في قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ [سورة النساء:54] يحتمل أن تكون "أم" هذه منقطعة بمعنى أنها تفيد الانتقال فوبخهم على شيء، ثم انتقل يوبخهم على شيء آخر هكذا: أم لهم نصيب من الملك فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً، أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، فانتقل من توبيخ إلى توبيخ آخر، بمعنى بل يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله. يقول: "يعني بذلك حسدهم النبي ﷺ على ما رزقه الله من النبوة العظيمة"، فيكون لفظ "الناس" في قوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ [سورة النساء:54] من العام المراد به الخصوص، فالناس لفظ جنس عام، لكنه قد يطلق، ويراد به واحد كما في قوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [سورة آل عمران:173]، فيكون المراد به النبي ﷺ، وهذا لا إشكال فيه، فقد كان اليهود يرجون أن يكون النبي الخاتم من الإسرائيليين، فلما رأوا أنه من العرب حسدوه، حسدوه على ذلك فلم يؤمنوا به. والإمام ابن جرير - رحمه الله - حمل لفظ "الناس" في قوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ [سورة النساء:54] على النبي ﷺ، وأصحابه، ويمكن أن نقول أيضاً: إنهم حسدوا العرب؛ لأن النبوة انتقلت من بني إسرائيل إليهم، والله يقول: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [سورة فاطر:32] فبعد أن كانت الرسالة، والكتاب في بني إسرائيل عهوداً متطاولة انتقلت إلى غيرهم، وهذا شرف للنبي ﷺ، ولقومه حسدهم اليهود عليه، فقوله تعالى: عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ [سورة النساء:54] يعني من النبوة، وهذا ما عليه عامة المفسرين، ومنهم ابن جرير - رحمه الله -.
قول ابن عباس - ا - : "نحن الناس دون الناس" يعني أنه عام لكن ليس المراد به جنس البشر، وإنما المقصود به النبي ﷺ، وأصحابه، أو العرب أو هذه الأمة.
يقول الله : فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ فآل إبراهيم حمله ابن كثير هنا على بني إسرائيل، وهذا، وجه معروف في كلام العرب حيث يطلق الآل، ويقصد به تارة آل فلان بعينه، وتارة يقصد به ذريته، أو قومه، أو أهله، أو نحو ذلك، فالله يقول في آية أخرى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [سورة غافر:46] فالمراد بآل فرعون هنا فرعون، وقومه ممن كانوا معه على الكفر دون من آمن كامرأته.
وقوله - تبارك، وتعالى -: إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ، وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة آل عمران:33] قد يكون المقصود بالآل هنا إبراهيم وحده، وقد يكون المقصود ما سبق في آية النساء، وكذلك الأمر في آل عمران - عليهم السلام جميعاً -، وفي قولنا: اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، فآل محمد أتباعه على دينه، وقد يراد به معنىً أخص من هذا، وهم أزواجه، وأهل بيته، وقد يطلق، ويراد به معنىً أخص من ذلك أي علي، وفاطمة، والحسن، والحسين - أصحاب الكساء -. على كل حال فقوله تعالى: فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ [سورة النساء:54] يحتمل أن يكون آتينا إبراهيم، ويمكن أن يكون المراد بآل إبراهيم عقبه ﷺ، فإن ذرية إسحاق - عليه الصلاة، والسلام - هم أسباط بني إسرائيل، وكان فيهم الأنبياء، ويكون المراد بالكتاب بهذا الاعتبار جنس الكتاب أي الكتب التي نزلت على بني إسرائيل، أما إذا قلنا: إن المراد به إبراهيم فيكون المقصود به كتاب، واحد، وتكون "أل" عهدية، ويعني صحف إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام -. يقول: فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة النساء:54] الحكمة هي السنة، ومعلوم أن الحكمة إذا ذكرت مع الكتاب فإن المراد بها ما أوتيه الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - من وحيٍ غير الكتاب. قوله: وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا [سورة النساء:54] يمكن أن يراد بالملك الملك الذي حصل لبني إسرائيل عموماً، ومنه ملك داود - عليه الصلاة، والسلام -، ويمكن أن يكون المراد به ما ينطبق عليه هذا الوصف في ملك معين، فالملك العظيم المعروف هو ملك سليمان - عليه الصلاة، والسلام -، ولهذا حملها كثير من السلف، ومن بعدهم على ملك سليمان، ومن هؤلاء الذين رجحوا هذا المعنى ابن جرير - رحمه الله تعالى -، والآية تحتمل هذا، وتحتمل معنىً أعم من ذلك كما قال الله عن موسى ﷺ لما ذكّرهم بنعمة الله عليهم، ومن ذلك قوله: وَجَعَلَكُم مُّلُوكًاوَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ [سورة المائدة:20]، فالله جعل فيهم الملك، وجعل فيهم النبوة، والكتاب.