{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [(33) سورة النساء].
قال ابن عباس -ا- ومجاهد، وسعيد بن جُبَير وأبو صالح وقتادة وزيد بن أسلم والسدي والضحاك ومقاتل بن حيان وغيرهم في قوله: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} أي: ورثة.
وعن ابن عباس -ا- في رواية: أي عَصَبة. قال ابن جرير: والعرب تسمي ابن العم مولى.
المولى يطلق بإطلاقات متعددة، فيطلق على المعتِق كما يقال: الموالي الأعلون يعني المعتقين، ويطلق على المعتَق ويقال له: المولى الأدنى، ويطلق أيضاً على الحليف والناصر وتقول: فلان نسب إلى آل فلان بالولاء.
والنبي ﷺ كان يؤاخي مثلاً بين الأنصار والمهاجرين فهذا نوع ولاء خاص, ولهذا قال الله بعده: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [(33) سورة النساء] أي الحليف ونحوه، فمن كان بينك وبينه عهد وحلف أو مؤاخاة فهو من هذا القبيل.
لكن في قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} [(33) سورة النساء] قال ابن عباس وغيره: أي ورثة، وهذا كقوله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي} [(5) سورة مريم] على القول المشهور أن المراد بذلك الورثة.
وعن ابن عباس في رواية: أي العصبة، والعصبة هم من جملة الورثة، والعصبة كأنه مأخوذ من عصبة الرأس، ويراد بهم قرابة الرجل من جهة أبيه ومن الرجال الذين هم كل من يرث من غير تقدير، فقد يكون له فرض لكنه يرث مع الفرض ما بقي من التركة، مثل الأب، والابن، والعم والأخ وما أشبه ذلك, فهؤلاء عصبة.
قوله: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [(33) سورة النساء] على القول بأن المراد بالموالي هنا العصبات يكون المعنى: لكل جعلنا عصبة يرثون ما أبقت الفرائض، فإذا مات الرجل مثلاً عن أم وزوجة وأب وإخوة، فإن الأم لها السدس، والزوجة لها الربع إن لم يكن له ولد، وما بقي فلأولى رجل ذكر، وهو الأب هنا.
وهكذا لو مات الإنسان عن ابن وأم وزوجة فالأم لها السدس إن كان له أخوة، والزوجة يكون لها الثمن لوجود الولد, والولد له الباقي تعصيباً.
قال: ويعني بقوله: {مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [(33) سورة النساء] من تركة والديه وأقربيه من الميراث، فتأويل الكلام: ولكلِّكم -أيها الناس- جعلنا عصبة يرثون به.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [(33) سورة النساء] أي: والذين تحالفتم بالأيمان المؤكدة -أنتم وهم- فآتوهم نصيبهم من الميراث كما وعدتموهم في الأيمان المغلظة، إن الله شاهد بينكم في تلك العهود والمعاقدات، وقد كان هذا في ابتداء الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك.
بعض أهل العلم يقول: إن هذا كان في الجاهلية، ولهذا قال النبي ﷺ في تلك الأحلاف والعهود التي كانت في الجاهلية: إنه لا يزيدها الإسلام إلا توثيقاً، وقال: ((لا حلف في الإسلام))([1]) فعلى هذا هل يقال هذا في أحلاف الجاهلية، أو يقال في المؤاخاة التي كانت في أول الإسلام حيث كان النبي ﷺ يؤاخي بين الرجلين من المهاجرين والأنصار وكانوا يتوارثون بذلك؟
على هذا أو على الأول يمكن أن تكون الآية منسوخة بقوله تعالى في سورة الأحزاب: {وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [(6) سورة الأحزاب] أي بما يقع بينهم من المؤاخاة التي يتوارثون فيها من المؤمنين والمهاجرين {إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا} [(6) سورة الأحزاب] وذلك بأن توصي لمن بينك وبينه مؤاخاة بشيء من أملاكك ومن النصيحة التي هي من جملة المعروف، أما الميراث فيكون بين القرابات كما شرع الله.
وقوله -تبارك وتعالى-: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [(33) سورة النساء] من أهل العلم من يقول: إن الآية ليست منسوخة، وإن المقصود بها أنهم كانوا في الجاهلية يحصل بينهم هذا التعاقد فالله قال: آتوهم نصيبهم من النصيحة، ويمكن أن توصي له بشيء دون الميراث، فيكون ذلك تشريعاً جديداً يرفع ما كان الناس يتعاطونه ويتعاملون به في جاهليتهم.
وقد كان هذا في ابتداء الإسلام ثم نُسخ بعد ذلك وأمروا أن يوفوا لمن عاقدوا ولا ينشئوا بعد نزول هذه الآية معاقدة.
المقصود أن يوفوا بأنواع البر والإحسان الأخرى, دون الميراث.
روى البخاري عن ابن عباس -ا-: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} [(33) سورة النساء] قال: ورثة.
{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [(33) سورة النساء] كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوّة التي آخى النبي ﷺ بينهم، فلما نزلت {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نُسخت.
ثم قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [(33) سورة النساء]} من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويُوصي له.
على كل حال الجمهور يقولون: إن الآية منسوخة بآية الأحزاب: {وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [(6) سورة الأحزاب] فقد كانوا يتوارثون بالمؤاخاة.
ومثل ابن جرير -رحمه الله- يحمل ذلك على ما كانوا في الجاهلية يتعاقدون به بحيث إنه يتفق مع إنسان أنه يرثه إذا مات والعكس، أي يكون بينهم حلف وتعاهد على التآزر والتناصر وأن يتوارثا، فابن جرير -رحمه الله- يقول: إن هذه الآية دلت على أن هؤلاء يُعطَون نصيبهم من غير الميراث فلا نسخ، وإنما هي رافعة لأمر كانوا عليه في الجاهلية وهذا لا يعتبر نسخاً وإنما هو حكم جديد، وعلى كل حال الآية تحتمل هذا كله، والعلم عند الله لكن الأصل المقرر الذي لا يختلف فيه هو أنه لا يتوارث الناس بغير ما ذكر الله وفصله في آيات المواريث، وما يتبع ذلك ويحتف به مما هو معروف مثل التوارث بالولاء، يعني أن المعتِق يرث المعتَق في حالات خاصة وهي إذا لم يوجد وارث.
[1] - أخرجه البخاري في كتاب الكفالة - باب قول الله تعالى {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [(33) سورة النساء] (2172) (ج 2 / ص 803) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة - باب مؤاخاة النبي ﷺ بين أصحابه (2529) (ج 4 / ص 1960).