الأحد 06 / ذو القعدة / 1446 - 04 / مايو 2025
ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦ ۗ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَٰفِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ۝ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ۝ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا [سورة النساء:37-39].
يقول تعالى ذاماً الذين يبخلون بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله به - من بر الوالدين، والإحسان إلى الأقارب، واليتامى، والمساكين، والجار ذي القربى، والجار الجنب، والصاحب بالجنب، وابن السبيل، وما ملكت أيمانكم من الأرقاء -، ولا يدفعون حق الله فيها، ويأمرون الناس بالبخل أيضاً، وقد قال رسول الله ﷺ: وأي داء أدوأ من البخل؟[1]، وقال: إياكم، والشح فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا[2]."

الشح أبلغ من البخل، وأشدّ، وإن اختلف العلماء في حد كل، واحد منهما لكن بينهما فرق، فمن أهل العلم من يقول: البخل أن يبخل بما في يده، والشح أن يتطلع إلى ما في أيدي الآخرين، وبعضهم يقول: البخل أن يبخل على نفسه، والشح أن يمنع حق الله  مثل الزكاة، ونحوها، وبعضهم يقول: البخل هو الصفة الموجودة في النفس، والشح هو ما يتأثر منها، وينشأ عنها من سلوك للإنسان، ولا شك أن الشح أشد من البخل، فقد يكون الإنسان بخيلاً، وأشد منه الشحيح.
في قوله - تبارك، وتعالى -: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [سورة النساء:37] إما أن هذا يرجع إلى ما قبله بحيث يكون السياق هكذا: إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا [سورة النساء:36]، وهؤلاء هم الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [سورة النساء:37]، وعلى هذا يكون قوله: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [سورة النساء:37] بدلاً من المختال الفخور سواء قلنا: إنه منصوب على أنه بدل منه، أو قلنا: إنه مرفوع يرجع إلى الضمير في قوله: مُخْتَالاً أي: مختالاً هو فخوراً، من هو؟ الذين يبخلون، فهذا تحتمله الآية لتكون هكذا إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا ۝ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ [سورة النساء:36-37] من هم المختالون هؤلاء الذين لا يحبهم الله؟ هم الذين يبخلون، ويأمرون الناس بالبخل.
ومن أهل العلم من يقول: هذا استئناف، يعني إنه معنىً جديد، يذم الله فيه صنفاً من الناس، وهم الذين يبخلون، ويأمرون الناس بالبخل، أي أن هذا غير المختال الفخور، ويكون جواب هذا مقدر، يعني الذين يبخلون، ويأمرون الناس بالبخل لهم كذا، وكذا، وكـذا من الوعيد.
وإذا قلنا: إنه يرجع إلى "مختالاً فخوراً" فلا يحتاج إلى جواب مقدر، وهذا هو مزية هذا القول أي أنه لا يحتاج إلى تقدير، والأصل عدم التقدير، لكن ظاهر السياق قد لا يدل عليه دلالة ظاهرة، - والله تعالى أعلم -.
وعلى كل حال فعلى المعنى الأول يكون قوله: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [سورة النساء:37] تفسيراً للمختال الفخور، وعلى المعنى الثاني أي إذا قلنا: إنه استئناف فهو يتحدث عن طائفة جديدة مذمومة من الناس، وهم الذين يبخلون، ويأمرون، وترك الجواب؛ لأنه معلوم، - والله أعلم -.
والذين يبخلون، ويأمرون الناس بالبخل، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله كما يقول بعض العلماء: هذه الصفات مجتمعة هي صفات اليهود، فمن صفاتهم أنهم يبخلون، ويأمرون الناس بالبخل، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله، والذي كتموه هو العلم، والشهادة بصحة ما جاء به محمد ﷺ فلا يعرِّفون به الناس، ولا يظهرونه، ولهذا قال بعض أهل العلم - وهو الذي مال إليه كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -: إن البخل المراد هنا هو البخل بالعلم، واحتج لهذا بقوله: إننا لا نعرف طائفة تتمدح بالبخل، وتظهره؛ لأنك لو قلت لأبخل الناس: أنت بخيل، لغضب فهو لا يقر على نفسه بهذه الصفة، إلا أنه يقال: هذا ليس بلازم هنا في الآية، فالله ذكر صفتهم، وإن كانوا لا يقرون بها لكن هذه هي حقيقتهم، فالذين يبخلون، ويأمرون الناس بالبخل، وصف موجود في اليهود، وكذلك هو موجود أيضاً في المنافقين حيث قالوا: لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا [سورة المنافقون:7] يعني لا تنفقوا عليهم حتى يتفرقوا عنكم فإنهم زاحموكم في أرضكم، وفي بلدكم، وتكاثروا عليكم حينما قاسمتموهم الأموال، فأمسكوا عنهم حتى يبحثوا عن بلد أخرى، ولما كانت غزوة المريسيع، وحصل ما حصل قال عبد الله بن أبي: "سمِّن كلبك يأكلك"، وكان يلومهم، ويقول: هذا ما فعلتم بأنفسكم - يعني أنتم السبب في تقويتهم - أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما، والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم[3].
"وقوله تعالى: وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ [سورة النساء:37]، فالبخيل جحود لنعمة الله عليه، لا تظهر عليه، ولا تبين، لا في مأكله، ولا في ملبسه، ولا في إعطائه، وبذله كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ۝ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ [سورة العاديات:6-7] أي: بحاله، وشمائله وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [سورة العاديات:8]."

الضمير في قوله: وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ [سورة العاديات:7] من قوله: إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ۝ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ [سورة العاديات:6-7] يحتمل الرجوع إلى الرب أي: إن الله شهيد على هذا الوصف للإنسان، ويحتمل أن يرجع إلى الإنسان نفسه.
وقوله: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [سورة العاديات:8] الضمير هنا راجع إلى الإنسان، ولذلك من طرق الترجيح في هذا أن الأصل إذا دار الكلام بين اتحاد مرجع الضمائر، وتفريقه، فالأولى توحيد المرجع، فيقال: هذا في الإنسان، إن الإنسان لربه لكنود، وإنه أي الإنسان على ذلك لشهيد، وإنه لحب الخير أي الإنسان لشديد، أي أن كل ذلك في الإنسان.
وحب الخير في قوله: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [سورة العاديات:8] يعني المال كما في قوله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [سورة البقرة:180] كما قال تعالى: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [سورة الفجر:20]، وفي الحديث لما قال النبي ﷺ: إن أكثر ما أخاف عليكم ما يُخرج الله لكم من بركات الأرض قال رجل: أو يأتي الخير بالشر؟ قال: إن هذا المال خَضِرة حلوة، وإن كل ما أنبت الربيعُ يقتلُ حَبَطاً أو يُلِمُّ إلا آكلة الخَضِر إلى آخر الحديث[4] فليس المقصود بالخير هنا طاعة الله، وطاعة رسوله.
ولقد سمعت أحد الناس، وقد خرج في قناة من القنوات يقول: الأصل في الإنسان حب الخير، وطاعة الله، فالمشكلة أن الإنسان تسيطر عليه أحياناً بعض التصورات، وبعض المشاعر حينما يخرج أمام العالم، ويتذكر أنه يخاطب أشراراً، وأخياراً، وكفاراً، ومسلمين، وأعداء، ولذلك تجده يقول: الأصل في الناس حب الخير، وحب الفضيلة، وهذا الكلام ليس صحيحاً أبداً فالله يقول: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة يوسف:103]، ويقول: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [سورة الأنعام:116] فالقول: إن الأصل في الإنسان حب الخير، هذا خطأ كبير فادح.
"وقال هاهنا: وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ [سورة النساء:37]، ولهذا توعدهم بقوله: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا [سورة النساء:37]، والكفر هو الستر، والتغطية، فالبخيل يستر نعمة الله عليه، ويكتمها، ويجحدها، فهو كافر لنعم الله عليه.
وفي الحديث: إن الله إذا أنعم نعمة على عبد أحب أن يظهر أثرها عليه[5]، وقد حمل بعض السلف هذه الآية على بخل اليهود بإظهار العِلْم الذي عندهم من صفة محمد ﷺ، وكتمانهم ذلك، ولا شك أن الآية محتملة لذلك، والظاهر أن السياق في البخل بالمال، وإن كان البخل بالعلم داخلاً في ذلك بطريق الأولى؛ فإن سياق الكلام في الإنفاق على الأقارب، والضعفاء، وكذلك الآية التي بعدها، وهي قوله: وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ [سورة النساء:38]."

هذه الطريقة التي سلكها ابن كثير - رحمه الله - هي من مزايا هذا التفسير، فالآية هنا احتملت معنيين هما  البخل بالمال، والبخل بالعلم، فرجح ابن كثير أنه البخل بالمال بدلالة السياق، وهذه طريقة من طرق الترجيح، وذلك أن تكون الآية محتملة معنيين فأكثر، ويكون في السياق ما يدل على رجحان أحد هذه المعاني، لذلك قال: المراد هنا المال؛ لأن الآية التي قبلها ذكر الله فيها إعطاء ذوي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل إلى آخره، ثم قال: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ [سورة النساء:37] يعني يمنعون هذا الإحسان، والإنفاق، والبذل، وما أشبه ذلك، ثم قال بعد ذلك: إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [سورة النساء:40]، وقال قبل ذلك: وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة النساء:38]، فهو ذكر المانعين، وذكر الباذلين الذين يكون بذلهم لغير وجه الله - تبارك، وتعالى -، وهذه الآية في الوسط فدل على أنها في المال، وإن كان المعنى أعم من هذا كله، وهو أيضاً ظاهر كلام ابن كثير كما سبق، وقال: "والظاهر أن السياق في البخل بالمال، وإن كان البخل بالعلم داخلاً في ذلك بطريق الأولى" فبذل العلم لا يخسر الإنسان منه شيئاً، بل إنه يزيد كثرة ببذله، والإنفاق منه، وهذه من فضائل العلم على المال، فالآية تشمل هذا جميعاً، وقد يجتمع هذا في الطائفة الواحدة كاليهود فهم يبخلون، ويأمرون الناس بالبخل، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله من العلم، وقد يكتمون ما آتاهم الله من فضله من العطاء، والإنعام، والإفضال في دنياهم من المال، وغيره، وقد يوجد هذا في شخص، وقد يوجد بعضه في طائفة، والبعض الآخر في طائفة أخرى.
والمقصود أن هذه الأوصاف المذمومة قد تجدها في أناس يبخلون بالعلم، وبكل نفع متعدٍّ إلى الناس، وتجد الواحد منهم لا يمكن أن تصدر منه فائدة، ولا يعلِّمُ شيئاً إلا بشيء، فإذا قلتَ له: أريد أن أقرأ عليك القرآن، قال: وكم تدفع؟ وإذا قلت: ليس لديَّ مال، قال لك: وما الذي تجيده؟ فإن قلت مثلاً: أجيد التعامل مع الكمبيوتر، قال لك: إذن اقرأ، على أن تعلمني الكمبيوتر، أو على أن تعلمني القيادة، أو توصلني إلى عملي، أو نحو هذا، فالمقصود أن مثل هؤلاء الذين يبخلون لا يمكن أن يبذلوا شيئاً إلا بمقابل، إلى درجة أنه قد يبخل عليك حتى بالفتوى، وربما أنكر على الذي يبذل فيقول: أنت لماذا تجهد نفسك من أجل غيرك؟!.
ومن الناس من تكون هذه الروح متأصلة فيه بحيث إذا وجد المعلومة لا يمكن أن يخرجها، وإذا كان عنده مخطوطات تنفع الناس ربما لا تراها الشمس، ولا يدري عنها أحد شيئاً، ولا يطّلع عليها أحد، ولو كان من أخص الناس.
ومن الناس من إذا اضطر فكتب، ووجدت في كلامه بعض النفائس التي حصلها بالتعب، وجرد المطولات فإنك تجده لا يعزوها إلى المصادر؛ لئلا يوقف على مكانها بحيث إذا نقلها أحد، أو استفاد منها يقول: نقلتها من الكتاب الفلاني، أي من كتابه هو، فهذا من ألوان البخل، وصوره أراده الله بقوله: وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ [سورة النساء:37]، ومنه جحود النعم التي ينعم الله بها على الإنسان، كأن يكون غنياً فيكتم ذلك، وربما يقول: أنا فقير، ومحتاج، أما ليس عندي شيء؟، وقد يكون هذا الإنسان في عافية في بدنه، ويظهر خلاف ذلك، وقد يكون في نعمة من النعم، ويكتم ذلك، ويجحده، ومن أبسط الأمثلة التي تتكرر دائماً حال الطلاب في المدارس، والجامعات، والاختبارات، تجد الطالب الذي لا يجارى، ولا يبارى إذا خرج من الاختبار يولول، ويشتكي أنه لم يحسن الإجابة فيرثي له أضعف الطلاب، ويرِقُّون لحاله، ثم يتبين أنه حصل على درجة كاملة، وهكذا ديدنه من السنة الأولى الابتدائية إلى أن تخرج من الدكتوراه، وما علم أن هذا جحود لنعمة الله، والله يقول: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [سورة الضحى:11]، فإذا كان يخاف من العين فليسكت، أمّا أن يجحد نعمة الله ، ويكذب فهذا لا يجوز.
ومن أمثلة ذلك أنك تجد بعضهم يتواصى في كتابة الرسائل الجامعية مثلاً فيقول: أبقِ سطراً في الأخير لا تكتبه، وبما أنه لا بد من تبييض المخطوط قبل البدء بعملية التحقيق فأوصيك بترك آخر سطر، واشتغل على الرسالة، وأكملها تحقيقاً، وكل من سألك فقل له: والله إلى الآن ما انتهيت من تبييض المخطوط، وقد مضت عليه ثلاث سنوات، وتبييض المخطوط يمكن أن يتم خلال شهرين، وليس ثلاث سنوات، لكنه يريد بهذا أن يدفع العين، فأقول: لا داعي لمثل هذا الكلام، قل: أنا في خير، وعافية، والحمد لله على ما يسر.
  1. أخرجه الطبراني في الكبير (1204) (ج 2 / ص 35) وفي الأوسط (3650) (ج 4 / ص 74) ورواه البخاري موقوفاً على أبي بكر الصديق في كتاب المغازي -  باب قصة عمان والبحرين (4122) (ج 4 / ص 1593).
  2. أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة - باب في الشح (1700) (ج 2 / ص 61) وأحمد (6487) (ج 2 / ص 159) وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (1698). 
  3. انظر السيرة النبوية لابن كثير (ج 3 / ص 299).
  4. أخرجه البخاري في كتاب الرقاق - باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها (6063) (ج 5 / ص 2362) ومسلم في كتاب الزكاة - باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا (1052) (ج 2 / ص 727).
  5. أخرجه الطبراني في الكبير (14991) (ج 18 / ص 135) وفي الأوسط (3653) (ج 4 / ص 75) وابن حبان (5417) (ج 12 / ص 235) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1712).

مرات الإستماع: 0

"الَّذِينَ يَبْخَلُونَ [النساء:37] بدلٌ من قوله مختالاً، أو نُصب على الذمّ أو رُفع بخبر ابتداءٍ مضمر، أو مبتدأٌ، وخبره محذوف تقديره يعذبون، والآية في اليهود."

هنا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ على القول بأنه بدلٌ من قوله مختالا فيكون كالتفسير له إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا من هؤلاء؟ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ يعني بمعنى لو أنك رفعت هذا، لو قلت: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ لو رفعت المُبدل منه، إن الله لا يُحب الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، يعني الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل هم هؤلاء أهل الخيلاء والفخر، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ۝ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ يعني هم الذين يبخلون، لكن على الإعراب بأنه بدل فمعلوم أن البدل يقوم مقام المُبدل منه، يعني يكون بدل كُل من كل بهذا الاعتبار.

أو أنه منصوب على الذم الَّذِينَ يَبْخَلُونَ منصوب على الذم، أو مرفوع بخبر ابتداء مُضمر، يعني المبتدأ محذوف، مُقدّر، يعني هم الذين يبخلون، أو مبتدأٌ، وخبره محذوف تقديره يعذبون، الذين يبخلون، ويأمرون الناس بالبُخل يُعذبون، ويُحتمل أنه مرفوع على أنه بدل من الضمير المستتر في مُخْتَالًا فَخُورًا ۝ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ.

المعنى يتغير هنا في الإعراب، إذا قلت بأن المختال الفخور هم الذين يبخلون، فهذا غير حينما يُقال: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ثم قال: الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل يُعذبون، فهنا لا يقتضي أن يكون الذين يبخلون هم أهل الخيلاء والفخر، لكن حينما تقول: هم الذين يبخلون، لو قلت: إنه خبر لمبتدأ محذوف فصار بمعناه، بمعنى المختال الفخور.

وهكذا لو قلت: بأنه منصوب مثلًا على الاختصاص، أو نحو ذلك، أخص الذين يبخلون، ويأمرون الناس بالبخل، فهذا قد يُفهم أنه نوع من المختالين الفخورين، فالإعراب، والمعنى بينهما ارتباط يختلف المعنى بحسبه إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ۝ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ كأن هذه صفةٌ من صفاتهم، كأنها صفة من صفات أهل الفخر، والخيلاء؛ لأنه أعقبه بعده ومن غير عطف، لو جاء بالعطف، والذين يبخلون، ويأمرون الناس بالبخل، قد يُفهم أن هنا يُقال: العطف يقتضي المغايرة، وأن هذه صفة للآخرين مثلًا، وإن كان ليس ذلك بلازم، لكن هنا قال: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ فكأنه تفسير، أو من جملة أوصاف هؤلاء المختالين الفخورين، ولذلك من قال: إنه بدل فإن قوله ليس بمستبعد، هو مشاهد بينها ارتباط، فإن هذا الذي يختال، ويفتخر، ونحو ذلك ويتعالى على الناس، ويتعاظم هو بعيد عن البذل، والسخاء، بل هو مُمسك بما في يده، يبخل وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ لكن القول بأنه حُذف مثلًا الخبر الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل يُعذبون لا يخلو من بعد، والقاعدة أن الأصل عدم التقدير، القاعدة الترجيحية أن الكلام إذا دار بين الاستقلال، أو التقدير يعني في محذوف، الأصل في الكلام الاستقلال.

فعلى القول بأنه بدل لا يحتاج إلى تقدير، وباقي المعاني والإعرابات تحتاج إلى تقدير، يعني إذا قلت أنه خبر لمبتدأ محذوف هم الذين يبخلون، أو أخص على الاختصاص لو نُصب، أو أنه مُبتدأ والخبر محذوف، كل هذا يحتاج إلى تقدير والأصل عدم التقدير، القول بأنه بدل لا يحتاج إلى تقدير وكأنه أوضح في المعنى - والله أعلم -.

"والآية في اليهود نزلت في قومٍ منهم كردمٍ، وحُيي بن أخطب، ورفاعة بن زيد بن التابوت، كانوا يقولون للأنصار: لا تُنفقوا أموالكم في الجهاد، والصدقات، وهي مع ذلك عامةٌ فيمن فعل هذه الأفعال من المسلمين."

القول بأنها نزلت في اليهود لا يصح، أو في قومٍ منهم مثل: كردم بن زيد، وحُيي بن أخطب، ومن ذُكر فهذا لا يثبت، وبعضهم يقول: هي في المنافقين، وابن جرير[1] حمله على الذين يبخلون بما عندهم من العلم، والمعرفة في أمر النبي ﷺ بخصوص هذا، الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وأنهم بهذا الاعتبار اليهود، أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [البقرة:76] وما شابه ذلك، لكن هذا التخصيص ليس عليه دليل - والله أعلم -.

والحافظ ابن كثير[2] حملها على معنًى أقرب من هذا، وهم الذين يبخلون بالإنفاق، إنفاق المال على من أمرهم الله  بالإنفاق عليهم من الوالدين، والأقربين، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، ونحو ذلك من وجوه من المُنفق عليهم، ولا يؤدون حق الله في هذه الأموال، وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فالحافظ ابن كثير يقول: بأن البخيل جحود لنِعم الله  عليه[3] دائمًا يتحدث عن إنه خسران، وإنه ليس عنده ما فيه كفاية، ونحو ذلك، ولا تظهر عليه آثار هذه النعمة ولا تأبين في مأكله وملبسه، هكذا ذكر الحافظ ابن كثير وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ولا تظهر في بذله، وإعطائه، ولهذا قال في قوله: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ بهذا الاعتبار أن الكُفر هنا هو الستر ،والتغطية، والبخيل يستر نعمة الله عليه، فهو كافرٌ بنعم الله عليه، هذا كلام ابن كثير، هذا الذي ذهب إليه، مع أنه جوّز أن تكون في اليهود لكن ذكر أن السياق في البُخل بالمال، وإن كان البخل بالعلم كما يقول ابن كثير: داخلًا بطريق الأولى[4] باعتبار أن السياق في الإنفاق على الأقارب، والضعفاء، وكذا التي بعدها، وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ.

لكن قول ابن جرير - رحمه الله - بأنها في اليهود كأنه نظر إلى القرينة هذه التي في الآية: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَكْتُمُونَ فالكتمان الذي عُرف به اليهود وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ مع قوله في آخرها: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ فمُجرد البخل لا يكون صاحبه كافرًا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ.

لكن ابن كثير نظر إلى أن السياق في الإنفاق الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إذن يكتمون نعمة الله عليهم، وما أعطاهم، وأولاهم من الغِنى، والمال فيجحدونه، وكذلك أيضًا لا يظهر عليهم، فيكون الكتمان من الجهتين، جهة الكتمان بالنطق، والكلام، والإقرار، والاعتراف، وكذلك الكتمان بالحال، يلبس لباسًا لا يدل على حاله من الغِنى وكذلك في مأكله، وهذا إذا كان الإنسان شديد البخل لا يظهر عليه، ولو كان غنيًا أثر الغنى في ملبسه، ومأكله، وأحواله، بل قد يظن جيرانه أنه من الفقراء، وهذا مُشاهد، فهو يُقتّر على نفسه بل قد يُتصدق عليه، وقد يكون أولاده يظنون ذلك أيضًا أنه فقير، ووُجد من يُعطي أباه من مكافأته في الجامعة سنوات، ثم لما قُبض هذا الأب كان ميراث الولد الواحد نحو مائة مليون، هذا موجود، وحصل، نحو مائة مليون، فأولاده يعتقدون أنه فقير يعطونه من مكافأة الجامعة، لا يظهر عليه أي شيء من آثار الغِنى، وأما الإنفاق فهو أبعد ما يكون عنه، فـ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ولذلك ما يدل هنا على شدة البخل أنه يأمر الناس بالبخل، يعني يضيق ذرعًا إذا رأى من يُنفق، ويتصدق فهو يعتقد أنه يُضيع للمال، ويعبث به فيتألم لذلك، ولا يكتفي بما عنده من البخل، بل ولهذا فسّر بعضهم الشح، يعني الفرق بين الشح، والبخل إذا ذُكر أحدهما قد يدخل فيه الآخر، لكن إذا ذُكر الشح، والبخل فبعضهم قال: إن الشح أشد من البخل، وهذا الذي يظهر أنه أشد من البخل.

قال بعضهم: الشح أن يبخل بما في يده، ويتطلع إلى ما في أيدي الناس، فهذا الذي يضيق ذرعًا بإنفاقهم فهو شحيح؛ لأنه لا يخسر ومع ذلك يتألم إذا رأى أحدًا يُنفق، ويكون البخيل على هذا هو من يُمسك ما في يده ولا شأن له بالناس، هذا وجه في التفريق بينهم.

وبعضهم قال: هذا في الصفة النفسية، والآخر في العملية، يعني ما يترتب، وينتج عنها، الفرق بين الشح، والبخل.

وبعضهم يقول غير ذلك، كالذي يقول بأنه يمنع حق الله، وحق الناس فهذا بخيل، والذي أيضًا يحرم نفسه مع ترك حق الله، وحق الخلق هذا هو الشحيح، يعني يُقطّر حتى على نفسه، والله يقول: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].

قول ابن جُزي: وهي مع ذلك عامةٌ فيمن فعل هذه الأفعال من المسلمين يعني الآية على العموم في ذم الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فيدخل في هذا البخل: البخل بالمال، والبخل بالعلم من باب أولى، وكذلك الكتمان يدخل فيه كتمان الغنى وما أعطاه وأولاه ربه - تبارك وتعالى - ويدخل فيه كتمان العلم من باب أولى، يعني البخل موجود في العلم، وموجودٌ أيضًا في المال، فاليهود كانوا يبخلون في العلم، ويبخلون في المال، والمنافقون لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المنافقون:7] يأمرون الناس بالبخل، وكتمان العلم معروف، هو يكتم العلم لأي سبب من الأسباب، ومن جُملة الأسباب، وهو من أقبح أنواع الكتمان البخل بالعلم، ما يُريد من الناس أن ينتفعوا بهذا الذي استفاده وحصّله، فيعتقد أن هذه أشياء تعب في تحصيلها، فهو يحبسها عنده، هذا في العلم نفسه.

وقد يكون ذلك في الكُتب، والمخطوطات، ونحو ذلك لا يخرج من يده شيء، يعني بمعنى أن عنده مخطوط الناس بحاجة إلى الاطلاع عليه، والانتفاع به، ويحتاجونه، وهو يجمع هذه المخطوطات ولا تراها الشمس، لا يمكن أن يُمكّن أحدًا من النظر فيها، فضلًا على أن يُصور له، أو يُعير أحدًا هذه المخطوطات، فهذا موجود للأسف في بعض من يشتغل بالعلم سواء كان مُحصلًا فيه، أو كان مُقصرًا، لكنه يُعنى بهذه الأشياء، فيبخل بها ويحتفظ بها لنفسه كما يقول. 

  1. تفسير الطبري (7/25).
  2. تفسير ابن كثير (2/174).
  3. االمصدر السابق (2/303).
  4. المصدر السابق.