السبت 05 / ذو القعدة / 1446 - 03 / مايو 2025
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَٱبْعَثُوا۟ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِۦ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلَٰحًا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيْنَهُمَآ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا [سورة النساء:35].
ذكر الحال الأول: وهو إذا كان النفور، والنشوز من الزوجة، ثم ذكر الحال الثاني: وهو إذا كان النفور من الزوجين فقال تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا [سورة النساء:35].
وقال الفقهاء: إذا وقع الشقاق بين الزوجين أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة ينظر في أمرهما، ويمنع الظالم منهما من الظلم، فإن تفاقم أمرهما، وطالت خصومتهما بعث الحاكم ثقة من أهل المرأة، وثقة من قوم الرجل ليجتمعا فينظرا في أمرهما، ويفعلا ما فيه المصلحة مما يريانه من التفريق، أو التوفيق، وتشوَّف الشارع إلى التوفيق؛ ولهذا قال: إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا [سورة النساء:35]."

فيقول - تبارك، وتعالى -: فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا [سورة النساء:35]: الحكم من الطرفين سماه الله  - كما هنا - حكماً، مع أنه في حقيقة الأمر ليس حاكماً، وإنما هو مجرد وكيل عن كل طرف من الطرفين، فالمرأة توكل واحداً، والرجل يوكل واحداً فيكونا وكيلين عنهما فيتصرفا في حدود الوكالة كأن يكون المراد هو التفاوض، وأن يسمع كل طرف من الآخر ما يعيبه على صاحبه، وما يطلب منه، وما أشبه ذلك، دون أن يحكم فيكون حكمه نافذاً، أو أنه يكون حكمه نافذاً في الحدود التي وُكِّل فيها، كأن تقول المرأة مثلاً: اذهب، واحضر، وقل لهم: كذا، وكذا، وكذا، وأنا أريد كذا، وأعيب عليه كذا، وإن اتفقتما على الاجتماع، ووافق على الشروط فأنا موافقة أن تحكم بذلك، وإن كان المطلوب هو الفرقة فأنا غير موافقة، أو إن كان المطلوب هو الخلع فأنا ما أقبل أن تحكم بذلك، ولن أقبل هذا الحكم، يعني ليس من صلاحياتك أن توافقه على الخلع بحيث أفتدي منه، وأدفع مالاً حتى يتم الفراق.
المقصود أن بعض أهل العلم يقول: يحكمان في الحدود التي أنيطت بهما من قبل كل واحد من الزوجين، وبعض أهل العلم يقول: بل هما حَكَََمان، وحكمهما نافذ؛ لأن الله سماهما بذلك فقال: فَابْعَثُواْ حَكَمًا [سورة النساء:35] فيجري حكمهما في حال الاجتماع فإذا اتفق هذان الحكمان على الفراق انتهى، وإذا اتفقا على الجمع بينهما أو أن تتنازل عن بعض الحق فالحكم نافذ، وهذا ظاهر الآية، والمسألة فيها خلاف بين أصحاب النبي ﷺ فمن بعدهم، وليست جديدة، ومثل الحافظ ابن القيم - رحمه الله - يرى أنهما حكمان فيهما شائبة الوكالة؛ لأن هذا يُختار من قبل المرأة، وهذا يختار من قبل الرجل، ولا يقتصر أمرهما على الحكم بل يحصل السماع، والتفاوض، والتشاور، والتناصح، وما أشبه هذا في كل ما من شأنه أن يقرب، ويجمع.
وقوله - تبارك، وتعالى -: إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا [سورة النساء:35] ظاهر اللفظ المتبادر - كما أشار إليه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا أن ذلك يرجع إلى الحكمين، أي إن كان قصدهما الإصلاح يوفق الله بينهما.
ومن أهل العلم من قال: إن قوله: إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا [سورة النساء:35] يرجع إلى الزوجين، لكن الأول أقرب، - والله أعلم -.
"وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا: أمر الله أن يبعثوا رجلاً صالحاً من أهل الرجل، ورجلاً مثله من أهل المرأة."

يعني ليس فقط صلاح الدين، وإنما أيضاً صلاح الرأي؛ لأن هذه المسألة تحتاج أيضاً إلى رأي، وحكمة، أما إذا جاء كل واحد، وهو متعصب لصاحبه، ومتشنج يريد أن ينتصر لصاحبه بكل طريقة، فلا فائدة إذن، وليجتمع الزوج، والزوجة لتحصل بينهما منازعة بدلاً من أن ينوب عن كل واحد منازع، فالمقصود أنه ينبغي أن يأتي إنسان عاقل ينظر، ويسمع، ويتكلم بإنصاف، ويحكم بعدل.
"فينظران أيهما المسيء فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته، وقصروه على النفقة، وإن كانت المرأة هي المسيئة قصروها على زوجها، ومنعوها النفقة."

يمنعونها النفقة باعتبار أنها ناشز حتى ترجع إلى الطاعة؛ لأن النشوز سبب لإسقاط النفقة، فالمرأة الناشز عن زوجها تسقط نفقتها، وإذا كان الرجل هو المسيء إليها منعت منه؛ لئلا يوصل إليها الإساءة لكن يحفظ لها حقها من النفقة مع منعه من أن يلعب بها، ويظلمها، ويسيمها الخسف، و الذل، وهي لا تجد مخرجاً من تصرفاته، ورعوناته.
 "فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا، أو يجمعا فأمرهما جائز."

قوله: "فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا، أو يجمعا فأمرهما جائز" يعني إذا اتفق الحكمان، أما إذا اختلفا بحيث قال مندوب المرأة أو وكيل المرأة أنا أرى أنها تطلق منه بدون فسخ، وقال الثاني: أنا ما أرى هذا، أرى أنها تطلق بفسخ، يعني تفتدي منه لأنها هي التي طلبت الطلاق، ففي هذه الحال لا ينفذ حكمهما إجماعاً؛ لأنهما اختلفا في الحكم.
ومن المعلوم أن هذين الحكمين يضعهما الحاكم، أو نائبه كالقاضي، ونحوه، ويمكن أن يكون ذلك ابتداءً من الرجل، والمرأة.
وقوله تعالى: وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا [سورة النساء:35] يعني من ذويها كأن يكون أخاً، أو ابن عم، وما أشبه ذلك من قومها.
"فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين، وكره ذلك الآخر، ثم مات أحدهما فإن الذي رضي يرث الذي كره، ولا يرث الكاره الراضي، رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير."

هذا على قول ابن عباس في المسألة.
"قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر: وأجمع العلماء على أن الحكمين إذا اختلف قولهما فلا عبرة بقول الآخر، وأجمعوا على أن قولهما نافذ في الجمع، وإن لم يوكلهما الزوجان، واختلفوا هل ينفذ قولهما في التفرقة، ثم حكى عن الجمهور أنه ينفذ قولهما فيها أيضا من غير توكيل."

يقول: "ينفذ قولهما فيها أيضاًَ من غير توكيل" هذا الأمر، وغيره من التفاصيل كله فيه خلاف بين أهل العلم.

مرات الإستماع: 0

"وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما [النساء:35]، الشقاق الشر، والعداوة."

يُقال الشر، والعداوة، أصله المخالفة، أصل مادة شقق تدل على انصداع في الشيء، شقاق بينهم.

"وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما [النساء:35]، الشقاق الشر، والعداوة، وكان الأصل إن خفتم شقاق بينهما، ثم أضيف الظرف إلى الشقاق على طريق الاتساع لقوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [سبأ:33] وأصله: مكرٌ بالليل، والنهار."

والمخاطب هنا الجمهور أن المخاطب بذلك الحكام، والأمراء، وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا يعني باعتبار أن هذا ليس المخاطب به الزوج، وإنما القاضي، ونحو ذلك، فهو الذي يبعث الحكمين.

"فَابْعَثُوا حَكَماً [النساء:35] الآية، ذكر تعالى الحُكم في نشوز المرأة، والحكم في طاعتها، ثم ذكر هنا حالةً أخرى، وهي ما إذا ساء ما بين الزوجين ولم يُقدر على الإصلاح بينهما ولا عُلم من الظالم منهما، فيبعث حكمان مسلمان لينظرا في أمرهما، وينفِّذا ما ظهر لهما من تطليقٍ، وخلعٍ من غير إذن الزوج، وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: ليس لهما الفراق إلّا إن جُعل لهما، وإن اختلفا لم يلزم شيءٌ إلَّا باتفاقهما، ومشهور مذهب مالك - رحمه الله -: أن الحاكم هو الذي يبعث الحكمين، وقيل: يبعثهما الزوجان، وجرت عادة القضاة أن يبعثوا امرأةً أمينة، ولا يبعثوا حكمين، قال بعض العلماء: هذا تغييرٌ لحكم القرآن، والسنة الجارية."

هذا صحيح، ليس له أن يبعث امرأة وإنما يبعث حكمين، واختلف السلف هل هما وكيلان، أو حكمان؟

يعني إذا كانا وكيلين فمعنى ذلك أن ذلك يقتصر على القدر الذي حصلت به الوكالة، ولكن إذا كانا حكمان فالحكم مُطلق هنا فيما يريانه من المصلحة، ومن هنا أبو حنيفة، والشافعي - رحم الله الجميع - في أحد قوليه ورواية عن الإمام أحمد أنهما وكيلان، هذا وكيل عن المرأة، وهذا وكيل عن الرجل[1].

وذهب أهل المدينة، ومالك وهو الرواية الأخرى عن أحمد، وقول للشافعي أنهما حكمان[2] وهذا الذي اختاره الحافظ ابن القيم - رحمه الله -[3] ونبّه إلى أنهما حاكمان فيهما شائبة الوكالة، ووكيلان منصوبان للحكم، يعني واحد ينوب عن الرجل، وواحد ينوب عن المرأة هذه تُشبه الوكالة، وهما أيضًا حاكمان.

وذكر الحافظ ابن عبد البر - رحمه الله - إجماع العلماء على أن الحكمين إذا اختلف قولهما فلا عبرة بقول الآخر[4].

يعني هذا يقول مثلًا: يُفرّق بينهما، وهذا يقول: لا. يبقى النكاح على حاله، لكن ذكر الإجماع على أن قولهما نافذ في الجمع وإن لم يوكلهما الزوجان، يعني إذا رأوا أن بقاء الزوجية هو المصلحة فإن ذلك يكون نافذًا، لكن اختلفوا هل ينفذ قولهما في التفرقة، وحكى عن الجمهور أنه ينفذ وإن لم يوكلهما الزوجان، وإلا فما معنى كون هؤلاء بهذه الصفة أنهما حاكمان، والله سمّاهما بذلك، فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ فالحكم يحكم، فيحكمان بما يريان فيه المصلحة.

والأصل أن يكون أحد هذين الحكمين من أهلها، والآخر من أهله، هذا ينوب عن هذا، وهذا ينوب عن هذا، لكن لو أن القاضي لم يجد من يصلح لذلك في أهله، وأهلها هذا لربما قرابة هذه المرأة سفهاء لا يزيدون الأمر إلا سوءًا، وكذلك الرجل، وأحيانًا تكون المرأة لا قرابة لها، أو الرجل لا قرابة له، في هذه الحالة يبعث القاضي من قِبَلِه رجلين عاقلين ينظران في أمرهما ويتفقان على شيءٍ.

"مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها [النساء:35]، يجوز في المذهب أن يكون الحكمان من غير أهل الزوجين، والأكمل أن يكونا من أهلهما كما ذكر الله: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما [النساء:35] الضمير في يُرِيدا للحكمين، وفي بَيْنَهُما للزوجين على الأظهر، وقيل: الضميران للزوجين، وقيل: للحكمين."

بينهما ملازمة، لكن هذه الإرادة هنا ترجع للحكمين وهذه مهمة جدًا أن من يسعى في الإصلاح بين الزوجين وكذلك بين الناس فإنه ينبغي أن يستحضر هذه النية، نية الإصلاح، لا يأتي منتصرًا للطرف الآخر، ومُبيّتًا لنصرته بأي وجهٍ كان، فهذا لا يصح، ويكون بسبب ذلك من الفساد، والشر، والعناد، والعداوات ما لا يخفى، ولذلك استحضار مثل هذه النية من دواعي الإصلاح، والوفاق، وتوفيق الله  بين الزوجين، والوصول إلى ما هو أنفع، وأكثر عائدة عليهما إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما فإذا قلت بينهما أي بين الحكمين فذلك يرجع إلى الزوجين، وإذا قلت بينهما يعني بين الزوجين فذلك من نتائج إرادة الإصلاح الإصلاح إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً.

 

  1. انظر: البحر الرائق شرح كنز الدقائق (7/25)، والحاوي الكبير (6/494)، والمجموع شرح المهذب (14/93)، والبيان في مذهب الإمام الشافعي (9/532).
  2. انظر: الإشراف على نكت مسائل الخلاف (2/724)، والبيان في مذهب الإمام الشافعي (9/532-533)، والمجموع شرح المهذب (16/454)، والشرح الكبير على متن المقنع (8/171).
  3. انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد (5/172).
  4. انظر: الاستذكار (6/183).