الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تَأْكُلُوٓا۟ أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم بِٱلْبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوٓا۟ أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ، وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ۝ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا ۝ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا [سورة النساء:29-31].
ينهى - تبارك، وتعالى - عباده المؤمنين عن أن يأكلوا أموال بعضهم بعضاً بالباطل، أي: بأنواع المكاسب التي هي غير شرعية كأنواع الربا، والقمار، وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل، وإن ظهرت في غالب الحكم الشرعي مما يعلم الله أن متعاطيها إنما يريد الحيلة على الربا.
حتى روى ابن جرير عن ابن عباس - ا - في الرجل يشتري من الرجل الثوب، فيقول: إن رَضِيتَه أخذته، وإلا رددته، ورددت معه درهماً، قال: هو الذي قال الله : وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ [سورة البقرة:188]، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: لما أنزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ قال المسلمون: إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، والطعام هو أفضل أموالنا فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد، فكيف للناس؟ فأنزل الله بعد ذلك: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ... [سورة النــور:61] الآية، وكذا قال قتادة."

فمما يدخل في أكل أموال الناس بالباطل أنواع المكاسب المحرمة كالسرقة، والرشى، وأنواع الحيل، وهي المعاملات المغلفة التي تأتي بصيغة شرعية، ويراد بها التوصل إلى استحلال المحرم سواء كان ذلك في باب المعاملات، أو في غيره، وأيضاً ما يؤخذ في مقابل الشفاعة، فقد ثبت في الحديث الذي حسنة بعض أهل العلم أن ذلك من أبواب الربا، وصورته: أن يتوسط لك في قضية معينة مقابل أن تدفع له خمسة آلاف، وما أشبه هذا من المكوس، وأيضاً ما ذكره الله عن أهل الكتاب بقوله: إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [سورة التوبة:34]، وهذا صوره لا تتناهى، وأيضاً ما يأخذه أرباب الطوائف الضالة، والنحل المنحرفة كالرافضة، والصوفية من الناس المغرر بهم مقابل خرافات، وضلالات ما أنزل الله بها من سلطان، فكل هذا من أكل أموال الناس بالباطل.
"وقوله تعالى: إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ [سورة النساء:29]، قرئ تجارة بالرفع، وبالنصب، وهو استثناء منقطع."

قرئت تجارة بالرفع على اعتبار "أن تكون" في الآية تامة بمعنى توجد، وبالنصب على اعتبار "أن تكون" ناقصة، وتجارة خبر لتكون، وتقدير الكلام إلا أن تكون المعاملة تجارة، أو المعاطاة تجارة فلا حرج عليكم.
وأما الاستثناء في الآية فحكم عليه بأنه استثناء منقطع، لأن ما بعد إلا لم يكن من جنس ما قبلها؛ إذ التجارة عن التراضي ليست من أكل أموال الناس بالباطل، فالمعنى لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ لكن إن أخذتم المال عن طريق التجارة المشروعة بينكم فلا حرج، فإلا بمعنى لكن.
"كأنه يقول: لا تتعاطوا الأسباب المحرمة في اكتساب الأموال، ولكن المتاجر المشروعة التي تكون عن تراض من البائع، والمشتري فافعلوها، وتسببوا بها في تحصيل الأموال كما قال تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [سورة الأنعام:151]."

هذا استثناء منقطع؛ لأن النهي منصب على قتل النفس التي حرم الله بغير حق، أما إن كانت بحق فهو المستثنى من ذلك كقتل النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه، والمفارق للجماعة، وأيضاً ما ورد في النصوص الأخرى التي يقتل فيها الإنسان إذا عمل عملاً معيناً، فهذا كله داخل في الحق كما قال سبحانه: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ... [سورة الفرقان:68]، وقوله سبحانه: وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا... [سورة الإسراء:33] فإذاً لم تعد تلك النفس محرمة، فهذا استثناء منقطع.
وأيضاً قوله تعالى: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى [سورة الدخان:56] فهذا استثناء منقطع بمعنى لكن؛ لأنه أراد أنهم لا يذوقون في الجنة الموت، لكن الموتة الأولى التي في الدنيا قد ذاقوها.
وقوله سبحانه: إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ قال مجاهد: بيع، أو عطاء يعطيه أحد أحداً، واستدل العلماء - رحمهم الله - بهذه الآية على مسألة بيع المكره بغير حق كالمحجور عليه، وبيع المضطر فكره كثير من الفقهاء هذا البيع لانتفاء كمال التراضي.
"ومن تمام التراضي إثبات خيار المجلس كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا[1]، وفي لفظ البخاري: إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا[2]
وقوله: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أي: بارتكاب محارم الله، وتعاطي معاصيه، وأكل أموالكم بينكم بالباطل."

حمل ابن كثير قتل النفس على أعم صوره، ومعانيه الحسية، والمعنوية أخذاً من عموم اللفظ، ومعلوم أن المجتمعين على ملة، ودين ينزلون منزلة النفس الواحدة كما قال الله في بني إسرائيل: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ [سورة البقرة:84] يعني لا يسفك بعضكم دم بعض، ولا يخرج بعضكم بعضاً، إلى أن قال: ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:85] يعني يقتل بعضكم بعضاً.
وحمل ابن جرير - رحمه الله - قوله سبحانه: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ على قتل الناس بعضهم بعضاً، تنزيلاً للنفوس منزلة النفس الواحدة، وهذا معنىً صحيح يدخل فيه دخولاً أولياً أن يعمد الإنسان إلى نفسه فيقتلها، سواء بإهلاكه نفسه بالمعاصي، والذنوب، أو بالموت البطيء كالذي يدخن مثلاً، ويمكن أن يحتج عليه بقوله تعالى: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [سورة البقرة:195]، فسر أبو أيوب الأنصاري التهلكة في الآية بالركون إلى الدنيا، وترك الجهاد في سبيل الله ، وكما قال ابن عباس: وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ إن قطعوا النفقة عن المجاهدين فإن ذلك يؤذن بتقوية العدو، وظهوره عليهم فيأخذ ما في حوزتهم من الأموال، ويهلك الحرث، والنسل، ويدخل في الآية الإنسان الذي يفعل فعلاً من شأنه أن يؤدي به إلى المخاطر من غير مسوغ شرعي أخذاً من عموم اللفظ، فإن سبب النزول لا يُحصر فيه معنى الآية، وإنما العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وكل هذه المعاني داخلة فيها، - والله أعلم -.
"إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا أي: فيما أمركم به، ونهاكم عنه، وروى الإمام أحمد عن عمرو بن العاص أنه قال لما بعثه النبي ﷺ عام ذات السلاسل، قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال: فلما قدمت على رسول الله ﷺ ذكرت ذلك له، فقال: يا عمرو صليت بأصحابك، وأنت جنب! قال: قلت: يا رسول الله، إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فذكرت قول الله : وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا، فتيممت ثم صليت، فضحك رسول الله ﷺ ، ولم يقل شيئاً، وهكذا رواه أبو داود."

هذا الاحتجاج من عمرو بن العاص أقره عليه النبي ﷺ ، وهذا لا يمنع أن يبقى هذا الاستعمال يراد به قتل نفوس الآخرين، والقرآن يعبر عنه بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، وقد ذكرنا هذا مراراً في مناسبات متعددة. 
"وأورد ابن مردويه عند هذه الآية الكريمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يَجَأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو مترد في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، وهذا الحديث ثابت في الصحيحين[3].
وعن أبي قلابة عن ثابت بن الضحاك قال: قال رسول الله ﷺ: من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة، وقد أخرجه الجماعة في كتبهم[4]
  1. أخرجه البخاري في كتاب البيوع - باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع ومن طلب حقا فليطلبه في عفاف (1973) (ج 2 / ص 732) ومسلم في كتاب البيوع - باب الصدق في البيع والبيان (1532) (ج 3 / ص 1164).
  2. أخرجه البخاري في كتاب البيوع - باب إذا خير أحدهما صاحبه بعد البيع فقد وجب البيع (2006) (ج 2 / ص 744) ومسلم في كتاب البيوع - باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين (1531) (ج 3 / ص 1163).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الطب - باب شرب السم والدواء به وبما يخاف منه والخبيث (5442) (ج 5 / ص 2179) ومسلم في كتاب الإيمان - باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه وإن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة (109) (ج 1 / ص 103).
  4. أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال (5754) (ج 5 / ص 2264) ومسلم في كتاب الإيمان - باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه وإن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة (110) (ج 1 / ص 104).

مرات الإستماع: 0

"لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [النساء:29] يدخل فيه القمار والغصب، والسرقة، وغير ذلك."

كل أخذ للمال بغير وجه حق فإنه داخلٌ فيه، ربا، البيوع المُحرّمة.

"إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً [النساء:29] استثناءٌ منقطع، والمعنى: لكن إن كانت تجارةً فكلوها."

هنا في قوله: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً يقول بأن الاستثناء منقطع باعتبار أن التجارة المُباحة ليست من جنس المُستثنى منه، يعني ليست من جنس أكل أموال الناس بالباطل، لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ يعني لا يأكل بعضكم مال بعض إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً فالتجارة ليست من المُستثنى منه، فهذا الذي لا يكون المستثنى من جنس المستثنى منه يكون من قبيل الاستثناء المنقطع، يعني بمعنى لكن، وبعضهم يقول بأن المستثنى كون والكون ليس مالًا من الأموال، يعني هذا وجه آخر في كون الاستثناء منقطع، الوجه الأول الذي ذكرته آنفًا وهو إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً بمعنى لكن، يعني أن التجارة ليست من جنس أكل الأموال بالباطل.

والوجه الثاني لكونه منقطعًا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً إن المستثنى كون، إلا كون ذلك تجارةً، فالكون ليس بمال لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ إلا كون ذلك على سبيل التجارة، فالكون ليس من المال فكان منقطعًا بهذا الاعتبار، لكن المراد واضح، ويكفي أن نفهم بأن التجارة التي أباحها الله ليست من أكل أموال الناس بالباطل، فالاستثناء بهذا الاعتبار مُنقطع إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً.

وجاء عن ابن عباس من طريق ابن أبي طلحة لما أنزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ الآية، قال المسلمون: "إن الله نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، والطعام هو أفضل أموالِنا، فلا يحل لأحدٍ منّا أن يأكل عند أحد، فكيف للناس؟ - يعني ماذا يصنعون؟ - فأنزل الله بعد ذلك: وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ [النور:61]"[1] الآية التي في سورة النور، وهذا في سبب النزول ينحلّ به إشكال كما هو معلوم في آية النور، آية النور يُشكل هذا الموضع فيها لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ إلى آخره، وأقوال العلماء فيها معروفة ليس عليه حرج في ماذا، هل لأنهم كانوا إذا ذهبوا وسافروا إلى الغزو ونحو ذلك تركوا مفاتيح البيوت عند أهل الأعذار من يتخلف عن الغزو من العميان ونحو ذلك، فكانوا يتحرّجون من الأكل منها، ولو أُذن لهم يقولون: لعل نفوسهم لم تطب بذلك فقال: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ إلى آخره، هذا قول لبعض أهل العلم لكن من تأمل الآية يجد أن الإشكال لا يرتفع من جميع أجزائها لأمور تُذكر هناك، لكن هذا في سبب النزول في تحرّجهم، يعني بعضهم يقول: إنهم تحرّجوا، لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ أن يأكل مع المبصرين، والأعرج كذلك مع الأصحاء الأسوياء ونحو هذا، ما علاقة هذا؟ قالوا بأن الأعمى لرُبَّما يتحرجون باعتبار أنهم يأكلون أكثر مما يأكل ويرون الطعام ويتخيّرون فلا يكون منهم إنصاف نحو هذا الأعمى، وقد يتقذّر بعضهم باعتبار أن يده قد تطيش، أو ما قد يبدُر منه.

والأعرج قالوا كذلك يحتاج في جلوسه، وهيئته، أو نحو ذلك لا يكون كالأسوياء، فيحصل حرج منه أن يأكل معهم فنفى الحرج عنه، هكذا قال بعض أهل العلم، لكن مثل هذه الرواية ينحل بها الإشكال  - والله أعلم -.

"إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً [النساء:29] استثناءٌ منقطع، والمعنى: لكن إن كانت تجارةً فكلوها، وفي إباحة التجارة دليلٌ على أنه يجوز للإنسان أن يشتري بدرهم سلعةً تساوي مائة."

هذا من الغبن، هو غبنٌ فاحش إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً باعتبار أنه أطلقه، ومعلوم أن الغبن يجوز معه الرد وإن اختلفوا في مقدار ذلك، يعني بعضهم يقول بأن هذا إذا بلغ الثلث؛ لأن النبي ﷺ قال في الوصية: الثلث والثلث كثير[2].

وبعضهم يقول: الربع يصح معه، أو يحق معه الرد، لكن هنا يجوز للإنسان أن يشتري بدرهم سلعة تساوي مائة، هذا غبن فاحش، إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً إن الله أطلقه فيمكن أن يحصل هذا التمايز والتفاوت الكبير، لكن لو أنه اشترى سلعة بدرهم تساوي مائة فيحق لصاحب السلعة أن يرجع؛ لأنه غبنٌ مُحقق، لكن الصورة الأخرى إذا كانت السلعة تساوي درهم وبيعت بمائة فهذا أيضًا قد يكون من قبيل الغبن الفاحش، هذا إذا كان للسلعة نظائر في السوق، إذا كان لها نظائر فهذا غبن، لكن أحيانًا يكون لا نظير لها، فهل هناك حد في الربح؟ بمعنى أنه جاء بسلعة ليست موجودة في السوق، جاء بها من بلاد أخرى وهي تساوي عشرة، وباعها بثلاثمائة، فهل يُقال هذا لا يجوز؟ طيب ما الحد الذي يقف عنده؟

لا يوجد إلا أن تكون تجارة، فمثل هذا الذي يظهر أنه جائز في مثل هذه الصورة الأخيرة، لكن ينبغي للإنسان أن لا يكون صاحب طمع وأن يُحب لأخيه ما يحب لنفسه وأن يرفق بالناس.

"والمشهور إمضاء البيع. وحُكي عن ابن وهب أنه يرد إذا كان الغَبن أكثر من الثُلث."

يقصد المشهور يعني عند المالكية إمضاء البيع.

"وموضع أن نصب، وتجارة بالرفع فاعل تكون، وهي تامةٌ، وقُرئ بالنصب خبر تكون، وهي ناقصة."

(إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةٌ) باعتبار أنها يعني إلا أن توجد تجارة، هذا إذا كانت تامة وهذه قراءة الجمهور بالرفع خلافًا لعاصم إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً فتكون خبر تكون، تجارة تكون، إلا أن تكون هي تجارةً وهي ناقصة بهذا الاعتبار لها اسم وخبر فالاسم مُضمر، أو إلا أن تكون الأموال أموالَ تجارة، وحُذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، بعضهم يقول: بأن التقدير إلا أن تكون التجارةُ تجارةً عن تراضٍ منكم، والمقصود أنها على قراءة النصب كانت ناقصة، وتجارة خبر لها.

"عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ [النساء:29] أي: اتفاق، وبهذا استدل المالكية على تمام البيع بالعقد دون التفرق[3] وقال الشافعي - رحمه الله - : إنما يتم بالتفرق بالأبدان[4] لقوله ﷺ: المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا[5]."

قوله - تبارك وتعالى - : عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ جاء عن ابن عباس - ا - في الرجل يشتري الثوب فيقول: "إن رضيته أخذته، وإلا رددته، ورددت معه درهمًا، قال: هو الذي قال الله  لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ"[6].

وهنا: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ لا يكون ذلك في الأمور المُحرّمة إذا حصل التراضي بها، يعني لو أنه أراد أن يعقد معه عقدًا ربويًّا وقال: أنا راضي، ومصلحتي في هذا فإن هذا لا يجوز، لا يجوز التراضي على ما حرّم الله - تبارك وتعالى - لو أنه عقد معه عقدًا فاسدًا، عقدًا لا يصح، فإن هذا لا يجوز، ولا يكون صحيحًا برضا الطرفين، يقول أنا قابل بهذا فإن ذلك لا يُبيح ما حرّم الله - تبارك وتعالى - إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ.

وفسره المالكية قال: عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ يعني عن اتفاق، يعني عن طيب نفس، قال: استدل المالكية على تمام البيع بالعقد دون التفرق، هو العقد يقع بما يدل عليه من الإيجاب والقبول أو غير ذلك بالمعاطاة ونحو هذا، ولكن يبقى له الخيار ما لم يتفرقا، فالبيع وقع لكن لهما الخيار للحديث: المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا فسمّاهُما بذلك المتبايعان بالخيار.

"وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء:29] قال ابن عطية: أجمع المفسرون أنّ المعنى لا يقتل بعضكم بعضا، قلت: ولفظها يتناول قتل الإنسان لنفسه، وقد حملها عمرو بن العاص  على ذلك، ولم يُنكره رسول الله ﷺ إذ سمعه."

عبارة ابن عطية أوفى مما نقله المؤلف - رحمه الله - وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ قال ابن عطية: أجمع المفسرون أنّ المعنى لا يقتل بعضكم بعضا، وهذا - كما سبق في بعض المناسبات - ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ [البقرة:85] تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ يعني يقتل بعضكم بعضا، وهكذا في توبتهم من عبادة العجل فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [البقرة:54]، يعني فليقتل بعضكم بعضًا، وهنا: لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ يعني لا يأكل بعضكم مال أخيه، فيُنزّل النفوس المُجتمعة على دين واحد منزلة النفس الواحدة، وهنا: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ كقوله: لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ يعني لا يقتل بعضكم بعضًا، يقول: ولفظها يتناول قتل الإنسان لنفسه، هذا من حيث اللفظ، ولا إشكال في هذا، وعبارة ابن عطية[محمد1] .

"لفظه، وقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ قرأ الحسن: ولا تُقتّلوا على التكثير."

لاحظ الآن ولا تُقتّلوا هذا يدل على أنها لا يقتل بعضكم بعضًا؛ لأن الإنسان ليس له إلا نفس واحدة فالتكثير ليس له معنى إذا كان المقصود أن يقتل نفسه.

"فأجمع المتأولون أن المقصود بهذه الآية النهي عن أن يقتل بعض الناس بعضها، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصدٍ منه للقتل، أو بأن يحملها على غررٍ رُبما مات منه."

يعني يشمل الصورتين، أن يعمد إلى قتل نفسه، والصورة الثانية أن يتصرف تصرفات تُفضي به إلى الهلكة، فهذا كله يتناوله النهي.

وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع عن الاغتسال بالماء البارد خوفًا على نفسه منه، فأقره الرسول ﷺ 

هذا في الحاشية الرابعة ذكر نص الحديث، يقول:

"عن عمرو بن العاص قال: "احتلمت في ليلةٍ باردةٍ في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي ﷺ فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جُنُب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، فضحك رسول الله ﷺ ولم يقل شيئًا"[7] رواه أبو داوود.

فهذا الاحتجاج بالآية أخذًا من ظاهرها وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ يعني لا يتصرف أحد بما يُفضي به إلى الهلكة، فأقره النبي ﷺ على هذا فدل على أن هذا المعنى صحيح، يعني لا يقتل بعضكم بعضا هذا الذي أجمعوا عليه.

وكذلك أيضًا يؤخذ من ظاهرها ألا يتسبب في قتل نفسه.

وكذلك أيضًا لا يُلقي بنفسه إلى التهلكة، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول: "أي بارتكاب محارم الله وتعاطي معاصيه وأكل أموالكم بينكم بالباطل"[8] يعني أنكم بذلك تُهلكون أنفسكم.

  1.  انظر: تفسير الطبري (17/366)، والدر المنثور في التفسير بالمأثور (6/224).
  2.   - أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، باب الوصية بالثلث، برقم (2743)، ومسلم، كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، برقم (1628)، وبرقم (1629).
  3.  انظر: المقدمات الممهدات (2/96).
  4.  انظر: الحاوي الكبير (5/34).
  5.  أخرجه النسائي، كتاب البيوع، باب وجوب الخيار للمتبايعين قبل افتراقهما بأبدانهما، برقم (4483)، وأحمد في المسند، برقم (393)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6672).
  6. تفسير الطبري (6/627)، وتفسير ابن كثير (2/268).
  7.  أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم، برقم (334)، وأحمد في المسند، برقم (17812)، وقال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف، فيه عبد الله بن لهيعة، وهو سيئ الحفظ، وباقي رجاله ثقات رجال الصحيح"، وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (1/181)، برقم (154).
  8.  
     تفسير ابن كثير (2/269).
     [محمد1]يبدو أن العبارة فيها سقط تراجع من الملف الصوتي