الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦ ۖ فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَٰهِيمَ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَٰهُم مُّلْكًا عَظِيمًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"ثم قال: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ [سورة النساء:54] يعني بذلك حسدهم النبي ﷺ على ما رزقه الله من النبوة العظيمة، ومنعهم من تصديقهم إياه حسدهم له."

في قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ [سورة النساء:54] يحتمل أن تكون "أم" هذه منقطعة بمعنى أنها تفيد الانتقال فوبخهم على شيء، ثم انتقل يوبخهم على شيء آخر هكذا: أم لهم نصيب من الملك فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً، أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، فانتقل من توبيخ إلى توبيخ آخر، بمعنى بل يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله. يقول: "يعني بذلك حسدهم النبي ﷺ على ما رزقه الله من النبوة العظيمة"، فيكون لفظ "الناس" في قوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ [سورة النساء:54] من العام المراد به الخصوص، فالناس لفظ جنس عام، لكنه قد يطلق، ويراد به واحد كما في قوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [سورة آل عمران:173]، فيكون المراد به النبي ﷺ، وهذا لا إشكال فيه، فقد كان اليهود يرجون أن يكون النبي الخاتم من الإسرائيليين، فلما رأوا أنه من العرب حسدوه، حسدوه على ذلك فلم يؤمنوا به. والإمام ابن جرير - رحمه الله - حمل لفظ "الناس" في قوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ [سورة النساء:54] على النبي ﷺ، وأصحابه، ويمكن أن نقول أيضاً: إنهم حسدوا العرب؛ لأن النبوة انتقلت من بني إسرائيل إليهم، والله يقول: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [سورة فاطر:32] فبعد أن كانت الرسالة، والكتاب في بني إسرائيل عهوداً متطاولة انتقلت إلى غيرهم، وهذا شرف للنبي ﷺ، ولقومه حسدهم اليهود عليه، فقوله تعالى: عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ [سورة النساء:54] يعني من النبوة، وهذا ما عليه عامة المفسرين، ومنهم ابن جرير - رحمه الله -. 
"ومنعهم من تصديقهم إياه حسدهم له؛ لكونه من العرب، وليس من بني إسرائيل. وروى الطبراني عن ابن عباس - ا - في قوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ الآية [سورة النساء:54] قال ابن عباس: نحن الناس دون الناس. قال الله تعالى: فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا [سورة النساء:54]."

قول ابن عباس - ا - : "نحن الناس دون الناس" يعني أنه عام لكن ليس المراد به جنس البشر، وإنما المقصود به النبي ﷺ، وأصحابه، أو العرب أو هذه الأمة.
"قال الله تعالى: فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا [سورة النساء:54] أي: فقد جعلنا في أسباط بني إسرائيل - الذين هم من ذرية إبراهيم النبوة، وأنزلنا عليهم الكتب، وحكموا فيهم بالسنن - وهي الحكمة -، وجعلنا منهم الملوك."

يقول الله : فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ فآل إبراهيم حمله ابن كثير هنا على بني إسرائيل، وهذا، وجه معروف في كلام العرب حيث يطلق الآل، ويقصد به تارة آل فلان بعينه، وتارة يقصد به ذريته، أو قومه، أو أهله، أو نحو ذلك، فالله يقول في آية أخرى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [سورة غافر:46] فالمراد بآل فرعون هنا فرعون، وقومه ممن كانوا معه على الكفر دون من آمن كامرأته. 
وقوله - تبارك، وتعالى -: إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ، وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة آل عمران:33] قد يكون المقصود بالآل هنا إبراهيم وحده، وقد يكون المقصود ما سبق في آية النساء، وكذلك الأمر في آل عمران - عليهم السلام جميعاً -، وفي قولنا: اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، فآل محمد أتباعه على دينه، وقد يراد به معنىً أخص من هذا، وهم أزواجه، وأهل بيته، وقد يطلق، ويراد به معنىً أخص من ذلك أي علي، وفاطمة، والحسن، والحسين - أصحاب الكساء -. على كل حال فقوله تعالى: فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ [سورة النساء:54] يحتمل أن يكون آتينا إبراهيم، ويمكن أن يكون المراد بآل إبراهيم عقبه ﷺ، فإن ذرية إسحاق - عليه الصلاة، والسلام - هم أسباط بني إسرائيل، وكان فيهم الأنبياء، ويكون المراد بالكتاب بهذا الاعتبار جنس الكتاب أي الكتب التي نزلت على بني إسرائيل، أما إذا قلنا: إن المراد به إبراهيم فيكون المقصود به كتاب، واحد، وتكون "أل" عهدية، ويعني صحف إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام -. يقول: فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة النساء:54] الحكمة هي السنة، ومعلوم أن الحكمة إذا ذكرت مع الكتاب فإن المراد بها ما أوتيه الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - من وحيٍ غير الكتاب. قوله: وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا [سورة النساء:54] يمكن أن يراد بالملك الملك الذي حصل لبني إسرائيل عموماً، ومنه ملك داود - عليه الصلاة، والسلام -، ويمكن أن يكون المراد به ما ينطبق عليه هذا الوصف في ملك معين، فالملك العظيم المعروف هو ملك سليمان - عليه الصلاة، والسلام -، ولهذا حملها كثير من السلف، ومن بعدهم على ملك سليمان، ومن هؤلاء الذين رجحوا هذا المعنى ابن جرير - رحمه الله تعالى -، والآية تحتمل هذا، وتحتمل معنىً أعم من ذلك كما قال الله عن موسى ﷺ لما ذكّرهم بنعمة الله عليهم، ومن ذلك قوله: وَجَعَلَكُم مُّلُوكًاوَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ [سورة المائدة:20]، فالله جعل فيهم الملك، وجعل فيهم النبوة، والكتاب.

مرات الإستماع: 0

"أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ [النساء:54] وصفهم بالحسد مع البخل، والناس هنا يراد بهم النبي ﷺ وأمته، والفضل النبوة، وقيل: النصر، والعزة، وقيل: الناس العرب، والفضل كون النبي ﷺ منهم".

قوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ هنا تفسير الناس بالنبي ﷺ وأمته، فهذا المعنى هو الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله - [1] أن المقصود: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ النبي ﷺ وأمته، ويكون الناس هذا العموم على ظاهره، يعني ليس المراد به الخصوص، ويحتج لهذا بالإشارة التي جاءت في صيغة الجمع وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا فدل على أن المقصود النبي ﷺ مع أمته.

والحافظ بن كثير - رحمه الله - حمله على خصوص النبي ﷺ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ يحسدون النبي ﷺ على ما أعطاه الله من النبوة[2].

وهذا وإن كان مرادًا بالآية، إلا أن أمته داخلة في ذلك، فهم يحسدون هذه الأمة، حسدوهم على النبوة، وذكر النبي ﷺ حسدهم لهذه الأمة أيضًا على قول آمين، وكل ذلك داخل فيه - والله أعلم -.

أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وقيل في الفضل: النصر، والعزة، وهو كل ما آتاهم الله من فضله، والنبوة داخلة فيه دخولًا أوليًا.

يقول: "وقيل: الناس العرب، والفضل كون النبي ﷺ" لا شك إنهم حسدوا العرب على تحول الكتاب، والنبوة إليهم، فكل ذلك واقع منهم، فلو قيل بأن ذلك أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ يعني النبي ﷺ وهذه الأمة على ما آتاهم الله من فضله من النبوة، والفضائل التي اختصهم بها [محمد1] .

"فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ المراد بآل إبراهيم ذريته من بني إسرائيل، وغيرهم ممن آتاه الله الكتب التي أنزلها والحكمة التي علمها، والمقصود بالآية الردّ على اليهود في حسدهم لسيدنا محمد ﷺ ومعناها إلزام لهم بما عرفوه من فضل الله تعالى على آل إبراهيم، فلأيّ شيء تخصون محمدًا ﷺ وفي النسخة الخطية: فلأي شيء يخصون محمدًا ﷺ بالحسد دون غيره ممن أنعم الله عليهم".

قوله - تبارك وتعالى -: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ الكتاب هنا فسره ابن جرير بالكتب آلَ إِبْراهِيمَ يعني الأنبياء من ذريته.

قال هنا ابن جزي: "المراد بآل إبراهيم؛ ذريته من بني إسرائيل"، وهذا الذي اختاره ابن كثير - رحمه الله - [3] وقوله - تبارك وتعالى -: وَالْحِكْمَةَ الكتاب معروف، والحكمة، ابن كثير - رحمه الله - يقول: آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ يعني حكموا فيهم بالسنن، وهي الحكمة، وهذا معنى قول ابن جرير - رحمه الله - بأن الحكمة هي الوحي في غير الكتاب، يعني ما يوحى إلى هؤلاء الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - إضافة إلى الكتاب المنزل، يعني ما كان زائدًا عليه، مثل السنة التي هي وحي من الله، فهي الحكمة وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النساء:113] فالحكمة هي السنة.

"مُلْكاً عَظِيماً الملك في آل إبراهيم؛ هو ملك يوسف وداود وسليمان".

وحملها ابن جرير - رحمه الله - على ملك سليمان - عليه الصلاة والسلام - [4] باعتبار أنه كان أعظم الملك، الذي كان في ذرية إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -.

وعلى كل حال، لو قيل بأن المعنى أعم من هذا، فأوتوا من الملك العظيم، فيكون مجموع ذلك يصدق على ما أوتيه سليمان - عليه الصلاة والسلام - وكذلك داوود، ويوسف - عليهم صلوات الله وسلامه -.

  1.  تفسير الطبري (8/476).
  2.  تفسير ابن كثير (2/336). 
  3.  المصدر السابق.
  4.  تفسير الطبري (8/482).