الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
أَيْنَمَا تَكُونُوا۟ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ۗ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا۟ هَٰذِهِۦ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا۟ هَٰذِهِۦ مِنْ عِندِكَ ۚ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ ۖ فَمَالِ هَٰٓؤُلَآءِ ٱلْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [سورة النساء:78] أي: أنتم صائرون إلى الموت لا محالة، ولا ينجو منه أحد منكم كما قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ الآية [سورة الرحمن:26]، وقال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [سورة العنكبوت:57]، وقال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ [سورة الأنبياء:34].
المقصود أن كل أحد صائر إلى الموت لا محالة، ولا ينجيه من ذلك شيء سواء جاهد، أو لم يجاهد فإن له أجلاً محتوماً، ومقاماً مقسوماًَ، كما قال خالد بن الوليد حينما جاءه الموت على فراشه: لقد شهدت كذا، وكذا موقفاً، وما من عضو من أعضائي إلا وفيه جرح من طعنة أو رمية، وها أنا أموت على فراشي فلا نامت أعين الجبناء.
وقوله: وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [سورة النساء:78] أي حصينة منيعة عالية رفيعة أي: لا يغني حذر، وتحصن من الموت."

يقول تعالى: وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [سورة النساء:78] البرج هو المكان المرتفع، وقيل له ذلك لظهوره، وانكشافه، ولذلك يقال للمرأة المتبذلة، أو التي تزاحم الرجال، أو تمشي في وسط الطريق أو كثيرة الخروج - ولو كانت متحجبة - يقال عنها: متبرجة؛ لأن هذا نوع من التبرج بمعنى الظهور، والانكشاف؛ فالبرج يراه الناس بانكشافه، وظهوره، وارتفاعه، وبدوِّه.
والمشيدة تأتي بمعنى المرتفعة، وتأتي بمعنى المطلية - بالجص مثلاً - بمعنى أنها محكمة البناء، ولذلك فالحديث الذي فيه النهي عن تشييد المساجد هل المقصود به النهي عن رفع المساجد في البناء، وتعليتها من غير حاجة، أو المقصود به تزيينها، وتحسين بنائها، وما أشبه ذلك؟
وردت نصوص دالة على كراهة أن يحمر، أو يصفر، فالحاصل أن الله ذكر لهم في هذه الآيات جملة من الأمور التي يحفزهم فيها إلى الجهاد فأمرهم - تبارك، وتعالى - بأن ينفروا مجتمعين، ومتفرقين، وعاتب المتباطئين منهم، وذم المنافقين على قيلهم، وأمر أهل الإيمان بالقتال فقال: فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ [سورة النساء:74]، وذكر ثوابهم، ثم ذكر ما يحفزهم على ذلك، فقال: لماذا لا تقاتلون في سبيل الله، وفي سبيل المستضعفين الذين قد وقع عليهم الإذلال، والظلم، والقهر؟ ثم ذكر حالة أهل الإيمان، ثم عاتب الذين تباطئوا بعد أن كانوا يتمنون ذلك، ثم بعد ذلك بيّن لهم أصلاً كبيراً، وهو أن متاع الدنيا زائل، وأن الموت الذي يخافون منه، ويتحاشونه واقع لا محالة، لا يقدمه قتال، ولا يؤخره خور، وضعف، وجبن، وإنما إذا جاء أجل الإنسان مات في أي مكان كان، ومهما ركب الإنسان الأهوال، والأوجال، والأخطار فإن ذلك لا يقدم في أجله لحظة، فهذه عقيدة قوية، وراسخة إذا اعتقدها الإنسان فإنه تنقشع عنه سحائب الخوف، والوجل، والهلع، والجبن.
وذكر الله لهم في هذه الآيات قضية مهمة تتعلق بحالهم، وحال عدوهم في القتال، وهي أن هؤلاء الأعداء يقاتلون في سبيل الطاغوت، فأهدافهم واهية، ويركنون إلى ركن هش ضعيف لا يستطيع أن يقدم لهم نفعاً، ولا نصراً، وأن أهل الإيمان يقاتلون في سبيل الله فقال: فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ [سورة النساء:76]، وبيّن لهم ضعف كيد الشيطان فقال: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [سورة النساء:76]، وهذا يرجع إلى أوليائه فإن كيدهم يتلاشى، والهالة التي يضفونها على أنفسهم تنقشع إذا قابلوا أهل الإيمان، وقاتلوهم، وهذه المعاني لو أن أهل الإيمان تأملوها فإنه ترتفع عن نفوسهم كثير من الأمور التي تضعفهم، وتؤخرهم.
ثم ذكر تعالى بعد ذلك حال المنافقين، وإرجافهم، وأنهم كانوا إذا وقعت هزيمة، أو نحو ذلك أعادوا هذا إلى النبي ﷺ، وإذا جاء نصر، وظفر، وغنيمة قالوا: هذا من عند الله ، كما قال الفراعنة لموسى - عليه الصلاة، والسلام - عندما كانوا يتطيرون به، ويمن معه: وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ [سورة الأعراف:131].
"وقوله: وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ [سورة النساء:78] أي: خصب، ورزق من ثمار، وزروع، وأولاد، ونحو ذلك، هذا معنى قول ابن عباس - ا -، وأبي العالية، والسدي يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ [سورة النساء:78] وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ [سورة النساء:78] أي: قحط، وجدب، ونقص في الثمار، والزروع، أو موت أولاد، أو نتاج، أو غير ذلك كما يقوله أبو العالية، والسدي يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ [سورة النساء:78] أي: من قِبَلك، وبسبب اتباعنا لك، واقتدائنا بدينك، كما قال تعالى عن قوم فرعون: فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ [سورة الأعراف:131]، وكما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ الآية [سورة الحـج:11]  وهكذا قال هؤلاء المنافقون الذين دخلوا في الإسلام ظاهراً، وهم كارهون له في نفس الأمر، ولهذا إذا أصابهم شر إنما يسندونه إلى اتباعهم النبي ﷺ، فأنزل الله : قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ [سورة النساء:78] فقوله: قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ [سورة النساء:78] أي: الجميع بقضاء الله، وقدره، وهو نافذ في البر، والفاجر، والمؤمن، والكافر.

مرات الإستماع: 0

"فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78] أي في حصونٍ منيعة، وقيل: المشيدة: المُطوَّلة، وقيل: المبنية بالشيد، وهو الجص."

فقوله - تبارك، وتعالى -: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78] بُرُوجٍ [النساء:78] أصل هذه المادة الباء، والراء، والجيم يدل على الظهور، والبروز، فلذلك قال بعضهم: هي البيوت المبنية فوق الحصون، تكون ظاهرة، بارزة، ولذلك يُقال للبرج: المكان المرتفع، وكذلك أيضًا المرأة إذا ظهرت أمام الرجال، وبدت، كانت تبدو، تخالط الرجال، تبرز أمامهم، وقد يصاحب ذلك تكشف، ونحو ذلك يُقال: تبرج، امرأةٌ متبرجة.

وقال: أي: في حصون منيعة، باعتبار أن الحصون مرتفعة ارتفاع البروج المشيدة فُسر بالمنيعة، وقيل: المُطولة بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78] وقيل: المبنية بالشيد، وهو الجص.

على كل حال فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78] يعني أنها منيعة، محكمة البناء، عالية، بحيث يتحصنون بها فيحصل لهم المنعة، لكنّ ذلك لا يمنع الموت من نزوله بهم إذا جاء الأجل.

قوله - تعالى -: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ [النساء:78] الحسنة هنا: النصر، والغنيمة، وشبه ذلك من المحبوبات، والسيئة: الهزيمة، والجوع، وشبه ذلك، والضمير في قوله: تُصِبْهُمْ [النساء:78] وفي قوله: يَقُولُوا [النساء:78] للذين قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [النساء:77] وهذا يدل على أنها في المنافقين؛ لأن المؤمنين لا يقولون للنبي ﷺ: إنّ السيئات من عنده.

مع أنه ثبت في حديث ابن عباس - ا - بسبب النزول - كما سبق -: أن عبد الرحمن بن عوف، وأصحابًا له أتوا النبي ﷺ بمكة فقالوا: يا نبي الله، إنا كنا في عزٍ، ونحن مشركون فلمّا آمنا صرنا أذلة، قال: إني أُمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم فلمّا حوَّله الله إلى المدينة أمره بالقتال، فكفوا، فأنزل الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [النساء:77][1] فهذا سبب النزول، ثم بعد ذلك تحول السياق - والله تعالى أعلم - إلى الحديث عن المنافقين، وربما دخل معهم ضعفاء الإيمان؛ لأن مثل هذا: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [النساء:78] هذا في المنافقين، كأن السياق قد تحول إلى الحديث عن المنافقين، وهذا له نظائر في القرآن، وإن أشكل على بعض المفسرين كما في قوله - تبارك، وتعالى - في الخلق لمّا ذكر أصل خلق الإنسان من آدم : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [الأعراف:189] فذكر هذه النفس، وخلق الزوج منها، هذا في آدم قطعًا، وحواء، ثم قال الله - تبارك، وتعالى -: فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ [الأعراف:189] هذا كله في آدم، وحواء فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف:189] هذا في آدم، وحواء فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الأعراف:190] فهذا، وإن قال كثيرٌ من المفسرين من السلف، فمن بعدهم: بأنه في آدم، وحواء إلا أنه مُشكل، قالوا: هذا الشرك في التسمية، أن الشيطان أتاهما فأمرهما بأن يسمياه عبد الحارث، خوفهما من أن يكون له قرنُ أيل فيشق بطنها إلى آخره، لكن هذا لا يثبت، وهو من أخبار بني إسرائيل، وإنما - والله تعالى أعلم - كان ذلك في الذرية، تحول الخطاب إلى الذرية، أو تحول السياق إلى الحديث عن الذرية، فهذا هنا وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ [النساء:78] كذلك أيضًا هذا في المنافقين، فلمّا كان المنافقون ممن نكل عن الجهاد، واستثقله جاء الحديثُ عن حالهم، ومقالهم، - والله تعالى أعلم - .

"قوله - تعالى -: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء:78] ردٌ على من نسب السيئة إلى رسول الله ﷺ وإعلامٌ أن السيئة، والحسنة، والخير، والشر من عند الله، أي: بقضائه، وقدره."

نعم هو كذلك، المقصود أن أقول: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء:78] يعني بقضائه، وقدره، وليس كما زعموا، حيث تشاءموا برسول الله ﷺ كما كان أعداء الرسل يفعلون، وسيأتي بعده قوله - تبارك، وتعالى -: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79] هذا من جهة التسبب، وأما من جهة التقدير فكل ذلك من الله، ومن باب التأدب: فالشر لا يُنسب إلى الله - تبارك، وتعالى - والشر ليس إليك[2] لا يُنسبُ إليه من جهة الوصف، ولكن هو من الله - تبارك، وتعالى - خلقًا، وتقديرًا.

"قوله - تعالى -: فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ [النساء:78] توبيخٌ لهم على قلة فهمهم."

فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [النساء:78] هذا لا يكون إلا في المنافقين.

  1. أخرجه النسائي، كتاب الجهاد، باب وجوب الجهاد، برقم (3086)، وفي الكبرى، برقم (4279)، والحاكم في المستدرك، برقم (2377)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه".
  2. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (771).