قوله: مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [سورة النساء:79] الحسنة تشمل كل المعاني التي ذكرها السلف، فهي كل أمر يسرهم من نصر، أو غنى، أو نزول مطر، أو نحو ذلك، والسيئة كل ما يسوء من هزيمة، وموت ولد وهلاك زرع، وخسارة التجارة، وما أشبه ذلك مما يتشاءمون به، ويقولون: هذا بشؤمك، وشؤم دينك الذي جئت به، وقد كانوا يقولون هذا الكلام بطريقة، أو بأخرى، كقولهم: أنت الذي سببت لنا هذه الكوارث؛ لأنك جعلت الناس يحاربوننا، ويستهدفوننا، ويرموننا عن قوس واحدة، فحصل ما حصل من هذه الأمور.
وقوله تعالى: مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [سورة النساء:79] هذه الآية ليست معارضة لما قبلها، وذلك أن، وقوع الحسنة هي من توفيق الله، وفضله، ووقوع السيئة يكون بسبب الإنسان من التقصير، والذنوب، ونحو ذلك، وكل من الحسنة، والسيئة لا يقع شيء منها إلا بإذن الله، وقدره.
وقوله تعالى: قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ [سورة النساء:78] هذا رد على المنافقين، وقوله تعالى: مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [سورة النساء:79] هذا خطاب للنبي ﷺ، وهذا الخطاب لا يرد عليه إشكال في أن النبي ﷺ لم يكن له سيئات، أو ذنوب حتى يقال: وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [سورة النساء:79] فالذين التفتوا إلى هذا المعنى قالوا: هذا خطاب للأمة، ولا مانع من أن يقال: إن الخطاب متوجه إلى النبي ﷺ، والمقصود به الأمة، أو أن الأمة داخلة فيه باعتبار أن الأمة تخاطب في شخص قدوتها، ومقدمها - عليه الصلاة، والسلام -، والخطاب الموجه إلى النبي ﷺ تارة يكون مختصاً به، وتارة يكون المراد به الأمة قطعاً، وتارة يدخل فيه النبي ﷺ، وتدخل فيه الأمة بالاعتبار الذي ذكرته آنفاً.
ومما يختص بالأمة دون النبي ﷺ، أن الله قال: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [سورة الإسراء:23-24] النبي ﷺ لما نزلت عليه هذه الآيات لم يكن له أب، ولا أم، فهذا الخطاب قطعاً متوجه إلى الأمة.
وقد يختص بالنبي ﷺ، وتقوم قرينة تدل على ذلك كقوله تعالى: خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأحزاب:50]، وقد تشترك الأمة مع النبي ﷺ في الخطاب، وهذا هو الغالب.
وبالنسبة للأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - فإن الصغائر تقع منهم على القول الراجح عند أهل السنة، لكنهم لا يصرون عليها، ولا تكون هذه الصغائر من قبيل المدنسات التي يسميها العلماء صغائر الخسَّة - يعني التي تدل على دناءة - فهذه لا تقع من الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام -، والله قال: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ [سورة الفتح:2] فالله غفر للنبي ﷺ ما تقدم من ذنبه، وما تأخر.
فالحاصل أن الله قال: وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [سورة النساء:79] فالأولى رد على المنافقين قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ [سورة النساء:78] أي: بقضائه، وقدره، وفي القراءة التي قرأ بها أبي، وابن عباس، وابن مسعود: (وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وأنا كتبتها عليك)، والقراءة الآحادية إذا صح سندها فإنها تفسر القراءة المتواترة، فالله رد على المنافقين قائلاً: قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ [سورة النساء:78] ثم بعد ذلك قرر لأهل الإيمان معنىً ينتفعون به، فقال: مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ [سورة النساء:79] أي أن هذا من فضله عليك، وعلى هذه الأمة أن حصل لهم الخصب، أو النصر، أو ربح التجارة، وما أشبه ذلك.
وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [سورة النساء:79] أي بسبب ذنوبكم، وتقصيركم، ومخالفتكم لأمر الله - تبارك، وتعالى - كما وقع من الهزيمة في يوم أحد لما عصوا النبي ﷺ، وهذا كما قال الله - تبارك، وتعالى - في الآية الأخرى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [سورة الشورى:30] فالمصائب التي تقع للإنسان إنما تقع بسبب ذنوبه، وظلمه، وتقصيره، فهذا المعنى ينتفع به أهل الإيمان، أي: ما أصابكم من حسنات، ومن أمور طيبة فهي من عند الله فاشكروه عليها، وما وقع بكم من مصائب، ونقص في الأرزاق، والأموال، وما إلى ذلك فهذا بسبب تقصيركم، وذنوبكم، فتوبوا إلى الله ، وارجعوا إليه ليرفع ما بكم من الضر، وما نزل بكم من المصيبة، فالشر لا ينسب إلى الله كما في الحديث: والشر ليس إليك[1] فالله - تبارك، وتعالى - خلق الخير، وخلق الشر لكن ليس في أفعال الله شر، وإنما الشر يوجد في مفعولاته لِحِكَمٍ بالغة يعلمها الله فهذا الذي يقع للإنسان من المكاره إنما هو بسبب ما جنته يداه، والكل مجتمع تحت قضاء الله، وقدره، وبهذا يتبيّن الفرق، وأنه لا تعارض بين هذه النصوص.
وقوله تعالى: وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً [سورة النساء:79] أي: تبلغهم شرائع الله، وما يحبه الله، ويرضاه، وما يكرهه، ويأباه.
وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا [سورة النساء:79] أي: على أنه أرسلك، وهو شهيد أيضاً بينك، وبينهم، وعالم بما تبلغهم إياه، وبما يردون عليك من الحق كفراً، وعناداًَ."
الله يقول: وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً [سورة النساء:79] يعني لست أنت الذي تكون سبباً لما يقع بهم من الكوارث، والمصائب، والضيق، والشدة في العيش، وما أشبه هذا، فأنت إنما أرسلناك للناس رسولاً، فكونهم يتشاءمون بك فهذا ليس له معنى.
وقوله: وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا [سورة النساء:79] يعني على أنه أرسلك، وهو شهيد أيضاً بينك، وبينهم، وهو شهيد على أفعال العباد، وعلى أقوالهم، ومن ذلك التشاؤم الذي قالوه.
- أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، وقصرها – باب الدعاء في صلاة الليل، وقيامه (771) (ج 1 / ص 534).