هذا الجزء من هذه الآية: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ [سورة النساء:42] فيه ثلاث قراءات متواترة، فالقراءة الأولى: هي قراءة ابن عامر، ونافع من السبعة (لو تَسَّوَّى بهم الأرض) بتشديد السين، وفتح التاء، والقراءة الثانية هي قراءة حمزة، والكسائي: (لو تَسَوَّى بهم الأرض) من غير تشديد، والقراءة الثالثة: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ بالبناء للمجهول، فعلى القراءة الأولى، والثانية (لو تَسَّوًّى)، و (لو تَسَوَّى) يعني أن الأرض تسوى عليهم فيتساوون معها، فبعض أهل العلم يقول: يعني لو تنشق لهم الأرض فيدخلون فيها، ومثل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - يرى أن القراءات الثلاثة بمعنىً واحد، وأحسن ما يُفسر به هذا - والله تعالى أعلم - هو قوله - تبارك، وتعالى -: يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [سورة النبأ:40]، وذلك أنه كما ورد في الحديث إذا حصل القصاص بين الحيوانات، ثم قيل لها: كوني تراباً، فكانت تراباً، والكافر ينظر إلى ذلك فإنه يتمنى عندئذ أن يتحول إلى تراب، فيستوي مع الأرض، فلا يكون له بقاء، ولا وجود كي لا يعذب.
يقول: "وقوله: وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا [سورة النساء:42] إخبار عنهم بأنهم يعترفون بجميع ما فعلوه، ولا يكتمون منه شيئاً" فهذه الجملة من الآية: وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا [سورة النساء:42] يحتمل أن تكون معطوفة على ما قبلها هكذا: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا [سورة النساء:42] يعني أنهم يتمنون شيئين، الأول أن لو تسوى بهم الأرض، والثاني أن لا يكتمون الله، وعلى هذا يكون هناك مقدر محذوف ليكون معنى الآية هكذا: يومئذ يود الذين كفروا، وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض، ويومئذ لا يكتمون الله حديثاً، فهذا هو المعنى الأول الذي تحتمله الآية.
ويُحتمل أن يكون قوله: وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا [سورة النساء:42] جملة استئنافية، ليكون معنى الآية هكذا: يومئذ يود الذين كفروا، وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض، أي هذه هي الأمنية، ثم أخبر الله عنهم أنهم لا يكتمون الله حديثاً.
وبعضهم يقول: إن قوله: وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا [سورة النساء:42] معطوف، لكن المعنى مغاير لما سبق، فيكون ذلك من جملة أمانيهم، يعني يومئذ يتمنى الذين كفروا، وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض، ولا يكتمون الله حديثاً، أي، ويتمنون أنهم لم يكتموا الله شيئاً لأنهم قد افتضحوا، وانكشف أمرهم؛ لأن الله يختم على الأفواه فتنطق الجوارح فعندئذ يتندمون غاية الندم، ويتمنون أنهم لم يكتموا الله حديثاً؛ لظهور كذبهم، وهذا الذي مال إليه كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -.
ولعل أقرب هذه المعاني - والله تعالى أعلم - هو المعنى الأول، ويليه المعنى الثاني، ثم المعنى الثالث في القوة، فيكون المعنى - والله تعالى أعلم - أن الله يخبر عنهم أنهم يتمنون لو تسوى بهم الأرض، ويخبر عنهم في ذلك الحين أنهم لا يكتمون الله حديثاً، ولهذا سأل رجل ابن عباس عن هذه الآية، وعن وجه الجمع بينها، وبين الآيات الدالة على أنهم يكتمون، ويكذبون فيقولون: وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:23]، ويجحدون ما كانوا يعبدون من قبل، فبين له ابن عباس أنهم يكتمون في أول الأمر، ويجحدون، وينكرون الإشراك، ثم بعد ذلك تنطق الجوارح كما قال تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ، وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [سورة يــس:65]، ثم بعد ذلك تنطق ألسنتهم.
ومما يشبه هذه الآيات قوله تعالى: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ [سورة النحل:28]، وقوله تعالى: بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا [سورة غافر:74]، ونحو ذلك.