"وَلْيَخْشَ الَّذِينَ [النساء:9] الآية، معناها: الأمر لأولياء اليتامى أن يحسنوا إليهم في نظر أموالهم، فيخافوا الله على أيتامهم كخوفهم على ذريتهم لو تركوهم ضعافًا، ويقدروا ذلك في أنفسهم حتى لا يفعلوا خلاف الشفقة، والرحمة، وقيل: الذي يجلسون إلى المريض فيأمروه أن يتصدّق بماله، حتى يجحف بورثته، فأمروا أن يخشوا على الورثة، كما يخشون على أولادهم، وحذف مفعول وَلْيَخْشَ [النساء:9] وخَافُوا [النساء:9] جواب (لو)".
"معناه: الأمر إلى أولياء اليتامى أن يحسنوا إليهم في نظر أموالهم" يعني أن يحسنوا إليهم في أن يحفظوا هذه الأموال، ولا يحصل منهم إتلاف، وعبث، وتضييع لهذه الأموال.
يقول: "فيخافوا الله على أيتامهم كخوفهم على ذريتهم" يعني كما تخاف على أولادك أن يتولاهم من يتلف أموالهم، ويضيع حقهم: فكذلك ينبغي أن تخاف الله - تبارك، وتعالى - في أموال هؤلاء اليتامى، وأن تحب لهم ما تحب لنفسك، وولدك، فلا تكن أنت من يقوم بإتلافها، وتضييعها، فإنك لا ترضى ذلك لولدك، وهذا المعنى استحسنه الحافظ بن كثير - رحمه الله -؛ لأنه يتأيد بما بعده من الوعيد في أكل أموال اليتامى ظلمًا وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:8,9] فهذه قرينة تدل على أن المقصود: أن يحافظ على مال هذا اليتيم، كما أنه يخشى أن يتولى ولده من بعده من يضيع ماله، ويتعدى على حقوقه، ويأكل هذا المال، والجزاء من جنس العمل.
يقول: "حتى لا يفعلوا خلاف الشفقة، والرحمة"، وهذا مروي عن ابن عباس لكن بإسناد لا يصح.
"وقيل: الذين يجلسون إلى المريض فيأمروه أن يتصدّق بماله حتى يجحف بورثته" يعني: يغرونه مثلًا بأن يتبرع بكل المال، لن يضيع هؤلاء الأولاد، والذرية، وكل إنسان سيأتيه رزقه، وما كتب له، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، وأجلها، وقدم لنفسك، فيغرونه بمثل هذا، أو أن يتبرع بأكثر المال، أو يتجاوز الثلث، أو نحو ذلك "حتى يجحف بورثته، فأمروا أن يخشوا على الورثة كما يخشون على أولادهم" يعني: لو كان هذا الذي يغريه بهذا التبرع، في مقام هذا المريض قد لا يفعل، وهكذا من سمع محتضرًا قد ظلم في الوصية، أو ظلم بورثته، فعليه أن يأمره بالعدل، كما يحب أن يصنع بورثته، وأن ينصحه، ويحثه على العدل في هذه الوصية، وألا يضر بهؤلاء الورثة لقوله: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ [النساء:9]، ولا يبعد أن تحمل الآية على ذلك كله، فيكون ذلك بالنظر بمال اليتيم، وكذلك أيضًا في من حضر الوصية، أن يراعي في ذلك ما يراعيه في ولده، فهذه الآية يستدل بعمومها في هذه المعاني - والله أعلم - وإن كان السياق فيما يتصل بأموال اليتامى، والقيام عليها، ولكن يمكن أن يؤخذ من العموم معاني أخر، فيستدل بها في مقامات أخرى، فيما يتصل بالإغراء بالوصية، وما يضر بالورثة، أو حضور وصية من أراد أن يضر بالورثة، فعليهم أن ينصحوا مثل هذا، وأن يخوفوه بالله.
ويقول: "وحذف مفعول وَلْيَخْشَ وخَافُوا [النساء:9] جواب (لو)" يعني ليذهب الذهن كل مذهب فيما يخشاه أو يتخوفه، وليخش الضيعة على أولاده مثلًا، أو ليخش أن يعاقب بالمثل، وكذا خَافُوا عَلَيْهِمْ [النساء:9] أين المفعول؟ محذوف ليذهب الذهن كل مذهب فيما يتخوفه الإنسان، ماذا تتخوف على هؤلاء الضعاف؟ من ظالمٍ يسطوا على أموالهم، أو يسيء القيام عليهم، أو نحو هذا.
"قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9] على القول الأول: ملاطفة الوصي لليتيم بالكلام الحسن".
"على القول الأول" يعني: يقوم على اليتيم قيامًا صالحًا، ويدبر ماله تدبيرًا حسنًا، كما يحب لأولاده أن يكون حالهم كذلك من بعده إذا وليهم غيره "بالكلام الحسن" يعني من غير جرح، وأذى، ومن غير هدم لنفسه، أنت جاهل، وسفيه، ولا تعطى المال، ولا تستحق، ولست بأهلٍ، وعبارات تهدم نفسه، ولا تبنيه، وتجرحه، فيكفيه ما هو فيه من اليتيم، فنفسه مكلومة، ولذلك نهى ربنا -تبارك، وتعالى- عن زجر السائل: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضحى:10]؛ لأن السائل منكسر النفس، فيكفيه ذل السؤال، وفي اليتيم قال: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ [الضحى:9-10] لما هو فيه من الضعف، والمسكنة، وانكسار النفس، والقلب بسبب اليتم، فإذا فقد أباه، والأب يمثل لهذا الصغير كل شيء، يعني هو بالنسبة إليه أعظم سند، وأكبر، وأقوى رجل في هذا العالم، فإذا فقده انهد ركنه، وصار في حالٍ كالضائع، فيرى الصغار من حوله يعبثون، ويلعبون، ثم بعد ذلك يورعون إلى آبائهم، فهو لا يذهب لأحد، فتجد هذا يتجلى في بعض الصور التي ينبغي أن تراعى في المدارس، ونحو هذا في مجلس الآباء، فلا بد أن يوجد من يحضر لهذا اليتيم، فكل ولد يأتي، ويأخذ شهادةً، أو نحو هذا، ويحتضن أباه، ونحو هذا، ويبقى هذا اليتيم يتلفت يذهب إلى أين؟ وفي حكمه ذاك الذي ليس له أب، ولا أم أصلًا، كاللقيط، فهو ضائع، لا أب، ولا أم، ولا قرابات، ولا نسب، فليس لديه أحد يذهب إليه، ولا يلجأ إليه، فالصغار يذهبون، ويفرح بهم آبائهم، ويطربون لما يرون من تفوقهم، ونحو هذا، وهذا ليس له أحدًا، فينبغي أن يحضر أحد، ولو جلس أحد المعلمين، أو نحو ذلك في مجلس الآباء، وقال: أنا أبوك، إذا أخذت الشهادة تأتيني، ويهديه هدية مجزية، ويفرح به، ويحتضنه، ونحو ذلك، فهذه القلوب المنكسرة تحتاج إلى جبر وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9] "ملاطفة الوصي لليتيم بالكلام الحسن" يعني ليست إدارة محضة للمال، أو نحو ذلك فقط، وإنما يحتاج إلى جبر لنفسه، ويحتاج إلى تعويض بالعواطف، والمشاعر، ونحو ذلك.
يقول: "وعلى القول الثاني أن يقول للموروث" يعني هذا الذي يريد أن يوصي "لا تسرف في وصيتك، وارفق بورثتك" يعني وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9] يعني قاصدًا إلى الحق من السداد، أو الصواب الذي أصله الاستقامة.
وبعضهم يقول: إن هذه الآية عامة في كل الناس لا تختص بالقيم على اليتيم، ولا فيمن حضر الموصي الذي يجور في وصيته، فالناس جميعًا مأمورون بتقوى الله في الأيتام، وفي غيرهم، وأن يقولوا القول السديد القاصد المستقيم، كما قال الله : وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء:53] فلا يطلق الإنسان لسانه من غير أن يزم هذا اللسان، ويخطم بالعقل، فإن الذين تسبق ألسنتهم فإن ذلك يدل على نقص عقولهم، فهي عقول ضعيفة لا تستطيع أن تضبط هذا اللسان، فينفلت، ألسنتهم تسبق عقولهم، لكنه لا يستدرك إلا بعد فوات الأوان، يقول: زلقت، ما الذي أزلقها؟ أزلقها ضعف العقل، فالعقل حجى، ونهى ينهاه عما لا يليق، ويحجزه، فذو الحجر هو الذي له عاقل يحجره عن تصرفاتٍ يندم عليها فيما بعد، لكن ضعيف العقل يقدم على أمور، ثم بعد ذلك يندم، يتكلم بكلام، أو يتصرف، أو يقدم على مزاولات يندم عليها؛ لأنه لم يتفكر فيها مليًا قبل أن يتكلم؛ ولهذا كان طول الصمت دليلًا على كمال العقل غالبًا، والعاقل يسمع أكثر مما يتكلم، ولا يتكلم إلا بكلمةٍ يزنها؛ لأنه حينما يتكلم، ويستعرض صحيفته قبل كل شيء، والشهود عليه - الله المستعان -.
"وعلى القول الثاني: أن يقول للموروث لا تسرف في وصيتك، وارفقك بورثتك.