"قوله سبحانه: إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ يمكن أن يكون الاستثناء منقطعاً، والمعنى أن ما قد مضى قبل نزول التشريع فإن الله لا يؤاخذ به كما تدل عليه الآيات الكثيرة، وقد استنبط الحافظ ابن القيم من الاستثناء في الآية أن أولاد الرجل من زوجة أبيه قبل نزول الحكم تثبت لهم أحكام النكاح من ثبوت الفراش، ولحوق النسب، ولا يعتبر النكاح نكاح شبهة، يقول في كتابه - البديع - بديع الفوائد: "وأحسن من هذا عندي أن يقال: لمّا نهى سبحانه عن نكاح منكوحات الآباء أفاد ذلك أن، وطأهن بعد التحريم لا يكون نكاحاً البتة، بل لا يكون إلا سفاحاً فلا يترتب عليه أحكام النكاح من ثبوت الفراش، ولحوق النسب بل الولد فيه يكون ولد زنية، وليس هذا حكم ما سلف قبل التحريم، فإن الفراش كان ثابتاً فيه، والنسب لاحق، فأفادا الاستثناء فائدة جليلة عظيمة، وهي أن ولد من نكح ما نكح أبوه قبل التحريم ثابت النسب، وليس ولد زنا، - والله أعلم" -.
"فهو حرام في هذه الأمة مُبشّع غاية التبشّع، ولهذا قال تعالى: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً، وقال: وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [سورة الأنعام:151]، وقال: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [سورة الإسراء:32]، فزاد هنا وَمَقْتًا أي: بغضاً، أي: هو أمر كبير في نفسه، ويؤدي إلى مقت الابن أباه بعد أن يتزوج بامرأته، فإن الغالب أن من تزوج بامرأة يبغض من كان زوجها قبله، ولهذا حرمت أمهات المؤمنين على الأمة؛ لأنهن أمهات، لكونهن زوجات النبي ﷺ، وهو كالأب، بل حقه أعظم من حق الآباء بالإجماع، بل حبه مقدم على حب النفوس - صلوات الله، وسلامه عليه -."

فهذا ملحظ في العلة التي لأجلها نهي الأبناء عن تزوج زوجات آبائهم، والملحظ الآخر أن كف الأبناء عن تزوج نساء آبائهم هو مقتضى التعظيم، ولذا فإن العرب كما سبق كانت تسمي الذي يزاحم أباه في امرأته "الضيزن"، ويمكن أن يكون ذلك من جهة أن الله يمقت هذا الصنيع، ويبغضه، والمقت هو أشد البغض.
"وقال عطاء بن أبي رباح في قوله: وَمَقْتًا أي: يمقت الله عليه."

بمعنى يبغض فاعله، وهذا هو المعنى المتبادر.
"وَسَاء سَبِيلاً أي:، وبئس طريقاً لمن سلكه من الناس، فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه، فيقتل، ويصير ماله فيئاً لبيت المال."

يقيد أهل العلم إطلاق حكم الردة عليه في حالة استحلاله لذلك، وأما إذا فعله لغلبة هوى، أو نحوه بدون استحلال فلا يطلق عليه حكم الردة، وإن كان فعله منكراً عظيماً، وتجرؤاً شنيعاً، وإجراماً فظيعاً، وهذا لا يعنى أن الإنسان لا يكفر بالعمل إلا إذا استحل، إذ هناك أعمال إذا فعلها المرء يكفر، ولو لم يستحل، إلا أن هذه المسألة ليست منها، - والله أعلم -.
"كما روى الإمام أحمد، وأهل السنن من طرق عن البراء بن عازب ، عن خاله أبي بردة، وفي رواية: ابن عمر، وفي رواية: عن عمه: أنه بعثه رسول الله ﷺ إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن يقتله، ويأخذ ماله[1].

فالخلاصة أن امرأة الأب، وزوجة الابن تحرم على بعضهما بمجرد العقد سواء حصل الدخول أو لم يحصل، إجماعاً بين أهل العلم، واتفاقاً. 
  1. رواه الترمذي برقم (1362)، والنسائي برقم (3331)، وابن ماجه برقم (2608)، وأحمد برقم (18580)، وصححه الألباني في مختصر إرواء الغليل برقم (2351).

مرات الإستماع: 0

"وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء:22] كان بعض العرب يتزوّج امرأة أبيه بعده فنزلت الآية تحريمًا لذلك، فكل امرأةٍ تزوّجها رجلٌ حرمت على أولاده ما سفلوا، سواءٌ دخل بها، أو لم يدخل، فالنكاح في الآية بمعنى "العقد".

وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ جاء عن ابن عباس  - ا - قال: "كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم" يعني: ما حرم الله في النساء فيما سمى الله  - تبارك، وتعالى - من المحرمات منهنَّ، يقول: "كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم إلا امرأة الأب، والجمع بين الأختين، قال: فأنزل الله: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ [النساء:22][1]" هذا لفظه.

 ابن جزي  - رحمه الله - يذكر حاصل ذلك، والمعنى، ولا يتقيد بالألفاظ غالبًا، يقول: "فالنكاح في الآية بمعنى "العقد" يعني بمجرد عقد الأب على امرأة تحرم على أبنائه، وإن نزلوا، إذا عقد عليها الجد تحرم على الذرية بمجرد العقد؛ لأن الله لم يقيد ذلك بالدخول.

"وما نكح: يعني النساء، وإنما أطلق عليهنَّ ما."

وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ [النساء:22]، "يعني النساء"، هذا قول عامة أهل العلم الجمهور من السلف فمن بعدهم يقولون: المراد بقوله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ [النساء:22] أنه النساء، وجاء ما يوضحه، ويبينه بقوله: مِنَ النِّساءِ يعني: لا تنكحوا النساء اللاتي نكحهنَّ آباؤكم، وهذا أيضًا اختاره الحافظ ابن كثير  - رحمه الله - [2] لكن ابن جرير فسره باعتبار أن (ما) مصدرية[3] يعني كيف يكون المعنى؟

وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ وإذا أولت بما بعدها بمصدر، يكون (ولا تنكحوا نكاح آباؤكم في الجاهلية) هذا معناه، لا تنكحوا نكاح آباؤكم في الجاهلية.

 لكن ما قد سلف فمضى، لاحظ هذا معنى آخر تمامًا، لا تنكحوا نكاح آباؤكم في الجاهلية، فيكون نهيًا عن نكاح الجاهلية، ولا يختص بما نكح الآباء.

وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ يعني: نكاح أهل الجاهلية، وليس المقصود على هذا خصوص زوجة الأب، لكنَّها داخلةٌ فيه باعتبار أنه كان مما يقع عليه نكاح الجاهلية، فهذا معنى آخر تمامًا، ولكن ما قد سلف فمضى إلا ما قد سلف، حجته في ذلك مجيء (ما) هنا وَلا تَنْكِحُوا ما أنها لغير من يوصف بالعلم أو غير العاقل كما يقال.

فلو أنه أراد النساء على قول ابن جرير، لقال: ولا تنكحوا من نكح آباؤكم إلا ما قد سلف، فاعتبر الآية ناهية عن متابعة الآباء لما كانوا عليه من أمر النكاح، طريقة أهل الجاهلية في نكاحهم، وهذا خلاف قول السواد الأعظم من أهل العلم سلفًا، وخلفًا، وأمَّا ما يتعلق بـ(ما) أنه جاء التعبير بها هنا، فكما سبق في بعض المناسبات أن ما تستعمل في العاقل، ولا إشكال في ذلك فيكون المراد بذلك العموم إذا قُصد به العموم.

وعمومًا يعبر بـ(ما) عن العاقل في مواضع من كتاب الله  وكذلك أيضًا في كلام العرب، فهي لا تختص بغير العاقل، ولكنَّ الغالب في الاستعمال أن (ما) يعبر بها عن غير العاقل، وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ.

لاحظ جواب ابن جزي  - رحمه الله -: (وإنما أطلق عليهنَّ ما)، وإن كنَّ ممن يعقل؛ لأن المراد الجنس يعني أراد العموم فعبر بـ(ما) هذا الجواب، جواب على احتجاج ابن جرير  - رحمه الله - هذا في النكاح، لكن كما سبق أن النكاح يطلق بثلاثة إطلاقات:

  - يطلق بمعنى "العقد" وقد فسر به عامة أهل العمل كما سبق هذه الآية، وشاهده قوله تعالى: إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب:49]، فهذا نص صريح في إطلاق النكاح على مجرد العقد.

  - ويطلق على مجرد "الوطء" وهذا كما ذكرنا في بعض المناسبات أنه معنًا مشهور في آية النور، وذلك في قوله  - تبارك، وتعالى -: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3] فـ لا يَنكِحُ فسر بمعنى: لا يقع، ويزني إلا بمن يوافقه معتقدًا للتحريم، ولكنَّه يخالفه من جهة العمل، والامتثال فهو زاني، فلا ينكح إلا زانية مقرة بالحكم، ولكنَّها تخالف من الناحية العملية، أو من لا يقر بالحكم أصلًا فهذا المشرك أو مشركة، على هذا القول، وهو اختيار الحافظ ابن كثير  - رحمه الله -[4].

  - والمعنى الآخر: أنه العقد لا يَنكِحُ [النور:3] أي: لا يتزوج، وهذا أقرب في آية النور - والله تعالى أعلم - لكن على القول الآخر، وهو مشهور يكون أطلق النكاح على الوطء.

وأطلق على أكمل معانيه، وهو مجموع العقد الصحيح، والوطء، وذلك في قوله: حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230] فلا بُدَّ من عقدٍ صحيح بالإضافة إلى الوطء حتى يذوق عسيلتها، وتذوق عسيلته، فلا بُدَّ من هذين.

فهنا: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ النكاح المقصود به العقد، لكن هل يدخل فيه مجرد الوطء باعتبار أن النكاح قد يطلق على الوطء.

هذه الآية لا يظهر منها هذا، لكن مأخذ الخلاف فيمن زنا بامرأةٍ هل لابنه، أو لأحفاده أن يتزوجوا بها، باعتبار وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ إذا حمل على الإطلاق، بحيث يكون داخلًا فيه من عقد عليها، أو وقع عليها من غير عقد؟ فالذي يظهر  - والله تعالى أعلم - أنه (العقد) هنا بمعنى: التزوج، وليس (الوطء) هذا بحسب المراد بقوله: وَلا تَنْكِحُوا يعني هذا التركيب هذا الفعل مع (لا) الناهية  وَلا تَنْكِحُوا يدل على العموم، فهل مقتضى هذا العموم يحمل على النكاح بمعنييه العقد، وكذلك أيضًا الوطء؟ هذا يحتمل، ولكن الذي يظهر  - والله أعلم - أن المراد هنا وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ والعموم هنا في قوله: ما نَكَحَ آباؤُكُمْ سواءً كان ذلك بعقدٍ، أو بمجرد العقد، أو يعني بالتزوج، أو بالوطء من غير عقد، الزنا يعني، أخذًا من العموم ما نَكَحَ فالأقرب، والله أعلم أن المقصود بـ(النكاح) هنا هو العقد.

لاحظوا المأخذ مأخذ المسألة في محمل النكاح، وجاء هنا بصيغة العموم وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ  فـ(ما) هنا تفيد العموم، لكنَّ العموم الذي يظهر هنا أنه محمول على أي امرأة تزوجها أبوه سواء دخل بها، أو لم يدخل بها، هذا العموم هنا - والله أعلم -.

"وما نكح: يعني النساء، وإنما أطلق عليهنَّ ما، وإن كنا ممن يعقل؛ لأنّ المراد الجنس، فإن زنى رجلٌ بامرأةٍ فاختلف هل يحرم تزوجها على أولاده أم لا؟ فحرمه أبو حنيفة[5] وأجازه الشافعي[6] وفي المذهب قولان[7] واحتج من حرّمه بهذه."

الحافظ ابن كثير نقل الإجماع على تحريمهن على الابن بمجرد العقد[8] وهذا الإجماع صحيح بمجرد العقد، لكن من زنا بها هل تدخل في هذا أو لا؟ فهذا غير مسألة الإجماع.

يقول: "حرمه أبو حنيفة، وأجازه الشافعي"، الجمهور على قول الشافعي  - رحمه الله - يعني امرأة زنا بها أبوه هل له أن يتزوجها؟ الجمهور يرون أن الوطء المحرم لا تنتشر به الحرمة، هذا أصل عندهم، يعني في التزوج مثلًا يجوز له أن يتزوجها، كذلك في الرضاعة لو أن أباه وقع على امرأةٍ بالحرام، وأرضعت بنتًا، فهل لابنه أن يتزوج تلك البنت باعتبار أن اللبن من أبيه في الأصل؟ إذا قلنا: بأن الوطء المحرم لا تنتشر به الحرمة، فإن ذلك لا يؤثر في الرضاعة، وكذلك في النكاح، والمصاهرة.

"وفي المذهب قولان: واحتج من حرّمه بهذه الآية، وحمل النكاح فيها على الوطء، وقال من أجازه: إنّ الآية لا تتناوله؛ وفي النسخة الخطية (لم تتناوله) إذ النكاح فيها بمعنى العقد."

عمومًا هو مأخذ المسألة في تفسير النكاح، لاشك أن العقد مراد هنا لا شك؛، ولهذا وقع الإجماع على أن من عقد عليها أبوه، فإنها تحرم عليه، لكن هل يحمل على ما هو أعم من هذا، بكل نكاحٍ وقع من أبيه، ولو كان وطأً بالزنا؟

"إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ؛ أي: إلّا ما فعلتم في الجاهلية من ذلك، وانقطع بالإسلام فقد عُفي عنه فلا تؤاخذون به، ويدل على هذا قوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:23] بعد قوله: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22] في المرة الأخرى فالجمع بين الأختين قال ابن عباس: "كانت العرب تحرم كل ما حرمته الشريعة إلّا امرأة الأب، والجمع بين الأختين"[9] وقيل: المعنى إلّا ما قد سلف فدعوه."

أثر ابن عباس هو الذي مضى ذكرته آنفًا، وفيه تتمة هنا لم يذكرها، وهي في غاية الأهمية؛ لأنها تعبر عن سبب النزول قال: فأنزل الله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22] إلى قوله: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ [النساء:23].

وهذا كما سبق مخرج، أخرجه عند ابن جرير، وابن المنذر[10] وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر  - رحمه الله -.

"وقال الزمخشري: المعنى: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22]، فانكحوه إن أمكنكم، وذلك غير ممكن، فالمعنى: المبالغة في التحريم[11]."

 

إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إلا ما قد سلف مما كان في الجاهلية، لكنَّه لا يبقى معها، وإنما يفرق بينهما إذا دخل في الإسلام، فذلك النكاح الواقع في الجاهلية غير مؤاخذ به؛ لأن الإسلام يجُّب ما قبله إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ هذا الذي يظهر  - والله أعلم - من المعنى.

وما ذكره الزمخشري: "قال: المعنى إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22]، فانكحوا إن أمكنكم، وذلك غير ممكن".

يعني: أنه علقه بممتنع؛ يعني لا تنكحوا ما نكح آباؤكم بحالٍ من الأحوال، إلا إن كان شيء في الماضي، إلا إن نكحتم فيما مضى، يعني هذا لا يتحدث عن نكاحٍ واقع في الماضي على قول الزمخشري، وإنما علَّقه بفعلٍ بالزمن الماضي.

والفعل الطارئ لا يكون في الزمن الماضي يعني كأنه يقول: يمتنع عليكم ذلك بإطلاق، يعني: إلا إن أوقعتموه فيما مضى، وهذا لا يمكن، لكن هذا  - والله أعلم - لا يظهر من السياق، ولا يعلق بمثل هذا، وإنما المقصود ما كان منهم في الجاهلية.

لكن حجة مثل صاحب الكشاف أنه نهيٌ عن النكاح في المستقبل وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ فكيف ينهاهم في المستقبل عن شيء ثم يقول: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ؟

ففهم منه أنه لا تفعلوا ذلك، إلا إن أوقعتموه في الزمن الماضي إن استطعتم هذا يعني، وهذا لا يمكن، لكن السياق يدل على أن المقصود إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ أنه ما وقع في زمن الجاهلية، والله أعلم، فالمعنى المبالغة في التحريم.

الحافظ ابن القيم  - رحمه الله - يقول: لما نهى عنه أفاد أن وطئهنَّ بعد التحريم لا يكون نكاحًا أبدًا بل زنى إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ فلا يترتب عليه ما كان قبل التحريم من أحكام النكاح: من ثبوت الفراش، ولحوق النسب إلى آخره؛ يعني التي تزوجها أبوه في الجاهلية، وأنجب منها أولادٌ ما حال هؤلاء الأولاد؟ لما جاء الإسلام يعني: ثبوت النسب يلحق بأدنى سبب، فهؤلاء هل يقال إنهم أبناء زنا، حيث كان أهل الجاهلية لا يحرمون هذا النوع من النساء في النكاح؟ فهل يقال: هؤلاء أبناء زنا، أو يقال: هذا على ما كان، ويلحق بهم النسب، والولد للفراش إلى آخره؟ لكن في المستقبل لا شك أن النهي يقتضي الفساد، وقاعدة النهي يقتضي الفساد تحتها تفاصيل.

وهذه الصورة هي أجلى الصور إن أردنا أن نضبط قاعدة (النهي يقتضي الفساد) نقول: هو النهي الذي جاء مقترنا بالعمل المعين لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43] كما سيأتي، فهذا يقتضي الفساد وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22]، فهذا يقتضي فساد النكاح، والنكاح الفاسد لا يترتب عليه أثر، لكن ما جاء النهي فيه بإطلاق غير مرتبطٍ بالعمل المعين، مثل النهي عن الظلم، أو السرقة، أو الغصب، أو نحو ذلك، فما حكم الصلاة في الأرض المغصوبة، والثوب المغصوب؟ هنا لم يقترن النهي عنه بهذا بعينه، فالأقرب في مثل هذه الحالة أن ذلك يصح مع الإثم، إثم السرقة، وإلا فأهل العلم يختلفون في تطبيقات ذلك، فيما كان من قبيل الوصف المنفك، وغير المنفك، لكن عند التطبيق يختلفون في تنزيل ذلك على الوقائع، هل هذا، وصف منفك أو غير منفك؟ بصرف النظر فالاستثناء هنا ما نوعه إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ؟

الاستثناء هنا منقطع بمعنى لكن وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ؛ يعني لكن ما قد سلف مضى، ولا تؤاخذون عليه - والله أعلم -.

"إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا [النساء:22] كان في هذه الآية تقتضي الدوام، كقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:23] وشبه ذلك."

يعني: ليس هذا في الزمن الماضي، أنه كان فاحشةً، ثم بعد ذلك لا يكون كذلك؛ بل هو فاحشة على كل حال إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً و(الفاحشة) عرفنا أنها الذنب العظيم، وكان يُقَال له في الجاهلية: (نكاح المقت)، تزوج بامرأة الأب، نكاح المقت، وكان يقال لهذا الناكح: الضيزن، الذي يتزوج يعني يزاحم أباه على امرأته، و(المقت) معروف أنه البغض الشديد، أشد البغض، وأصله الشناءة يدل على شناءةٍ، وقبح.

إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا الحافظ ابن كثير  - رحمه الله -  ذهب إلى أن هذا النوع من النكاح يؤدي إلى مقت الآباء[12] يعني بعد ما يتزوج بامرأة أبيه، باعتبار أن الغالب أن الرجل إذا تزوج بامرأة بعد رجل، فإنه يبغض زوجها الأول بدافع الغيرة، أو لا يحب زوجها الأول، ينفر منه، هذا الغالب.

فإذا كان الناكح الأول هو أبوه، فهذا البغض، وهذه النفرة، لا تجوز بحالٍ من الأحوال، فعلى هذا يكون النهي عن التزوج بزوجة الأب، باعتبار أن ذلك يؤدي إلى بغض الآباء إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا هذه علَّة ذكرت، وهذه علَّة مستنبطة، وليست منصوصة، فيحتمل أن تكون هي السبب أو أحد الأسباب - فالله تعالى أعلم - وهو حكيمٌ في تشريعه، يشرع لعباده ما يتحقق به مصالحهم.

يقول: ولهذا حرمت أمهات المؤمنين، حرمنَّ على الأمة؛ باعتبار أن الزوج الجديد يمقت، يحصل منه مقتٌ للزوج السابق، وزوج أمهات المؤمنين هو النبي  ﷺ ولا يجوز لأحدٍ أن يقع في قلبه نحوه ذلك لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من، ولده، ووالده، والناس أجمعين[13] لكن من أهل العلم من السلف فمن بعدهم من فسر ذلك: (بأنه مقتٌ من الله) أن الله يمقت على هذا العمل القبيح.

وهذا قال به عطاء، وجماعة: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا[14] وكأن هذا  - والله أعلم - هو الأقرب، يعني أن الله   يمقت عليه.

وإذا قلنا: الآن نكاح المقت هو أشد البغض، هل من تزوج امرأةً بعد رجل، فإن ذلك يقتضي أن يبغضه أشد البغض، يكون عدوٌ له؟ لا؛ لكن قد يقع في نفسه نحوه مشاعر غير إيجابية كما يقال يعني، لكن لا تصل إلى حد المقت، والعداوة الشديدة، بمجرد أنه تزوج بعده؛ يعني هذا  - والله أعلم - أن المقصود أن المقت من الله إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا.

"وقال المبرد: هي زائدةٌ، وذلك خطأ لوجود خبرها منصوبًا، وزاد هنا المقت على ما وصف به."

لفظة كَانَ هل هي زائدة؟ يعني يكون تقدير إنه فاحشةٌ، ومقتٌ، الأصل عدم الزيادة، ثم أيضًا ما يدل على أنها غير زائدة أنها عملت إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً كَانَ اسمها ضمير مستتر مرفوع، والخبر جاء منصوبًا فعملت، فدل على أنها غير زائدة، ولا يصح ادعاء الزيادة هكذا في القرآن، ولم يكن في الوحي حشو يقع.

"وزاد هنا المقت على ما وصف به الزنا في قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]: دلالةً على أن هذا أقبح من الزنا."

ليس مقتًا هنا الآية المراد بها إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً يعني: الزنا في آية الإسراء إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا فزيادة المقت هنا في تزوج من زوجات الآباء أعظم من الزنا إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية  - رحمه الله -: أن الفاحشة تتناول الفعل القبيح، فهي الذنب العظيم الذي عظم، وفَحُش.

فالفاحش عند العرب هو الشيء الكثير، أو العظيم، فيكون ذلك فيما، وقع عليه نكاحٌ لكنَّه محرم، هذا ما كان بعد عقد، مثل التزوج بزوجات الآباء، فالفاحشة فيما ذكر شيخ الإسلام  - رحمه الله -: تتناول العقود الفاحشة، كما تتناول المباشرة بالفاحشة، يعني: من غير عقد يعني الزنا، وكذلك مثل هذا العقد المحرم، فكل ذلك يقال له: فاحشة، فالنهي هنا على قول شيخ الإسلام  - رحمه الله - في الآية: يتناول العقد، والوطء وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً [النساء:22]، ومقصوده هنا بأنه يتناول العقد، والوطء، يعني بمعنى أنه لا يجوز له، لا يحل بحالٍ من الأحوال للولد أن يتزوج امرأة أبيه، يعقد عليها، وكذلك أيضًا لا يحل له، وطئها، ولو من غير عقد، بمعنى الزنا حرام في أصله، لكن هذا يكون أشد، وأعظم، فالزنا قال الله فيه في آية الإسراء: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32] هنا إذا كان ذلك في امرأة الأب: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا [النساء:22].

  1.  تفسير الطبري (8/132)، رقم: (8938).
  2.  تفسير ابن كثير (2/245).
  3. تفسير الطبري (8/138).
  4.  تفسير ابن كثير (6/9).
  5.  الحجة على أهل المدينة (3/388)، الدر المختار، وحاشية ابن عابدين  (3/365).
  6.  المهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي (2/440).
  7. الاستذكار (5/463 - 464).
  8.  تفسير ابن كثير (2/247).
  9.  تفسير الطبري = جامع البيان (8/193)، رقم: (9075).
  10.  تفسير ابن المنذر (2/618).
  11.  تفسير الزمخشري (1/493).
  12.  تفسير ابن كثير (2/246).
  13.  أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب: حب الرسول  ﷺ من الإيمان، رقم: (15)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب، وجوب محبة رسول الله ﷺ أكثر من الأهل، والولد، رقم: (44). 
  14. تفسير ابن كثير (2/246).