الأحد 06 / ذو القعدة / 1446 - 04 / مايو 2025
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ وَعَصَوُا۟ ٱلرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ ٱلْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا [سورة النساء:42] أي: لو انشقت، وبلعتهم مما يرون من أهوال الموقف، وما يحل بهم من الخزي، والفضيحة، والتوبيخ كقوله: يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ الآية [سورة النبأ:40]."

هذا الجزء من هذه الآية: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ [سورة النساء:42] فيه ثلاث قراءات متواترة، فالقراءة الأولى: هي قراءة ابن عامر، ونافع من السبعة (لو تَسَّوَّى بهم الأرض) بتشديد السين، وفتح التاء، والقراءة الثانية هي قراءة حمزة، والكسائي: (لو تَسَوَّى بهم الأرض) من غير تشديد، والقراءة الثالثة: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ بالبناء للمجهول، فعلى القراءة الأولى، والثانية (لو تَسَّوًّى)، و (لو تَسَوَّى) يعني أن الأرض تسوى عليهم فيتساوون معها، فبعض أهل العلم يقول: يعني لو تنشق لهم الأرض فيدخلون فيها، ومثل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - يرى أن القراءات الثلاثة بمعنىً واحد، وأحسن ما يُفسر به هذا - والله تعالى أعلم - هو قوله - تبارك، وتعالى -: يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [سورة النبأ:40]، وذلك أنه كما ورد في الحديث إذا حصل القصاص بين الحيوانات، ثم قيل لها: كوني تراباً، فكانت تراباً، والكافر ينظر إلى ذلك فإنه يتمنى عندئذ أن يتحول إلى تراب، فيستوي مع الأرض، فلا يكون له بقاء، ولا وجود كي لا يعذب.
"وقوله: وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا [سورة النساء:42] إخبار عنهم بأنهم يعترفون بجميع ما فعلوه، ولا يكتمون منه شيئاً."

يقول: "وقوله: وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا [سورة النساء:42] إخبار عنهم بأنهم يعترفون بجميع ما فعلوه، ولا يكتمون منه شيئاً" فهذه الجملة من الآية: وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا [سورة النساء:42] يحتمل أن تكون معطوفة على ما قبلها هكذا: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا [سورة النساء:42] يعني أنهم يتمنون شيئين، الأول أن لو تسوى بهم الأرض، والثاني أن لا يكتمون الله، وعلى هذا يكون هناك مقدر محذوف ليكون معنى الآية هكذا: يومئذ يود الذين كفروا، وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض، ويومئذ لا يكتمون الله حديثاً، فهذا هو المعنى الأول الذي تحتمله الآية.
ويُحتمل أن يكون قوله: وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا [سورة النساء:42] جملة استئنافية، ليكون معنى الآية هكذا: يومئذ يود الذين كفروا، وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض، أي هذه هي الأمنية، ثم أخبر الله عنهم أنهم لا يكتمون الله حديثاً.
وبعضهم يقول: إن قوله: وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا [سورة النساء:42] معطوف، لكن المعنى مغاير لما سبق، فيكون ذلك من جملة أمانيهم، يعني يومئذ يتمنى الذين كفروا، وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض، ولا يكتمون الله حديثاً، أي، ويتمنون أنهم لم يكتموا الله شيئاً لأنهم قد افتضحوا، وانكشف أمرهم؛ لأن الله يختم على الأفواه فتنطق الجوارح فعندئذ يتندمون غاية الندم، ويتمنون أنهم لم يكتموا الله حديثاً؛ لظهور كذبهم، وهذا الذي مال إليه كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -.
ولعل أقرب هذه المعاني - والله تعالى أعلم - هو المعنى الأول، ويليه المعنى الثاني، ثم المعنى الثالث في القوة، فيكون المعنى - والله تعالى أعلم - أن الله يخبر عنهم أنهم يتمنون لو تسوى بهم الأرض، ويخبر عنهم في ذلك الحين أنهم لا يكتمون الله حديثاً، ولهذا سأل رجل ابن عباس عن هذه الآية، وعن وجه الجمع بينها، وبين الآيات الدالة على أنهم يكتمون، ويكذبون فيقولون: وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:23]، ويجحدون ما كانوا يعبدون من قبل، فبين له ابن عباس أنهم يكتمون في أول الأمر، ويجحدون، وينكرون الإشراك، ثم بعد ذلك تنطق الجوارح كما قال تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ، وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [سورة يــس:65]، ثم بعد ذلك تنطق ألسنتهم.
"وروى عبد الرزاق عن سعيد بن جُبَيْر قال: جاء رجل إلى ابن عباس - ا - فقال: أشياء تختلف عليَّ في القرآن قال: ما هو؟ أشكٌّ في القرآن؟ قال: ليس هو بالشك، ولكن اختلاف، قال: فهات ما اختلف عليك من ذلك، قال: أسمع الله يقول: ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:23]، وقال: وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا [سورة النساء:42] فقد كتموا."

ومما يشبه هذه الآيات قوله تعالى: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ [سورة النحل:28]، وقوله تعالى: بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا [سورة غافر:74]، ونحو ذلك.
"فقال ابن عباس: أما قوله: ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:23] فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله لا يغفر إلا لأهل الإسلام، ويغفر الذنوب، ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره، ولا يغفر شركاً، جحد المشركون، فقالوا: وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:23] رجاء أن يغفر لهم، فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم، وأرجلهم بما كانوا يعملون فعند ذلك: يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا [سورة النساء:42].

مرات الإستماع: 0

"لَوْ تَسَّوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ [النساء:42] أي: يتمنون أن يُدفنوا فيها، ثم تُسوّى بهم كما تُسوّى بالموتى، وقيل: يتمنون أن يكونوا سواءً مع الأرض كقوله: ويَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرابًا [عمّ:40] وذلك لما يرون من أهوال يوم القيامة."

هنا لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ القراءة التي ذكرها هنا تَسَّوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وهذه قراءة حمزة، والكسائي، يعني أن الأرض هي التي تسوى بهم، يعني تمنوا لو انفتحت لهم فساخوا فيها، لاحظ هنا ماذا قال: يتمنون أن يُدفنوا فيها، ثم تُسوّى بهم كما تُسوّى بالموتى، يدخلون في الأرض، ثم تُسوّى الأرض، لا يكون لهم أثر، لا يكون لهم وجود، أن الأرض تنشق، فتبتلع هؤلاء الناس، وتسوى عليهم فلا يبقى على ظهرها أحدٌ منهم تَسَّوَّى.

القراءة التي نقرأ بها: تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ، وهناك قراءة ثالثة لنافع وابن عامر، المعنى - والله أعلم - أنه كما قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - [1] أن على هذه القراءات الثلاث أنها بمعنى قوله: ويَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرابًا يعني أنه يكون والأرض سواء، فإذا كان هو والأرض سواء معناه أنه يكون من جنسها، وذلك كما جاء في الحديث في المُقاصة التي تكون بين الدواب، والبهائم، ونحو ذلك، فإذا حصل ذلك قال الله لها: كوني ترابًا، فتكون ترابًا، فعندها يتمنى الكافر لو كان ترابًا، فهذا معنى لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ ويَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرابًا يعني يتمنى لو كان من جنس الأرض، تحوّل إلى تراب ولا يُعذب، يعني هو يغبط هذه الحيوانات على ما آلت إليه من تسويتها بالأرض وسيرورتها ترابًا، لكن ابن كثير - رحمه الله - فسّر هذا أن تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ على هذه القراءة تَسَّوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ يعني لو انشقت، وبلعتهم.

"قوله تعالى: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:42] استئناف إخبارٍ أنهم لا يكتمون يوم القيامة عن الله شيئًا."

قوله: استئناف إخبارٍ أنهم لا يكتمون يوم القيامة عن الله شيئًا يعني هذه استئناف معناها أنها جملة جديدة تفيد معنًى آخر، فهنا قوله - تبارك وتعالى -: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا يعني أنها جملة منفصلة وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا يعني أنه خبر، ذكر أمنيتهم أن تُسوّى بهم الأرض، وأخبر عنهم أنهم لا يكتمون الله حديثًا، أن كل شيء يتكلمون به، ويعترفون، ويُقرّون، يعني أخبر عنهم بشيئين، لكن هذا المعنى تحتمله الآية: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا.

ويحتمل أنه يرتبط بما قبله لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا يعني أنه يكون معطوفًا على قوله: يَوَدُّ أي: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ ويومئذ لا يكتمون اللَّه حديثًا، وهكذا على قول من قال: إنه مُستأنف.

وبعضهم يقول: معطوف والمعنى: يودّون لو أن الأرض سُويت بهم، وأنهم لم يكتموا الله حديثًا، لظهور افتضاحهم، وكذبهم، وهذا الذي يميل إليه أبو جعفر ابن جرير - رحمه الله -[2].

بمعنى: الآن عندنا أن ذلك إخبارٌ من الله بجملةٍ جديدةٍ مُستأنفة عنهم، الأول أن هؤلاء يتمنّون لو تُسوّي بهم الأرض، ثم أخبر عنهم أنهم لا يكتمون الله حديثًا في ذلك اليوم، ذكر أمنيتهم، وذكر خبرًا عنهم أنهم لا يكتمون الله حديثًا.

المعنى الآخر: أنهم يتمنّون لو أن الأرض سُويّت بهم، وما كتموا الله حديثًا؛ لأنهم افتضحوا، وذكر كذبهم؛ لأن الله - تبارك وتعالى - يختم على الأفواه، فتنطق الجلود، والجوارح، وتُقر وتعترف، والأرض تُحدّث بأخبارها، فعند ذلك يُقرّ، ويعترف، يقول: عنكن كُنت أُناضل[3] الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا [يس:65] الآية، فهذا يكون حينما يُنكر، فيُختم على فيه، وتنطق جوارحه، ثم بعد ذلك يُقرّ ويعترف، فهنا وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا وهذا الذي أراد أن يذكره المؤلف في الجمع بين هذه الآية، وبين ما ورد من كتمانهم.

"فإن قيل: كيف هذا مع قولهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23]؟"

فالجواب من وجهين: أحدهما: أن الكتم لا ينفعهم؛ لأنهم إذا كتموا تنطق جوارحهم فكأنهم لم يكتموا.

والآخر: أنهم طوائف مختلفة، ولهم أوقاتٌ مختلفة، وقيل: إن قوله: وَلا يَكْتُمُونَ عطفٌ على تُسَوَّى أي: يتمنون أن لا يكتموا لأنهم إذا كتموا افتضحوا.

أحسن من هذا كله - والله تعالى أعلم - في وجه الجمع بين الآيتين ما ذكره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - في كتابه، وهو كتاب بديع مُفيد للغاية اسمه: "دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب" يعني ما يُتوهم أنه متعارض، فيجمع في وجوهٍ بديعة، فيكون قوله - تبارك وتعالى -: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا مع ما جاء من قوله - تبارك وتعالى - من قولهم: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23]، أنهم في البداية يُنكرون، ثم بعد ذلك يُختم على الأفواه فتنطق الجوارح، فعندها يُقر، ويعترف، هذا جواب واضح، وجيّد، وسديد.

وهناك جوابٌ آخر أيضًا يحتمل أن القيامة مواقف، ففي بعض المواقف يُنكرون، وفي بعضها يُقرّون، ويعترفون حيث لا يجدون للإنكار سبيلًا - والله أعلم -. 

  1.  أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/241).
  2. تفسير الطبري (7/45).
  3.  أخرجه مسلم، في أوائل كتاب الزهد والرقائق، برقم (2969).