الخميس 24 / ذو القعدة / 1446 - 22 / مايو 2025
وَإِذَا حَضَرَ ٱلْقِسْمَةَ أُو۟لُوا۟ ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينُ فَٱرْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا۟ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

وقوله: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ [سورة النساء:8] الآية، قيل المراد: وإذا حضر قسمة الميراث ذوو القربى ممن ليس بوارث، واليتامى، والمساكين؛ فليرضخ لهم من التركة نصيب."

هذا أشهر الأقوال، وهو المتبادر من السياق، وبعض أهل العلم يستشكل ما إذا كان الورثة أو بعضهم من القُصّر؛ لأنه لا يحق لأحد التصرف بأموال هؤلاء القُصّر، ولذلك فرق بعضهم بين ما إذا كان الورثة من القُصّر فلا يُعطِى ذوي القربى ممن ليس بوارث شيئاً، ويقال لهم قولاً معروفاً، وما إذا كانوا من الكبار الراشدين فإنهم يعطون في وجودهم، وظاهر الآية لا يحتمل هذا التفريق.
وقال بعضهم: إن الذين يرضخ لهم، ويعطون من التركة حال القسمة هم ذوو القرابات من غير الوارثين، وأما اليتامى، والمساكين فيقال لهم قولاً معروفاً، ولا يعطون شيئاً، ولا دليل علي هذا القول.
وذهب آخرون إلى أن الآية محكمة غير منسوخة، وإنما عنى بها الوصية لأولى قربى الموصي، وعني باليتامى، والمساكين أن يقال لهم قول معروف، وهذا القول لا إشكال فيه، إذ ليس ثمَّة قُصّر يرد عليهم ما سبق، وانتصر له ابن جرير الطبري - رحمه الله -، ولكن سياق الآيات ظاهر في المواريث، وقسمة المواريث، - والله أعلم بالصواب -.
"روى البخاري عن ابن عباس - ا -: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ، قال: هي محكمة، وليست بمنسوخة.
وروى ابن جرير عن ابن عباس - ا - قال: هي قائمة يعمل بها.
وقال الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الآية، قال: هي واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم.
وهكذا روي عن ابن مسعود، وأبي موسى، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، وأبي العالية، والشعبي، والحسن، وقال ابن سيرين، وسعيد بن جبير، ومكحول، وإبراهيم النخعي، وعطاء بن أبي رباح، والزهري، ويحيى بن يعمر: إنها واجبة.
وقيل: هذا بالوصية يوصي به الميت، وقيل: بل هذه الآية منسوخة."

والقول بالنسخ بعيد؛ لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وتحمل الآية كما ذكرنا على القرابة غير الوارثين، وقد جاءت الوصية للوالدين، والأقربين مع كونهم من الورثة في قوله سبحانه: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ [سورة البقرة:180]، ومعلوم أنه لا وصية لوارث، ولذا فكثير من أهل العلم يقولون: نسختها آية المواريث، أو قول النبي ﷺ: إن الله أعطى كل ذي حق حقه، ولا وصية لوارث[1]، والصواب أن هذه الآية في الوالد غير الوارث إذا قام به مانع من موانع الإرث الثلاثة، وهي: اختلاف الدين، القتل، الرق، - والله أعلم -.
"قال العوفي: عن ابن عباس - ا -: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ، وهي قسمة الميراث.
وهكذا قال غير واحد، والمعنى على هذا: إذا حضر هؤلاء الفقراء من القرابة الذين لا يرثون، واليتامى، والمساكين قسمة مال جزيل، فإن أنفسهم تتوق إلى شيء منه إذا رأوا هذا يأخذ، وهذا يأخذ، وهم يائسون لا شيء يعطون، فأمر الله - تعالى -، وهو الرءوف الرحيم أن يُرضَخ لهم شيء من الوسط يكون براً بهم، وصدقةً عليهم، وإحساناً إليهم، وجبراً لكسرهم."

والقول المعروف: القول الحسن، وابن جرير - رحمه الله - يرى أن القول المعروف في الآية مختص باليتامى، والمساكين، وأما العطاء فهو لقرابة الميت غير الوارثين، والصواب أن ظاهر الآية يفيد العموم، وأن القول المعروف مطلوب عند التعامل مع عموم المحتاجين لا يختص به إنسان دون آخر كما قال سبحانه: قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى [سورة البقرة:263] فلا يعطيهم، ويزجرهم، أو يبدي لهم الامتعاض، أو يستثقل حضورهم، فإن هذا مما قد تذهب معه الأجور يقول سبحانه - مخاطباً عباده المؤمنين -: لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى [سورة البقرة:264]، والمن: التذكير بالعطية، والأذى: الزجر، الإغلاظ عليه... ولذا كان الاقتصار على الكلام الطيب، والقول المعروف يغنى عن العطاء، والبذل كما قال الله : وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا [سورة الإسراء:28] فعلى أشهر المعاني في تفسيرها إن لم يكن عندك شيء تعطيهم إياه، فقل لهم - يعني من العدة الحسنة -، وما أشبه هذا فإنه يقوم مقام العطاء.
  1. رواه الترمذي برقم (2121) (4/434)، وصححه الألباني في صحيح، وضعيف الجامع الصغير برقم (2600).

مرات الإستماع: 0

"وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ [النساء:8] الآية، خطابٌ للوارثين، أمروا أن يتصدقوا من الميراث على قرابتهم، وعلى اليتامى، وعلى المساكين، فقيل: إن ذلك على الوجوب، وقيل: على الندب، وهو الصحيح، وقيل: نسخ بآية المواريث".

قوله: "خطابٌ للوارثين" أي: ليتصدقوا على من حضر من القرابات غير الوارثين وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:8] فقيل: إن ذلك على الوجوب، فيجب إعطاء هؤلاء شيئًا، ولو كان يسيرًا، يعني على حسب المال، وهذا جاء عن سعيد بن جبير، وابن سيرين، ومكحول، والنخعي، وعطاء بن أبي رباح، والزهري، ويحي بن يعمر[1] فعند هؤلاء يعطون، وجوبًا؛ للأمر فَارْزُقُوهُمْ [النساء:8] فهذا أمر، والأصل أن الأمر للوجوب.

وقيل: "على الندب" يقول: "وهو الصحيح" وهذا جاء عن ابن مسعود، وعبد الرحمن بن أبي بكر، ومجاهد، وأبي العالية، والشعبي، والحسن[2] باعتبار أن هؤلاء يملكون أموالهم يعني الوارثين، وأن أولئك لا حق لهم في هذا المال، لكن من باب تطيب القلوب، وتسميح النفوس، والخواطر، وقطع الاستشراف، فإن من حضر هذه الأموال تقسم، فإن نفسه تتطلع إلى ذلك، فحسن أن يعطى تطمينًا لنفسه، ودفعًا لتطلعه، ونظره، وقد أخذ من هذا بعض أهل العلم، كالشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - في بعض كتبه: بأن ذلك لا يختص بهذا الموضع، وهو مال الأيتام، وإنما من حضر شيئًا يقسم، ولو كان غير الميراث، فإنه يعطى له منه شيء، يعني مثلًا الكتب التي توزع على بعض طلبة العلم، وحضر آخر، ورأى هذه الكتب توزع، يعطى منها، أو حفل تحفيظ، يكرم فيه الذين حققوا نتائج متقدمة، ونحو ذلك، وبعض التلاميذ في الحلقة ينظر، ويترقب، وكل ما دعي اسم أن يدعى هو، ونفسه تستشرف لهذا، ثم بعد ذلك يخرج، وقد طأطأ رأس، ويرجع إلى أهله، فيسألونه، فيذم الحلقة، ويذم الأستاذ، ويذم الإدارة، ويذم الذين ما عرفوا قدره، وأعطوا زملائه جميعًا إلا هو، وقد لا يرجع إليهم ثانيةً، يعطى له ورقة، أو شهادة حضور، حتى، ولو مثل هذا القلم، ينوه باسمه، ويتردد على هذا المسجد كل يوم، ولو أنه لم يحقق نتائج تذكر، لكن جبرًا لقلبه، وخاطره، مثل هذه أحيانًا لا تراعى، لكن لها أثارًا عميقة في النفوس، والنبي ﷺ حينما كان يأتيه أهل المدينة في أول الثمر؛ ليدعو لهم ﷺ فكان ينظر إلى أصغر من حضره، فيدفع ذلك إليه ليفرح؛ لأن هذا يكون له موقع في نفسه، وهكذا.

فإذا كان مال هؤلاء الورثة، وهو مال لمعينٍ، وهو ملكٌ جبري - كما هو معلوم - فالميراث ليس كالهبة، والهدية يتوقف على قبول الموهوب، وإنما ينتقل مباشرةً إلى الورثة شاؤوا أو أبوا، يتحول إلى أملاكهم، فإذا كان هذا المال الذي هو ملكٌ لمعينين، إذا حضر القرابة من غير الوارثين، والأيتام، والمساكين، إلى آخره، يعطون منه، ويطيب خواطرهم، ويسكن نفوسهم، فكيف بغيره من المال الذي ليس هو بمالٍ لمعينين؟ مثل: كما يكون في أموال التبرعات، ونحوها، فلا يكون ذلك جمودًا باعتبار أن هذا تُبرع به للفائزين مثلًا، يعطى شيء يسير لمن حضر من هؤلاء الذين تتطلع نفوسهم، وإن كان قد بذل ابتداءً لغيرهم، فإذا كان في المال الذي لمعين يُعطى منه، فمن باب أولى المال الذي يكون من غيره.

يقول: "وقيل: على الندب، على الصحيح، وقيل: نُسخ بآية المواريث" وهذا لا دليل عليه، وكما هي القاعدة: أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وجاء في الصحيح عن ابن عباس - ا -: أنها محكمة غير منسوخة[3] لكن ابن جرير - رحمه الله - حمله على من حضر وصية موصٍ في ماله، أن يوصي في قرابته غير الوارثين[4] ويقول لليتامى، والمساكين: قولًا معروفًا، فعند ابن جرير هؤلاء القرابة غير الوارثين، واليتامى، والمساكين إذا حضروا قسمة المواريث لا شيء لهم، ولكن يقال لليتامى، والمساكين، والفقراء قول طيب، كأسأل الله أن يرزقكم، وأن يحسن عاقبتكم في الأمور كلها، وأن يوسع عليكم في الرزق، ونحو ذلك من الكلام الطيب.

والأصل حرمة مال المسلم، ولا يجوز التصرف فيه، إلا بإذنه قل ذلك أو كثر، فيحتاج إلى إذن هؤلاء الورثة، فهذه أملاك لمعينين، كما سبق أن هذا يتحول إليهم جبرًا، يعني يكون ملكًا جبريًا لهم من غير موافقتهم، ولا رضاهم، فهذا الذي يقوم بقسمة الميراث، فكيف يتصرف بمال غيره، فيعطي من حضر من القرابات، واليتامى، والمساكين من هذه الأموال؟ والأصل أنه لا يحل التصرف في مال الغير، ولا الأخذ من مال المسلم إلا بطيب نفسٍ منه، وهؤلاء ما استُأذنوا أصلًا، بهذا الاعتبار - والله تعالى أعلم - لكن ظاهر الآية قال: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ [النساء:8] ولم يقل: إذا حضر الوصية، وأجمل ذكر هؤلاء في سياقٍ واحد، القرابة، والمساكين، والأيتام حضروا القسمة، فيعطون منه فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:8] يعني قد يكون هذا العطاء قليلًا، فيقال لهم كلامٌ طيب: عسى الله أن يبارك لكم فيه، وأن يزيدكم من فضله، وأبشروا، وأملوا، ونحو هذا من الكلام الذي يجبر خواطرهم، وكذلك أن لا يعطي هؤلاء، ويلحق ذلك بالأذى بكلامٍ يجرح مشاعرهم، كأن يقال لهم: جئتم في وقت غير المناسب، أو ما الذي جاء بكم في هذه الساعة التي تقسم فيها هذه القسمة، وقت غير موفق، وغير ذلك من الكلمات، والعبارات التي لا حاجة إليها، فمثل هذا لو ما أعطاه أفضل؛ ولذلك جاءت الشريعة في مراعاة النفوس، وجبر الخواطر، وحفظ كرامة الناس، ولو كانوا من المحتاجين، أعطاهم - كما هنا - أو منعهم قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ [البقرة:263] وفي قوله - تبارك، وتعالى - في سورة الإسراء: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا [الإسراء:28] يعني تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ [الإسراء:28] يعني لا تجد ما تعطي هؤلاء ابْتِغَاءَ [الإسراء:28] رجاء رحمة من ربك، يعني: ترجو أن يوسع الله عليك في المستقبل، وأن يعطيك، وأن يرزقك فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا [الإسراء:28] كما قال المفسرون: إذا وسع الله علينا أبشروا، وإذا جاءنا شيء أبشروا، نعطيكم - إن شاء الله - إذا حصل لنا مال قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:8] هذا في حال العدم. 

إلّا يكن ورق يومًا أجود بها للمعتفين فإني ليّن العود[5]

يعني إذا ما عنده فضة، ودراهم، ونحو ذلك، فعندها يكون القول الطيب، والكلام الطيب، والأخلاق الفاضلة. 

  1.  تفسير ابن أبي حاتم - محققا (3/875).
  2.  تفسير ابن كثير ط العلمية (2/192).
  3.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (6/432).
  4.  المصدر السابق (6/438).
  5. البيت في التذكرة الحمدونية (2/280)، والزهرة (ص:194) غير منسوب لقائل