يقول تعالى ذاماً الذين يبخلون بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله به - من بر الوالدين، والإحسان إلى الأقارب، واليتامى، والمساكين، والجار ذي القربى، والجار الجنب، والصاحب بالجنب، وابن السبيل، وما ملكت أيمانكم من الأرقاء -، ولا يدفعون حق الله فيها، ويأمرون الناس بالبخل أيضاً، وقد قال رسول الله ﷺ: وأي داء أدوأ من البخل؟[1]، وقال: إياكم، والشح فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا[2]."
الشح أبلغ من البخل، وأشدّ، وإن اختلف العلماء في حد كل، واحد منهما لكن بينهما فرق، فمن أهل العلم من يقول: البخل أن يبخل بما في يده، والشح أن يتطلع إلى ما في أيدي الآخرين، وبعضهم يقول: البخل أن يبخل على نفسه، والشح أن يمنع حق الله مثل الزكاة، ونحوها، وبعضهم يقول: البخل هو الصفة الموجودة في النفس، والشح هو ما يتأثر منها، وينشأ عنها من سلوك للإنسان، ولا شك أن الشح أشد من البخل، فقد يكون الإنسان بخيلاً، وأشد منه الشحيح.
في قوله - تبارك، وتعالى -: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [سورة النساء:37] إما أن هذا يرجع إلى ما قبله بحيث يكون السياق هكذا: إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا [سورة النساء:36]، وهؤلاء هم الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [سورة النساء:37]، وعلى هذا يكون قوله: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [سورة النساء:37] بدلاً من المختال الفخور سواء قلنا: إنه منصوب على أنه بدل منه، أو قلنا: إنه مرفوع يرجع إلى الضمير في قوله: مُخْتَالاً أي: مختالاً هو فخوراً، من هو؟ الذين يبخلون، فهذا تحتمله الآية لتكون هكذا إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ [سورة النساء:36-37] من هم المختالون هؤلاء الذين لا يحبهم الله؟ هم الذين يبخلون، ويأمرون الناس بالبخل.
ومن أهل العلم من يقول: هذا استئناف، يعني إنه معنىً جديد، يذم الله فيه صنفاً من الناس، وهم الذين يبخلون، ويأمرون الناس بالبخل، أي أن هذا غير المختال الفخور، ويكون جواب هذا مقدر، يعني الذين يبخلون، ويأمرون الناس بالبخل لهم كذا، وكذا، وكـذا من الوعيد.
وإذا قلنا: إنه يرجع إلى "مختالاً فخوراً" فلا يحتاج إلى جواب مقدر، وهذا هو مزية هذا القول أي أنه لا يحتاج إلى تقدير، والأصل عدم التقدير، لكن ظاهر السياق قد لا يدل عليه دلالة ظاهرة، - والله تعالى أعلم -.
وعلى كل حال فعلى المعنى الأول يكون قوله: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [سورة النساء:37] تفسيراً للمختال الفخور، وعلى المعنى الثاني أي إذا قلنا: إنه استئناف فهو يتحدث عن طائفة جديدة مذمومة من الناس، وهم الذين يبخلون، ويأمرون، وترك الجواب؛ لأنه معلوم، - والله أعلم -.
والذين يبخلون، ويأمرون الناس بالبخل، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله كما يقول بعض العلماء: هذه الصفات مجتمعة هي صفات اليهود، فمن صفاتهم أنهم يبخلون، ويأمرون الناس بالبخل، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله، والذي كتموه هو العلم، والشهادة بصحة ما جاء به محمد ﷺ فلا يعرِّفون به الناس، ولا يظهرونه، ولهذا قال بعض أهل العلم - وهو الذي مال إليه كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -: إن البخل المراد هنا هو البخل بالعلم، واحتج لهذا بقوله: إننا لا نعرف طائفة تتمدح بالبخل، وتظهره؛ لأنك لو قلت لأبخل الناس: أنت بخيل، لغضب فهو لا يقر على نفسه بهذه الصفة، إلا أنه يقال: هذا ليس بلازم هنا في الآية، فالله ذكر صفتهم، وإن كانوا لا يقرون بها لكن هذه هي حقيقتهم، فالذين يبخلون، ويأمرون الناس بالبخل، وصف موجود في اليهود، وكذلك هو موجود أيضاً في المنافقين حيث قالوا: لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا [سورة المنافقون:7] يعني لا تنفقوا عليهم حتى يتفرقوا عنكم فإنهم زاحموكم في أرضكم، وفي بلدكم، وتكاثروا عليكم حينما قاسمتموهم الأموال، فأمسكوا عنهم حتى يبحثوا عن بلد أخرى، ولما كانت غزوة المريسيع، وحصل ما حصل قال عبد الله بن أبي: "سمِّن كلبك يأكلك"، وكان يلومهم، ويقول: هذا ما فعلتم بأنفسكم - يعني أنتم السبب في تقويتهم - أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما، والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم[3].
الضمير في قوله: وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ [سورة العاديات:7] من قوله: إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ [سورة العاديات:6-7] يحتمل الرجوع إلى الرب أي: إن الله شهيد على هذا الوصف للإنسان، ويحتمل أن يرجع إلى الإنسان نفسه.
وقوله: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [سورة العاديات:8] الضمير هنا راجع إلى الإنسان، ولذلك من طرق الترجيح في هذا أن الأصل إذا دار الكلام بين اتحاد مرجع الضمائر، وتفريقه، فالأولى توحيد المرجع، فيقال: هذا في الإنسان، إن الإنسان لربه لكنود، وإنه أي الإنسان على ذلك لشهيد، وإنه لحب الخير أي الإنسان لشديد، أي أن كل ذلك في الإنسان.
وحب الخير في قوله: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [سورة العاديات:8] يعني المال كما في قوله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [سورة البقرة:180] كما قال تعالى: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [سورة الفجر:20]، وفي الحديث لما قال النبي ﷺ: إن أكثر ما أخاف عليكم ما يُخرج الله لكم من بركات الأرض قال رجل: أو يأتي الخير بالشر؟ قال: إن هذا المال خَضِرة حلوة، وإن كل ما أنبت الربيعُ يقتلُ حَبَطاً أو يُلِمُّ إلا آكلة الخَضِر إلى آخر الحديث[4] فليس المقصود بالخير هنا طاعة الله، وطاعة رسوله.
ولقد سمعت أحد الناس، وقد خرج في قناة من القنوات يقول: الأصل في الإنسان حب الخير، وطاعة الله، فالمشكلة أن الإنسان تسيطر عليه أحياناً بعض التصورات، وبعض المشاعر حينما يخرج أمام العالم، ويتذكر أنه يخاطب أشراراً، وأخياراً، وكفاراً، ومسلمين، وأعداء، ولذلك تجده يقول: الأصل في الناس حب الخير، وحب الفضيلة، وهذا الكلام ليس صحيحاً أبداً فالله يقول: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة يوسف:103]، ويقول: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [سورة الأنعام:116] فالقول: إن الأصل في الإنسان حب الخير، هذا خطأ كبير فادح.
وفي الحديث: إن الله إذا أنعم نعمة على عبد أحب أن يظهر أثرها عليه[5]، وقد حمل بعض السلف هذه الآية على بخل اليهود بإظهار العِلْم الذي عندهم من صفة محمد ﷺ، وكتمانهم ذلك، ولا شك أن الآية محتملة لذلك، والظاهر أن السياق في البخل بالمال، وإن كان البخل بالعلم داخلاً في ذلك بطريق الأولى؛ فإن سياق الكلام في الإنفاق على الأقارب، والضعفاء، وكذلك الآية التي بعدها، وهي قوله: وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ [سورة النساء:38]."
هذه الطريقة التي سلكها ابن كثير - رحمه الله - هي من مزايا هذا التفسير، فالآية هنا احتملت معنيين هما البخل بالمال، والبخل بالعلم، فرجح ابن كثير أنه البخل بالمال بدلالة السياق، وهذه طريقة من طرق الترجيح، وذلك أن تكون الآية محتملة معنيين فأكثر، ويكون في السياق ما يدل على رجحان أحد هذه المعاني، لذلك قال: المراد هنا المال؛ لأن الآية التي قبلها ذكر الله فيها إعطاء ذوي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل إلى آخره، ثم قال: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ [سورة النساء:37] يعني يمنعون هذا الإحسان، والإنفاق، والبذل، وما أشبه ذلك، ثم قال بعد ذلك: إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [سورة النساء:40]، وقال قبل ذلك: وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة النساء:38]، فهو ذكر المانعين، وذكر الباذلين الذين يكون بذلهم لغير وجه الله - تبارك، وتعالى -، وهذه الآية في الوسط فدل على أنها في المال، وإن كان المعنى أعم من هذا كله، وهو أيضاً ظاهر كلام ابن كثير كما سبق، وقال: "والظاهر أن السياق في البخل بالمال، وإن كان البخل بالعلم داخلاً في ذلك بطريق الأولى" فبذل العلم لا يخسر الإنسان منه شيئاً، بل إنه يزيد كثرة ببذله، والإنفاق منه، وهذه من فضائل العلم على المال، فالآية تشمل هذا جميعاً، وقد يجتمع هذا في الطائفة الواحدة كاليهود فهم يبخلون، ويأمرون الناس بالبخل، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله من العلم، وقد يكتمون ما آتاهم الله من فضله من العطاء، والإنعام، والإفضال في دنياهم من المال، وغيره، وقد يوجد هذا في شخص، وقد يوجد بعضه في طائفة، والبعض الآخر في طائفة أخرى.
والمقصود أن هذه الأوصاف المذمومة قد تجدها في أناس يبخلون بالعلم، وبكل نفع متعدٍّ إلى الناس، وتجد الواحد منهم لا يمكن أن تصدر منه فائدة، ولا يعلِّمُ شيئاً إلا بشيء، فإذا قلتَ له: أريد أن أقرأ عليك القرآن، قال: وكم تدفع؟ وإذا قلت: ليس لديَّ مال، قال لك: وما الذي تجيده؟ فإن قلت مثلاً: أجيد التعامل مع الكمبيوتر، قال لك: إذن اقرأ، على أن تعلمني الكمبيوتر، أو على أن تعلمني القيادة، أو توصلني إلى عملي، أو نحو هذا، فالمقصود أن مثل هؤلاء الذين يبخلون لا يمكن أن يبذلوا شيئاً إلا بمقابل، إلى درجة أنه قد يبخل عليك حتى بالفتوى، وربما أنكر على الذي يبذل فيقول: أنت لماذا تجهد نفسك من أجل غيرك؟!.
ومن الناس من تكون هذه الروح متأصلة فيه بحيث إذا وجد المعلومة لا يمكن أن يخرجها، وإذا كان عنده مخطوطات تنفع الناس ربما لا تراها الشمس، ولا يدري عنها أحد شيئاً، ولا يطّلع عليها أحد، ولو كان من أخص الناس.
ومن الناس من إذا اضطر فكتب، ووجدت في كلامه بعض النفائس التي حصلها بالتعب، وجرد المطولات فإنك تجده لا يعزوها إلى المصادر؛ لئلا يوقف على مكانها بحيث إذا نقلها أحد، أو استفاد منها يقول: نقلتها من الكتاب الفلاني، أي من كتابه هو، فهذا من ألوان البخل، وصوره أراده الله بقوله: وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ [سورة النساء:37]، ومنه جحود النعم التي ينعم الله بها على الإنسان، كأن يكون غنياً فيكتم ذلك، وربما يقول: أنا فقير، ومحتاج، أما ليس عندي شيء؟، وقد يكون هذا الإنسان في عافية في بدنه، ويظهر خلاف ذلك، وقد يكون في نعمة من النعم، ويكتم ذلك، ويجحده، ومن أبسط الأمثلة التي تتكرر دائماً حال الطلاب في المدارس، والجامعات، والاختبارات، تجد الطالب الذي لا يجارى، ولا يبارى إذا خرج من الاختبار يولول، ويشتكي أنه لم يحسن الإجابة فيرثي له أضعف الطلاب، ويرِقُّون لحاله، ثم يتبين أنه حصل على درجة كاملة، وهكذا ديدنه من السنة الأولى الابتدائية إلى أن تخرج من الدكتوراه، وما علم أن هذا جحود لنعمة الله، والله يقول: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [سورة الضحى:11]، فإذا كان يخاف من العين فليسكت، أمّا أن يجحد نعمة الله ، ويكذب فهذا لا يجوز.
ومن أمثلة ذلك أنك تجد بعضهم يتواصى في كتابة الرسائل الجامعية مثلاً فيقول: أبقِ سطراً في الأخير لا تكتبه، وبما أنه لا بد من تبييض المخطوط قبل البدء بعملية التحقيق فأوصيك بترك آخر سطر، واشتغل على الرسالة، وأكملها تحقيقاً، وكل من سألك فقل له: والله إلى الآن ما انتهيت من تبييض المخطوط، وقد مضت عليه ثلاث سنوات، وتبييض المخطوط يمكن أن يتم خلال شهرين، وليس ثلاث سنوات، لكنه يريد بهذا أن يدفع العين، فأقول: لا داعي لمثل هذا الكلام، قل: أنا في خير، وعافية، والحمد لله على ما يسر.
- أخرجه الطبراني في الكبير (1204) (ج 2 / ص 35) وفي الأوسط (3650) (ج 4 / ص 74) ورواه البخاري موقوفاً على أبي بكر الصديق في كتاب المغازي - باب قصة عمان والبحرين (4122) (ج 4 / ص 1593).
- أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة - باب في الشح (1700) (ج 2 / ص 61) وأحمد (6487) (ج 2 / ص 159) وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (1698).
- انظر السيرة النبوية لابن كثير (ج 3 / ص 299).
- أخرجه البخاري في كتاب الرقاق - باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها (6063) (ج 5 / ص 2362) ومسلم في كتاب الزكاة - باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا (1052) (ج 2 / ص 727).
- أخرجه الطبراني في الكبير (14991) (ج 18 / ص 135) وفي الأوسط (3653) (ج 4 / ص 75) وابن حبان (5417) (ج 12 / ص 235) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1712).