السبت 05 / ذو القعدة / 1446 - 03 / مايو 2025
وَٱعْبُدُوا۟ ٱللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا۟ بِهِۦ شَيْـًٔا ۖ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَبِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱلْجَارِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلْجَنۢبِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى، وَالْجَارِ الْجُنُبِ، وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا [سورة النساء:36].
يأمر - تبارك، وتعالى - بعبادته وحده لا شريك له فإنه هو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الآنات، والحالات، فهو المستحق منهم أن يوحدوه، ولا يشركوا به شيئاً من مخلوقاته، كما قال النبي ﷺ لمعاذ بن جبل : أتَدْرِي ما حَقُّ الله على العباد؟ قال: الله، ورسوله أعلم، قال: أن يَعْبدُوهُ، ولا يُشْرِكُوا به شيئاً، ثم قال: أتَدْري ما حَقُّ العبادِ عَلَى اللهِ إذا فَعَلُوا ذلك؟ ألا يُعَذِّبَهُم[1] .
ثم أوصى بالإحسان إلى الوالدين فإن الله سبحانه جعلهما سبباً لخروجك من العدم إلى الوجود، وكثيراً ما يقرنُ الله سبحانه بين عبادته، والإحسان إلى الوالدين كقوله: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [سورة لقمان:14]، وكقوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [سورة الإسراء:23].
ثم عطف على الإحسان إلى الوالدين الإحسان إلى القرابات من الرجال، والنساء كما جاء في الحديث: الصَّدَقَةُ عَلَى المِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وعَلَى ذِي الرَّحِم صَدَقَةٌ، وصِلَةٌ[2]
ثم قال تعالى: وَالْيَتَامَى [سورة النساء:36]؛ وذلك لأنهم قد فقدوا من يقوم بمصالحهم، ومن ينفق عليهم، فأمر الله بالإحسان إليهم، والحنو عليهم.
ثم قال: وَالْمَسَاكِينِ [سورة النساء:36]، وهم المحاويج من ذوي الحاجات الذين لا يجدون ما يقوم بكفايتهم، فأمر الله سبحانه بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم، وتزول به ضرورتهم، وسيأتي الكلام على الفقير، والمسكين في سورة براءة."

كما هو معروف أنه إذا ذكر المسكين دخل فيه الفقير، والعكس، لكن إذا ذكرا معاً كان للفقير معنىً، والمسكين معنى، وعلى كل حال هنا في هذه الآية ذكر الله الحقوق، فذكر الحق الأعظم، ثم ما يليه، وذكر الإحسان، وأن أحق الناس به من كان سبباً في وجودك، وهما الأب، والأم، وكذلك الجد، والجدة، وإن علوا؛ لأن أولئك جميعاً يقال لكل واحد منهما، والد، وذكر أيضاً من ألوان القرابات الجارَ ذا القربى، والجارَ الجنب، والصاحب بالجنب، وهؤلاء رتبهم بحسب الأقوى في القرب، فأولاً الجار الذي بينك، وبينه قرابة، ثم الجار المجاور لك في الدار الذي لم يكن بينك، وبينه قرابة، ثم الصاحب بالجنب، وهو الذي جمع بينك، وبينه سبب غير القرابة، وغير مجاورة الدار كمرافقة في السفر، أو زميل في العمل، أو زميل في الدراسة، ونحو ذلك، ويدخل فيه كل من تعاشره من زوجة.
ثم ذكر - جل، وعلا - الناس الذين يحتاجون إلى الإحسان من الضعفة في المجتمع سواء كان ضعفه عارضاً كابن السبيل،، أو كان ضعفه مستمراً كالفقراء، والمساكين، واليتامى، فهؤلاء كلهم من الضعفاء الذين هم أولى بالإحسان.
"وقوله: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ [سورة النساء:36] قال علي بن أبي طَلْحَةَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ - ا -: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى [سورة النساء:36] يعني الذي بينك، وبينه قرابة."

قوله: "يعني الذي بينك، وبينه قرابة" هذا هو المتبادر، وهو الذي اختاره جمع من المحققين، ومنهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، وهذا خلافاً لمن قال: إن الجار ذا القربى هو المسلم، أو أنه مجرد القريب في الدار.
"وَالْجَارِ الْجُنُبِ [سورة النساء:36] الذي ليس بينك، وبينه قرابة، وكذا روي عن عكرمة، ومجاهد، وميمون بن مهران، والضحاك، وزيد بن أسلم، ومقاتل بن حيان، وقتادة.."

وهذا أيضاً هو الأقرب أنه الجار الذي ليس بينك، وبينه قرابة، ومن قال في قوله: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى [سورة النساء:36]: إنه الجار المسلم قال: وَالْجَارِ الْجُنُبِ [سورة النساء:36] هذه في اليهودي، والنصراني.
ومن قال: الأولى في القريب في الدار قال: وَالْجَارِ الْجُنُبِ [سورة النساء:36] هو البعيد في الدار؛ لأن الجيران يتفاوتون قرباً، وبعداً، فهذا قد يكون جاراً ملاصقاً لك فهو أولى من الجار الأبعد.
والعلماء مختلفون في حد الجوار، فمنهم من يقول: من يسمع الإقامة، ومنهم من يقول: من يسمع الأذان، ومنهم من يقول: إلى أربعين بيتاً من كل ناحية، وبعضهم يقول: أهل المحلة الواحدة التي تجمعهم، كما يقال: الحي، أو نحو هذا، وعلى كل حال الجار كلمة لا يتساوى فيها الأفراد، فهي تدل على معنىً كلي يتفاوت أفراده، فمنهم من يكون أقرب في الجوار كاللصيق، والذي يليه، وما أشبه ذلك، ثم يكون جاراً لكنه أبعد منه، ومثل هذا يقال أيضاً في الرحم، والقرابات فهي كلمة تدل على معنىً كلي لكن الأفراد يتفاوتون، فالأخ ليس كالعم، والعم ليس كابن العم، وابن العم المباشر ليس كابن العم الذي هو أبعد منه، وما أشبه ذلك، فكل هؤلاء من قراباتك، وأنت مأمور بالإحسان إليهم، وبصلتهم، ولكنهم يتفاوتون في القرابة فكلما كان أقرب كلما كانت الصلة له آكد، وهكذا.
"وقال مجاهد أيضاً في قوله: وَالْجَارِ الْجُنُبِ [سورة النساء:36] يعني الرفيق في السفر، وقد، وردت الأحاديث بالوصايا بالجار، فنذكر بعضا منها، - والله المستعان -."

القول الآخر هو أن الجار الجنب هو الرفيق في السفر - كما قال هنا -، والأحسن - والله تعالى أعلم - أن يفسر بالرفيق في السفر قوله تعالى: وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ [سورة النساء:36].
"الحديث الأول: روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر - ا - أن رسول الله ﷺ قال: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه أخرجاه في الصحيحين[3] .
الحديث الثاني: روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو - ا - قال: قال رسول الله ﷺ: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه[4]، وروى أبو داود، والترمذي نحوه ثم قال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه.
الحديث الثالث روى أحمد أيضاً عن عبد الله بن عمرو بن العاص - ا - عن النبي ﷺ أنه قال: خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره، ورواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب[5].
الحديث الرابع: روى الإمام أحمد عن المقداد بن الأسود قال: قال رسول الله ﷺ لأصحابه: ما تقولون في الزنا؟ قالوا: حرام حرَّمه الله، ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة. فقال: رسول الله ﷺ: لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره قال: ما تقولون في السرقة؟ قالوا: حرمها الله، ورسوله فهي حرام. قال: لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره تفرد به أحمد [6]، وله شاهد في الصحيحين من حديث ابن مسعود قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً، وهو خلقك قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك[7].
الحديث الخامس: روى الإمام أحمد عن عائشة - ا - أنها سألت رسول الله ﷺ، فقالت: "إن لي جارين فإلى أيهما أُهدي؟ قال: إلى أقربهما منك باباً، ورواه البخاري[8]، وسيأتي الكلام في سورة براءة، وبالله الثقة، وعليه التكلان.
وقوله تعالى: وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [سورة النساء:36]، وصية بالأرقاء لأن الرقيق ضعيف الحيلة أسير في أيدي الناس، ولهذا ثبت أن رسول الله ﷺ جعل يوصِي أمته في مرضِ الموت يقول: الصلاةَ الصلاةَ، وما ملكتْ أيمانُكُم فجعل يرددها حتى ما يَفِيض بها لسانه[9].
وروى الإمام أحمد عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله ﷺ: ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة، وما أطعمت، ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقه[10]، ورواه النسائي، وإسناده صحيح، ولله الحمد."

يستدل بهذا الحديث على أن من الأعمال ما يؤجر عليها الإنسان، ولو لم يكن له فيها قصد التقرب إلى الله .
"وعن عبد الله بن عمرو - ا - أنه قال لِقَهْرمان له: هل أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال: لا، قال: فانطلق فأعطهم فإن رسول الله ﷺ قال: كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوتهم رواه مسلم[11]."

القَهْرمان كلمة أعجمية - فارسية - تطلق، ويراد بها من يدبِّر شئون الإنسان المالية من نفقات، ونحو ذلك، أي أنه يقوم عليها فيعطي العمال، أو الخدم أجورهم، وقد يعمل في جلب، وشراء المنافع، وهو في الأصل يعمل في تدبير أمور الملك مثل، وزير المالية، وأخص منه الذي يقوم على شئونه المالية، وهكذا يقال لكل من يلي هذا الجانب كأن يكون لك إنسان وكلته أن يتصرف في هذه الأشياء، ويصرف عليها كالمحاسب، ونحوه.
"وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: للمملوك طعامه، وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق رواه مسلم أيضاً [12].
وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: إذا أتى أحدَكم خادمُه بطعامه، فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة، أو لقمتين، أو أكلة، أو أكلتين فإنه وليَّ حرّه، وعلاجه أخرجاه، ولفظه للبخاري[13].
وقوله: إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا [سورة النساء:36] أي: مختالاً في نفسه، معجباً متكبراً فخوراً على الناس يرى أنه خير منهم، فهو في نفسه كبير، وهو عند الله حقير، وعند الناس بغيض.
قال مجاهد في قوله: إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً [سورة النساء:36] يعني متكبرا فَخُورًا يعني يعدّ ما أعطي، وهو لا يشكر الله تعالى، يعني يفخر على الناس بما أعطاه الله من نعمه، وهو قليل الشكر لله على ذلك."

لتقريب المعنى يمكن أن يقال: إن الخيلاء الكبر، لكن إذا أردنا أن نفرق يمكن أن نقول: الخيلاء مظهر من مظاهر الكبر، وأثر من آثاره يظهر بمشية الإنسان، وملبسه، وحركاته، وسكناته، ومركبه، وما أشبه ذلك، قال تعالى: وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً [سورة الإسراء:37] أي لا تمشِ مختالاً، متبختراً، بل امشِ مشية هينة طيبة، إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً.
"وروى ابن جرير عن عبد الله بن واقد أبي رجاء الهروي قال: لا تجد سيئ المَلَكة إلا وجدته مختالاً فخوراً."

يقول: "لا تجد سيئ المَلَكة"، ويمكن أن يقال: المِلْكَة، يعني الإنسان الذي إذا حصل له غنى حصلت له غطرسة، وترفُّع، وسيء الملكة هذا يظلم خدمه، ولا يعطيهم حقوقهم، ويؤخر رواتبهم، ويمنعهم مما يجب لهم، ويعاملهم بفظاظة، ويظلم من تحت يده من العمال، ومن الأجراء، وما أشبه ذلك، فهو إذا ملك، أو تمكن فإنه لا يراعي حقاً لأحد، فمثل هذا يقول فيه عبد الله بن واقد: لا تجد إنساناً بهذه المثابة إلا وجدته مختالاً فخوراً، يعني أنه ما صدرت منه هذه الأشياء إلا بسبب هذا التعالي، والترفع؛ فيحتقر الناس، ويظلمهم، ولا يرى لهم حقاً، ويضيع مالهم، ولا يبالي، بخلاف الإنسان الذي يخاف من الله ، ويتواضع، ويرى أن هؤلاء مثله، ويرى أنه في يوم من الأيام قد يكون في محل واحد منهم فيُظلم، ويؤخذ حقه، ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه.
"قال: لا تجد سيئ المَلَكة إلا وجدته مختالاً فخوراً، وتلا: وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [سورة النساء:36] الآية، ولا عاقاً إلا وجدته جباراً شقياً، وتلا: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [سورة مريم:32]."

في الأول تلا: وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [سورة النساء:36] بمعنى أن الله أوصى بهؤلاء الذين تحت يدك ثم عقب ذلك بقوله: إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا [سورة النساء:36]، فدل على أن الذي يظلم المماليك فإنه يكون مختالاً، ويكون كما وصف الله .
وفي الثاني تلا:  وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [سورة مريم:32] أي أن الإنسان إذا كان يتجبر على والديه فهذا أعظم الجبروت فمن كان بهذه المثابة فلا تجده إلا جباراً شقياً، فإذا كان الذي يتجبر على الناس يكون جباراً شقياً فكيف بالذي يتجبر على الوالدين؟ يكفيه من الجبروت، والشقاوة أنه يفعل ذلك لوالديه حتى، وإن كان يتبسم للناس.
"وعن رجل من بَلْهُجَيم قال: قلت يا رسول الله، أوصني، قال: إياك، وإسبال الإزار فإن إسبال الإزار من المَخِيلة، وإن الله لا يحب المَخِيلة[14]."

يقول النبي ﷺ: إياك، وإسبال الإزار، والإزار مفهوم لقب لا يحتج به على عدم دخول غيره في الحكم بل يدخل فيه الثوب، والبشت، والسراويل.
قوله: فإن إسبال الإزار من المَخِيلة هذا الحكم تُفسر به الأحاديث الأخرى، فيقال: الإسبال محرم بإطلاق؛ لأنه مظهر من مظاهر الخيلاء سواء قصد الإنسان ذلك، أو لم يقصد، فإن قصد فذلك أعظم، ويكون من أولئك الذين قال فيهم النبي ﷺ: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، المنان الذي لا يعطي شيئاً إلا منَّة، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره، وفي رواية: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم[15]، وهذا هو الفرق بين من قصد الخيلاء، وبين من لم يقصدها.
وللأسف بدأ يظهر على القنوات من يقول للناس: الإسبال ما فيه شيء، والنووي يقول: لا شيء فيه، والمسألة خلافية، واصبروا كذا سنة، وستجدون عامة الملتحين مسبلين، ويقولون: إن اللحية لا تترك بل السنة أن تقص، وبعضهم يقول: يكفي قدر شعيرة، وبعضهم يقول: قدر المشط، ويقال: اصبروا قليلاً، وسترون هذا كما انتشر في الصور حيث كان في الماضي لا تكاد تسمع أحداً يقول: إنها جائزة، واليوم صار الأمر إلى غير ما كان عليه في الماضي.
أقول: للأسف أننا صرنا في وضع عجيب بسبب تأويل النصوص، وتحريفها بل، والاستدلال بها بما يحقق الرغبات، والشهوات، ولذلك نجد اليوم في بعض البلاد دعاة صاروا يقيمون جامعات، وكليات فيها اختلاط، وتبرج، وإذا ناقشتهم قالوا: لا يوجد دليل على تحريم الاختلاط، ويقولون: إن المسجد النبوي ما كان فيه حاجز، وهذه الحواجز التي بنيت فيه اليوم ما هي إلا بدعة، ويقولون عن المجامع الدعوية المختلطة: إن من يقوم بالنشاط هم إخوة، وأخوات نشاطهم إسلامي، ولا إشكال في اجتماعهم طالما أنهم اجتمعوا على عمل صحيح، ولم يجتمعوا على باطل، ولا رقص، ولا شيء من ذلك.
وتجد رفاعة الطهطاوي يوم إن جاء من فرنسا كان يقول عن الرقص الغربي: إنه عبارة عن مجرد موازنة في الحركات، وهو رقص نظيف، وليس كالرقص الشرقي الذي أخذ الناس عنه فكرة سيئة، ويقول: إذا دعتك في تلك البلاد امرأة للرقص معها فمن الضروري جداً أن ترقص معها لأن هذا من أنماط السلوك، والحياة، والكرم، والضيافة عندهم، فارقص معها فذلك هو عبارة عن مجرد موازنة حركات!!، ونحن نقول لهذا، وأمثاله: حتى الجماع إنما هو موازنة حركات فماذا يبقى بعد ذلك؟!.
  1. أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان - باب من أجاب بلبيك وسعديك (5912) (ج 5 / ص 2312) ومسلم في كتاب الإيمان - باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً (30) (ج 1 / ص 58).
  2. أخرجه الترمذي في كتاب الزكاة - باب ما جاء في الصدقة على ذي القرابة (658) (ج 3 / ص 46) والنسائي في كتاب الزكاة - الصدقة على الأقارب (2582) (ج 5 / ص 92) وابن ماجه في كتاب الزكاة - باب فضل الصدقة (1844) (ج 1 / ص 591) وصححه الألباني في المشكاة برقم (1939).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الأدب -  باب الوصاءة بالجار (5669) (ج 5 / ص 2239) ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب -  باب الوصية بالجار والإحسان إليه (2625) (ج 4 / ص 2025).
  4. أخرجه البخاري في كتاب الأدب -  باب الوصاءة بالجار (5669) (ج 5 / ص 2239) ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب -  باب الوصية بالجار والإحسان إليه (2625) (ج 4 / ص 2025) وأبو داود في كتاب الأدب - باب في حق الجوار (5154) (ج 4 / ص 504) والترمذي في كتاب البر والصلة عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في حق الجوار (1942) (ج 4 / ص 332).
  5. أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في حق الجوار (1944) (ج 4 / ص 333) وأحمد (6566) (ج 2 / ص 167) والدارمي (2437) (ج 2 / ص 284) وصححه الألباني في المشكاة برقم (4987).
  6. أخرجه أحمد (23905) (ج 6 / ص 8) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (65).
  7. أخرجه البخاري في كتاب الأدب- باب قتل الولد خشية أن يأكل معه (5655) (ج 5 / ص 2236) ومسلم في كتاب الإيمان - باب كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده (86) (ج 1 / ص 90).
  8. أخرجه البخاري في كتاب الهبة وفضلها - باب بمن يبدأ بالهدية؟  (2455) (ج 2 / ص 916).
  9. أخرجه البخاري في كتاب الجنائز - باب ما جاء في ذكر مرض رسول الله ﷺ (1625) (ج 1 /ص 519).
  10. أخرجه أحمد (17218) (ج 4 / ص 131) والبخاري في الأدب المفرد (82) (ج 1 / ص 42) والنسائي في السنن الكبرى (9185) (ج 5 / ص 376) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (452).
  11. أخرجه مسلم في كتاب الزكاة - باب فضل النفقة على العيال والمملوك وإثم من ضيعهم أو حبس نفقتهم عنهم (996) (ج 2 / ص 692).
  12. أخرجه مسلم في كتاب الأيمان - باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه (1662) (ج 3 / ص 1284).
  13. أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة -  باب الأكل مع الخادم (5144) (ج 5 / ص 2078) ومسلم في كتاب الأيمان -  باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه (1663) (ج 3 / ص 1284).
  14. أخرجه أبو داود في كتاب اللباس - باب ما جاء فى إسبال الإزار (4086) (ج 4 / ص 98) وأحمد (23253) (ج 5 / ص 377) وصححه الألباني في المشكاة برقم (1918).
  15. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية وتنفيق السلعة بالحلف وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (106) (ج 1 / ص 102).

مرات الإستماع: 0

"وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ [النساء:36]، قال ابن عباس: الجار ذي القربى هو القريب النسب، والجار الجُنب هو الأجنبي[1].

وقيل: ذي القربى القريب المسكن منك، والجُنُب البعيد المسكن عنك، وحدّ الجوار عند بعضهم أربعون ذراعًا من كل ناحية." 

فقوله: وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ يقول: قال ابن عباس -ا -: الجار ذي القربى هو القريب النسب، والجار الجُنب هو الأجنبي، هذا هو المشهور، وهو قول طائفةٍ كثيرة من أهل العلم من السلف فمن بعدهم، من قال بهذا القول عِكرمة، ومجاهد، وميمون بن مِهران، والضحّاك، وزيد بن أسلم ومُقاتل، وقتادة[2] واختيار كبير المفسرين أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله -[3] الجار ذي القربى هو الجار القريب، بينك، وبينه قرابة، فيكون له حقٌ زائد، يعني له حق الجوار، وحق القرابة مع حق الإسلام، فهذه ثلاثة حقوق، والجار القريب له حق الجوار وحق الإسلام، القريب من المسكن ليس من النسب، وبعضهم يقول غير ذلك كما قال هنا: وقيل: ذو القربى القريب المسكن منك، والجُنُب البعيد المسكن عنك، وبعضهم يقول بأن ذلك في المُسلم، والجار الجُنُب اليهودي، والنصراني، لكن هذا لا دليل عليه.

وهنا ذكر حد الجوار عند بعضهم قال: أربعون ذراعًا من كل ناحية، هذا لربما يتأتّى على حالٍ كانت في السابق، البيوت صغيرة كالغرف اليوم، فهذا المقدار الذي ذُكر قليل، أربعون ذراعًا يعني يبلغ نحو عشرين مترًا، فهذا لربما الآن لا يتجاوز بيت أحد الجيران عن يمينه، وشماله، بيت واحد من الجيران، لكن يبدو أن فيه خطأ. 

في نسخة أخرى: وحدّ الجوار عند بعضهم أربعون دارًا من كل ناحية، أربعون دارًا هذا المعروف وليس ذراعًا؛ لأن هذا ليس بشيء، لا يتجاوز جارًا واحدًا، فهذا خطأ.

وبعضهم يقول غير ذلك، لكن هذا قال به طائفة من أهل العلم من السلف فمن بعدهم.

وأصل الجِوار الميل، وقيل: سُمي الجار بذلك لميله إلى جاره، الجُنُب أصل الجنابة بمعنى البُعد، ويُقال: رجلٌ جُنُب أي غريب، يقال: أجنبي أيضًا من البُعد، فالجار الجُنُب فيه معنى البُعد إما من جهة النسب، ولهذا قال بعضهم هو الجار الذي ليس بينك وبينه قرابة، وهكذا من قال: إنه غير المسلم، فهذا لأنه بعيد ليس كالمسلم بالقربِ منك، فهذا في القُرب المعنوي، يعني من قال: بأنه القريب بالنسب، والبعيد بالنسب الذي ليس بينك، وبينه قرابة وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ ومن قال: بأن الجار الأول هو المُسلم، والآخر هو اليهودي، والنصراني، فهذا قربٌ معنوي، ولكن من قال: بأن الجار ذي القربى هو القريب منك دارًا الأقرب إليك، والجُنُب هو الأبعد، يعني في نطاق حدود الجوار، فيكون لهذا حق، وهذا حق، كأن الأقرب من هذه الأقوال هو أن الجار ذي القُربى الذي بينك، وبينه قرابة فله حقٌ زائد، والجار الجُنُب هو الجار الذي ليس بينك، وبينه قرابة، -والله تعالى أعلم -.

وبعضهم يحدّ هذا، يقول من سمع الإقامة فهو جار، من سمع الإقامة باعتبار أن الإقامة تكون داخل المسجد فالذين يسمعونه هم الأقرب، طبعًا غير مُكبّرات الصوت، كان الأذان في المنارة، أو على سطح المسجد، والإقامة في داخل المسجد؛ لأن الإقامة لمن هم في المسجد، والأذان لمن هم خارج المسجد، وبعضهم يقول من سمع الأذان، وهذا لا يخلو من إشكال، يعني على هذا في القديم حيث لا يوجد أصوات مؤثرة تحول دون سماعه ولا يوجد مباني مُرتفعة، القرية كلها لربما يسمعون الأذان، فيكون كل هؤلاء من الجيران؟!

وبعضهم يقول: من تجمعهم محلة واحدة، يعني كما يُقال ناحية أو حارة، ويتأكد الحق بحسب القرب كما يُقال في صفة الأرحام، كلما كان أقرب كان الحق آكد، فهكذا في الجوار من يحتفّون بك من الجيران فحقهم أثبتن وآكد، وأعظم، وأولى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ولو قيل: هذه ترجع إلى العرف لم يكن بعيدًا بالجوار، بمعنى أنه في السابق كانت الدور صغيرة جدًا كالغرف فأربعون دارًا قديمًا لرُبما عن أربع دور في مثل هذه الأوقات في بعض الأحياء على الأقل، يعني الذي يسكن في مكان الدور فيه كبيرة، قصور، الدار الواحدة أربعة آلاف متر مثلًا، أربعون دارًا كانت تجتمع في بيت واحدٍ من هؤلاء، وأنتم قد لا تتصورون هذا لكن هذا هو الواقع، النواحي القديمة، وبيوت الطين، وكذا كان المكان الذي يحوي البيوت الكثيرة، ونحو ذلك يُهدم الآن ويدخل في توسعة مسجد واحد، هذا موجود مُشاهد، وكان يعيش فيه لربما عشرات الأُسر، وإذا هُدمت هذه الدور ورأيت بعض ما تحويه مما بقي منها كأنها متجاورة متلاصقة، بيوت الطين هذه ربما تهدّمت، أو هُدمت، أو جاء السيل بعد مُضي مدة طويلة، ففيها من المواضع التي لربما بُنيت بشيء من الجص، ونحو ذلك فهذه أقوى، فتبقى يوضع فيها التمر، فتجد هذه بجوار هذه قد مُحي البنيان من الطين، وهذه متجاورة ليس بينها، وبين الأخرى إلا أمتار، وكانت هذه في دار، وهذه في دار، وهذه في دار، هذه في دار - الله أعلم -وعلى كل حال قد يكون للعرف مدخل في هذا.

"قوله تعالى: الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ [النساء:36] قال ابن عباس: الرفيق في السفر[4] وقال عليّ بن أبي طالب : الزوجة[5]"

الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ الصاحب فيها معنى المصاحبة كما هو ظاهر، من هنا قال بعضهم: الرفيق في السفر عن ابن عباس -ا، عن علي: الزوجة، والذي يظهر - والله أعلم - أن هذا يُشبه التفسير بالمثال الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ فهو الملازم المقارب لك، يدخل فيه من يلازمك، ويقترب منك كالزوجة، والرفيق في السفر، والرفيق في العمل الذي يعمل معك، ونحو ذلك ممن يقتربون منك، فهذا صاحبٌ بالجنب له حقٌ زائد على غيره، الزوجة في لقربها، والرفيق في السفر له حق تُراعيه، تُداريه، ويكون له من الإكرام، ونحو ذلك ما لا يكون لغيره.

وكذلك من يجمعك به عمل، ونحو هذا، فهذه من مكارم الأخلاق بحيث يكون الإحسان لكل من يحتفّ بك، ولو كان ذلك في حالٍ عارضة كالسفر، أو العمل، اشتركت معه في عملٍ مُعين، أو في مكتبٍ واحد، أو في مدرسةٍ واحدة، أو نحو ذلك الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ فالذي معك في نفس المكتب هو له من الحقوق ما ليس لغيره.

ولهذا حمل أبو جعفر ابن جرير - رحمه الله - ذلك على العموم[6] يعني يدخل في هذه المعاني المذكورة جميعًا ولا يختص بالرفيق في السفر، أو الزوجة، وهذا هو الأقرب - والله تعالى أعلم -.

"قوله تعالى: مُخْتالًا [النساء:36] اسم فاعلٍ وزنه مفتعلٍ من الخيلاء، وهو الكبر وإعجاب المرء بنفسه."

إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا فالمختال اسم فاعل على زِنة مفتعل، من الخيلاء، وهو الكبر، وإعجاب المرء بنفسه، ويُقال ذلك للبطر في مشيته، خُيلاء، وسلوك ظاهر نابع من شعور باطن، يعني تفسيره هنا ما فسره مثلًا في الكبر، وإعجاب النفس هذا الشعور بالباطن الذي يورث سلوكًا في الظاهر، هذا السلوك الذي في الظاهر قال بعضهم هو البطر في مشيته، فبعضهم فسره بأثره، فهذا المُتكبّر الذي كبره حبيس صدره لا يرى الناس شيئًا لكن لا يظهر ذلك على سلوكه لا يُقال له: مختال، لكن الأثر السلوكي الذي يظهر مع هذا الكبر أو نتيجة لهذا البطر، ونحو ذلك كالخُيلاء هذا الذي يُقال له: مختال في مشيته، لذلك يُقيدون مختال في مشيته، ولهذا قيل الخَيْل، قيل لها: خَيْل؛ لأنها تختال في مشيتها، مشية الخيل ليست كمشية الحمار مثلًا، والبغل والغنم والإبل؛ لأنها تختال في المِشية كما هو معلوم، فالبطر في مشيته فُسر به المُختال، فيكون ذلك نتيجة لأمرٍ باطن وهو الكبر.

"فَخُورًا شديد الفخر."

شديد الفخر: صيغة مبالغة، فَخُورًا كثير الفخر، وهو الذي قيل يُعدد مناقبه، ومآثره ونحو ذلك كِبرًا، وتطاولًا، فيفتخر بأنه كذا وأن له كذا وعنده كذا ومن الأملاك، والثروات، وأنه حصّل من الشهادات، وحصّل من المراتب، والوظائف، ونحو ذلك، وأنه قد أنجز كذا، يفتخر بإنجازاته، فالفخر هو المباهاة في الأشياء الخارجة عن الإنسان، كالمال ونحو ذلك من الجاه، وما يُحصّله الإنسان، ويكتسبه، فهذا ما يفتخر به، يفتخر على الآخرين بأنه أفضل منهم في كذا وكذا وكذا، وعنده كذا، وإن لم يُصرّح بأنه أفضل منهم ولكن يذكر ما له فهذا هو الفخور، فهذه من الصفات المذمومة التي لا يُحبها الله ولا يحب أهلها، وهي خلاف التواضع، وهضم النفس، والاستكانة لله تعالى.

  1.  تفسير الطبري (7/6)، وتفسير ابن كثير (2/298).
  2.  تفسير ابن كثير (2/298).
  3.  تفسير الطبري (7/7-8).
  4.  المدصر السابق (7/11)، وتفسير ابن كثير (2/300).
  5.  تفسير الطبري (7/14)، وتفسير ابن كثير (2/300).
  6.  تفسير الطبري (7/16).