هذا أشهر الأقوال، وهو المتبادر من السياق، وبعض أهل العلم يستشكل ما إذا كان الورثة أو بعضهم من القُصّر؛ لأنه لا يحق لأحد التصرف بأموال هؤلاء القُصّر، ولذلك فرق بعضهم بين ما إذا كان الورثة من القُصّر فلا يُعطِى ذوي القربى ممن ليس بوارث شيئاً، ويقال لهم قولاً معروفاً، وما إذا كانوا من الكبار الراشدين فإنهم يعطون في وجودهم، وظاهر الآية لا يحتمل هذا التفريق.
وقال بعضهم: إن الذين يرضخ لهم، ويعطون من التركة حال القسمة هم ذوو القرابات من غير الوارثين، وأما اليتامى، والمساكين فيقال لهم قولاً معروفاً، ولا يعطون شيئاً، ولا دليل علي هذا القول.
وذهب آخرون إلى أن الآية محكمة غير منسوخة، وإنما عنى بها الوصية لأولى قربى الموصي، وعني باليتامى، والمساكين أن يقال لهم قول معروف، وهذا القول لا إشكال فيه، إذ ليس ثمَّة قُصّر يرد عليهم ما سبق، وانتصر له ابن جرير الطبري - رحمه الله -، ولكن سياق الآيات ظاهر في المواريث، وقسمة المواريث، - والله أعلم بالصواب -.
وروى ابن جرير عن ابن عباس - ا - قال: هي قائمة يعمل بها.
وقال الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الآية، قال: هي واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم.
وهكذا روي عن ابن مسعود، وأبي موسى، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، وأبي العالية، والشعبي، والحسن، وقال ابن سيرين، وسعيد بن جبير، ومكحول، وإبراهيم النخعي، وعطاء بن أبي رباح، والزهري، ويحيى بن يعمر: إنها واجبة.
وقيل: هذا بالوصية يوصي به الميت، وقيل: بل هذه الآية منسوخة."
والقول بالنسخ بعيد؛ لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وتحمل الآية كما ذكرنا على القرابة غير الوارثين، وقد جاءت الوصية للوالدين، والأقربين مع كونهم من الورثة في قوله سبحانه: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ [سورة البقرة:180]، ومعلوم أنه لا وصية لوارث، ولذا فكثير من أهل العلم يقولون: نسختها آية المواريث، أو قول النبي ﷺ: إن الله أعطى كل ذي حق حقه، ولا وصية لوارث[1]، والصواب أن هذه الآية في الوالد غير الوارث إذا قام به مانع من موانع الإرث الثلاثة، وهي: اختلاف الدين، القتل، الرق، - والله أعلم -.
وهكذا قال غير واحد، والمعنى على هذا: إذا حضر هؤلاء الفقراء من القرابة الذين لا يرثون، واليتامى، والمساكين قسمة مال جزيل، فإن أنفسهم تتوق إلى شيء منه إذا رأوا هذا يأخذ، وهذا يأخذ، وهم يائسون لا شيء يعطون، فأمر الله - تعالى -، وهو الرءوف الرحيم أن يُرضَخ لهم شيء من الوسط يكون براً بهم، وصدقةً عليهم، وإحساناً إليهم، وجبراً لكسرهم."
والقول المعروف: القول الحسن، وابن جرير - رحمه الله - يرى أن القول المعروف في الآية مختص باليتامى، والمساكين، وأما العطاء فهو لقرابة الميت غير الوارثين، والصواب أن ظاهر الآية يفيد العموم، وأن القول المعروف مطلوب عند التعامل مع عموم المحتاجين لا يختص به إنسان دون آخر كما قال سبحانه: قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى [سورة البقرة:263] فلا يعطيهم، ويزجرهم، أو يبدي لهم الامتعاض، أو يستثقل حضورهم، فإن هذا مما قد تذهب معه الأجور يقول سبحانه - مخاطباً عباده المؤمنين -: لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى [سورة البقرة:264]، والمن: التذكير بالعطية، والأذى: الزجر، الإغلاظ عليه... ولذا كان الاقتصار على الكلام الطيب، والقول المعروف يغنى عن العطاء، والبذل كما قال الله : وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا [سورة الإسراء:28] فعلى أشهر المعاني في تفسيرها إن لم يكن عندك شيء تعطيهم إياه، فقل لهم - يعني من العدة الحسنة -، وما أشبه هذا فإنه يقوم مقام العطاء.
- رواه الترمذي برقم (2121) (4/434)، وصححه الألباني في صحيح، وضعيف الجامع الصغير برقم (2600).