المقصود أن كل أحد صائر إلى الموت لا محالة، ولا ينجيه من ذلك شيء سواء جاهد، أو لم يجاهد فإن له أجلاً محتوماً، ومقاماً مقسوماًَ، كما قال خالد بن الوليد حينما جاءه الموت على فراشه: لقد شهدت كذا، وكذا موقفاً، وما من عضو من أعضائي إلا وفيه جرح من طعنة أو رمية، وها أنا أموت على فراشي فلا نامت أعين الجبناء.
وقوله: وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [سورة النساء:78] أي حصينة منيعة عالية رفيعة أي: لا يغني حذر، وتحصن من الموت."
يقول تعالى: وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [سورة النساء:78] البرج هو المكان المرتفع، وقيل له ذلك لظهوره، وانكشافه، ولذلك يقال للمرأة المتبذلة، أو التي تزاحم الرجال، أو تمشي في وسط الطريق أو كثيرة الخروج - ولو كانت متحجبة - يقال عنها: متبرجة؛ لأن هذا نوع من التبرج بمعنى الظهور، والانكشاف؛ فالبرج يراه الناس بانكشافه، وظهوره، وارتفاعه، وبدوِّه.
والمشيدة تأتي بمعنى المرتفعة، وتأتي بمعنى المطلية - بالجص مثلاً - بمعنى أنها محكمة البناء، ولذلك فالحديث الذي فيه النهي عن تشييد المساجد هل المقصود به النهي عن رفع المساجد في البناء، وتعليتها من غير حاجة، أو المقصود به تزيينها، وتحسين بنائها، وما أشبه ذلك؟
وردت نصوص دالة على كراهة أن يحمر، أو يصفر، فالحاصل أن الله ذكر لهم في هذه الآيات جملة من الأمور التي يحفزهم فيها إلى الجهاد فأمرهم - تبارك، وتعالى - بأن ينفروا مجتمعين، ومتفرقين، وعاتب المتباطئين منهم، وذم المنافقين على قيلهم، وأمر أهل الإيمان بالقتال فقال: فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ [سورة النساء:74]، وذكر ثوابهم، ثم ذكر ما يحفزهم على ذلك، فقال: لماذا لا تقاتلون في سبيل الله، وفي سبيل المستضعفين الذين قد وقع عليهم الإذلال، والظلم، والقهر؟ ثم ذكر حالة أهل الإيمان، ثم عاتب الذين تباطئوا بعد أن كانوا يتمنون ذلك، ثم بعد ذلك بيّن لهم أصلاً كبيراً، وهو أن متاع الدنيا زائل، وأن الموت الذي يخافون منه، ويتحاشونه واقع لا محالة، لا يقدمه قتال، ولا يؤخره خور، وضعف، وجبن، وإنما إذا جاء أجل الإنسان مات في أي مكان كان، ومهما ركب الإنسان الأهوال، والأوجال، والأخطار فإن ذلك لا يقدم في أجله لحظة، فهذه عقيدة قوية، وراسخة إذا اعتقدها الإنسان فإنه تنقشع عنه سحائب الخوف، والوجل، والهلع، والجبن.
وذكر الله لهم في هذه الآيات قضية مهمة تتعلق بحالهم، وحال عدوهم في القتال، وهي أن هؤلاء الأعداء يقاتلون في سبيل الطاغوت، فأهدافهم واهية، ويركنون إلى ركن هش ضعيف لا يستطيع أن يقدم لهم نفعاً، ولا نصراً، وأن أهل الإيمان يقاتلون في سبيل الله فقال: فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ [سورة النساء:76]، وبيّن لهم ضعف كيد الشيطان فقال: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [سورة النساء:76]، وهذا يرجع إلى أوليائه فإن كيدهم يتلاشى، والهالة التي يضفونها على أنفسهم تنقشع إذا قابلوا أهل الإيمان، وقاتلوهم، وهذه المعاني لو أن أهل الإيمان تأملوها فإنه ترتفع عن نفوسهم كثير من الأمور التي تضعفهم، وتؤخرهم.
ثم ذكر تعالى بعد ذلك حال المنافقين، وإرجافهم، وأنهم كانوا إذا وقعت هزيمة، أو نحو ذلك أعادوا هذا إلى النبي ﷺ، وإذا جاء نصر، وظفر، وغنيمة قالوا: هذا من عند الله ، كما قال الفراعنة لموسى - عليه الصلاة، والسلام - عندما كانوا يتطيرون به، ويمن معه: وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ [سورة الأعراف:131].