الأحد 13 / ذو القعدة / 1446 - 11 / مايو 2025
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا۟ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ ٱلَّذِى تَقُولُ ۖ وَٱللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ۖ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله: وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ [سورة النساء:81] يخبر تعالى عن المنافقين بأنهم يظهرون الموافقة، والطاعة، فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ أي: خرجوا، وتواروا عنك بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [سورة النساء:81] أي استسروا ليلاً فيما بينهم بغير ما أظهروه لك."

ففي قوله - تبارك، وتعالى - عن هؤلاء المنافقين: وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ [سورة النساء:81] يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "يخبر تعالى عن المنافقين بأنهم يظهرون الموافقة، والطاعة" هذا تفسير لمعنى الآية، لكن التركيب في قوله: وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ [سورة النساء:81] فيه مقدر محذوف تقديره أمْرنا طاعة، أو شأننا طاعة، وهذا كقوله : وَقُولُواْ حِطَّةٌ [سورة البقرة:58] يعني مسألتنا أن تحط عنا خطايانا، وهنا وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ [سورة النساء:81] أي شأننا طاعة، أو أمرنا طاعة، أو لك منا طاعة، أو نحو ذلك مما يقدر في الكلام فيتضح وجه هذا التركيب.
قوله تعالى: فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ [سورة النساء:81] أي: خرجوا، وتواروا عنك بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [سورة النساء:81] إما أن يكون المعنى غير الذي تقول أنت مما خاطبتهم به، وأمرتهم به، ونهيتهم عنه، أي أنهم بيتوا المخالفة، والمعصية.
ويحتمل أن يكون معنى بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [سورة النساء:81] أي غير الذي تقوله تلك الطائفة نفسها فإنهم قالوا لك: طاعة، فإذا خرجوا من عندك بيتوا في أنفسهم غير الذي قالوه.
وقوله: بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يقول: "أي استسروا ليلاً فيما بينهم بغير ما أظهروه لك" أي دبروا ذلك ليلاً، ولذلك يقال: هذا أمر قد بُيِّت بليل أي دُبِّر بليل.
"وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ [سورة النساء:81] أي: يعلمه، ويكتبه عليهم بما يأمر به حفظته الكاتبين الذين هم موكلون بالعباد يعلمون ما يفعلون، والمعنى في هذا التهديد أنه تعالى أخبر بأنه عالم بما يضمرونه، ويسرونه فيما بينهم، وما يتفقون عليه ليلاً من مخالفة الرسول ﷺ، وعصيانه، وإن كانوا قد أظهروا له الطاعة، والموافقة، وسيجزيهم على ذلك كما قال تعالى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا الآية [سورة النــور:47].
وقوله: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [سورة النساء:81] أي: اصفح عنهم، واحلم عليهم، ولا تؤاخذهم، ولا تكشف أمورهم للناس، ولا تخف منهم أيضاً وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً [سورة النساء:81] أي: كفى به، ولياً، وناصراً، ومعيناً لمن توكل عليه، وأناب إليه."

الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا جمع المعاني التي قالها السلف في قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [سورة النساء:81] فالأمر بالإعراض هنا أمر عام يدخل فيه ما قيل من أن المراد لا تعاقبهم، وذلك أن النبي ﷺ كان في أول الأمر مأموراً بالصفح، والإعراض، والتجاوز، ويدخل أيضاً في قوله: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [سورة النساء:81] ألا يشتغل بهم، فهو يقول له: لا تشتغل بهم فهؤلاء قد طمس عليهم بالنفاق، وليس ثمت ما يجدي، وينفع من الاشتغال بهم، وصرف الأوقات، والهمم إلى استصلاحهم، وإنما امض إلى ما أمرك الله ، واشتغل فيما ينفع، ودع هؤلاء فالله هو الذي يتولى حسابهم، وقيل: يدخل فيه أيضاً أنه أمر من الله لنبيه ألا يفضحهم.
فالمقصود أن النبي ﷺ أُمر بالإعراض عنهم، وهذا لا يعارض قوله - تبارك، وتعالى -: جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [سورة التوبة:73] فهذا مما نزل في سورة التوبة، وهي آخر ما نزل، وقد قال من قال: إن هذه الآية منسوخة بآية السيف؛ لأنه أمر بالإعراض عن المنافقين، لكن الراجح أن هذا ليس من قبيل النسخ، وإنما يكون ذلك في أوقات الضعف، والعجز، وأوقات الفترة، وأما في وقت الظهور، والقوة، والتمكن فتأتي العزائم كما قال سبحانه: جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِين، وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [سورة التوبة:73]، وهكذا يقال في أهل الأهواء، والبدع، فإذا كان أهل السنة فيهم ضعف فإنهم يعرضون عنهم كما قال تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [سورة النساء:81] بل ربما احتاجوا إلى شيء من المصانعة، أما إذا كان أهل السنة في ظهور، وقوة فهنا تأتي العزائم بالزجر، والهجر، والإغلاظ، وما أشبه ذلك، فهذا يختلف من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، ولذلك تجد أن الأئمة من أهل السنة ما كانوا يرون هجر أهل القَدَر الذين كانوا في البصرة، وما كانوا يرون هجر أهل التشيع في الكوفة؛ لأنه في ذلك الحين كان القول بالقدر هو الغالب على أهل البصرة، والتشيع هو الغالب على أهل الكوفة، فالهجر لا يجدي، بل إذا هجرهم الإنسان صار هو المهجور، وإذا كان هؤلاء من أهل الأهواء لهم ظهور، وقوة، وصاروا هم الذين يمثلون العلماء، والقضاة فهنا يُحتاج إلى شيء من الصبر، وسعة الصدر، ومجادلتهم بالتي هي أحسن كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بينما كان المتقدمون يسدون هذا الباب، أو يكادون فلا يسمعون منهم، ولا يكلمونهم، وينهون عن هذا، ويغلظون عليهم غاية الإغلاظ سداً للباب الذي أوشك أن يفتح في ذلك الحين فلما كسر الباب، واستشرت تلك الأهواء في الأمة، وصارت تمثل سواداً عظيماً احتاج العلماء إلى مناقشة هؤلاء، والرد عليهم، وإلى التلطف بهم، وبطوائفهم، وأتباعهم لاستمالتهم إلى الحق، لكن لا بد إلى التنبه إلى أن هذا الأمر يضبط بضوابط شرعية، فليس على إطلاقه، وليس لكل أحد أن يرد على هؤلاء المنحرفين.

مرات الإستماع: 0

"وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ [النساء:81] أي: أمرنا، وشأننا طاعةٌ لك، وهي في المنافقين بإجماع."

لاحظ الآن، إذا كانت هذه في المنافقين، فما قبلها أيضًا في المنافقين في قوله - تبارك، وتعالى -: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ [النساء:78] فلا يُقال ذلك في مثل عبد الرحمن بن عوف، ومن نزلت فيهم التي قبل ذلك من قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [النساء:77] وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [النساء:81] هذا السياق كله في المنافقين، يقول: أي أمرنا، وشأننا طاعة لك وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ [النساء:81] قال أبو جعفر بن جرير: إذا أمرهم قالوا: أمرك طاعة وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ [النساء:81] ولك منا طاعة فيما تأمرنا به[1] يعني وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ [النساء:81] أي كما قال ابن جُزي: أمرنا طاعة، شأننا طاعة، أو إذا خاطبهم عند الخطاب قالوا: أمرك طاعة، فهذا كله بمعنى واحد، لكن ابن جرير ذكر في حال المخاطبة: أمرك طاعة وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ [النساء:81] فهذا من اختصار الكلام، وإيجازه كما هي عادة العرب، تحذف منه ثقةً بفهم المُخاطب، أو بفهم السامع وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ [النساء:81] حينما يأمرك إنسان، وتقول له: طاعة، تقصد يعني كأنك تقول: أمرك طاعة، وهكذا، كما قال ابن مالك - رحمه الله - في الحذف - حذف ما يُفهم من السياق، ومن الكلام، ومن الخطاب - يقول: 

وحذف ما يُعلم جائزٌ كما تقول زيدٌ بعد من عندكما
وفي جواب: كيف زيدٌ قل دنف فزيدٌ استغني عنه إذ حُذف[2].     

حينما يُقال: كيف أنت؟ تقول: بخير، التقدير: أنا بخير، كيف زيد؟ تقول: بخير، زيدٌ بخير، وهكذا

وحذف ما يُعلم جائزٌ كما تقول زيدٌ بعد من عندكما

من عندكما؟ تقول: زيد، يعني عندنا زيد، أو زيدٌ عندنا، صرح ابن مالك في مناسبة أخرى قوله:

  ورجلٌ من الكرام عندنا[3]

فهنا ذكره، صرَّح به، رجلٌ من الكرام عندنا؛ لأنه لا يتضح من السياق.

"قوله - تعالى -: بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [النساء:81] بيت أي: تدبر الأمر بالليل - وفي النسخ الخطية -: دبَّر الأمر بالليل، والضمير في تَقُولُ [النساء:81] للمُخاطب، وهو النبي ﷺ أو للطائفة."

بيَّت يقول: أي تدبر الأمر بالليل، هذا في الأصل أن التبييت يكون في وقت البيات، ووقت البيات في الليل، وقد يُتوسع في الاستعمال فلا يكون ذلك مقتصرًا على ما وقع منه ليلًا، يُقال للتدبير: بَيَّتَ طَائِفَةٌ [النساء:81] أي دبروا، وزورا في أنفسهم غير الذي أمرتهم به غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [النساء:81] هذا يحتمل معنيين، أشار إليه ابن جُزي - رحمه الله -: الضمير في تَقُولُ [النساء:81] للمخاطب، وهو النبي ﷺ أو للطائفة، إذا كان للنبي ﷺ فيكون المعنى: بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [النساء:81] يعني أنت لهم، غير الذي أمرتهم به، وإنما زوروا، وبيتوا شيئًا، وأمرًا يقصدون به خلاف، أو على خلاف ما تريد، هذا إذا كان يرجع إلى النبي ﷺ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [النساء:81] لهم أنت، وإذا كان يرجع إلى الطائفة: غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [النساء:81] يعني غير الذي تقوله لك هذه الطائفة من الطاعة، هم يقولون طاعة فإذا خرجوا من عندك بيَّت طائفةٌ منهم غير الذي تقوله هذه الطائفة، غير الذي قالوه، بيتوا أمرًا آخر غير الطاعة، وإنما هو المعصية بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [النساء:81] والآية تحتمل هذين المعنيين بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [النساء:81] وبين المعنيين ملازمة، يعني إذا كانوا بيتوا غير ما يقول النبي ﷺ فمعنى ذلك أن ذلك على خلاف ما قالوا من الطاعة، وكذلك إذا كان المعنى أنهم بيتوا خلاف ما قالوا من الطاعة، فذلك يقتضي أنهم بيتوا خلاف أمر رسول الله ﷺ ومثل هذه المواضع إذا كان بين المعنيين ملازمة، والآية تحتمل هذين المعنيين، فيمكن أن تُحمل الآية على ذلك، ولا يُحتاج معه إلى الترجيح - والله تعالى أعلم -.

"قوله - تعالى -: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [النساء:81] أي لا تعاقبهم."

الإعراض أيضًا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [النساء:81] أي لا تعاقبهم، وكذلك أيضًا لا تكترث بهم، ولا تلتفت إليهم، كما في قوله - تبارك، وتعالى -: وَدَعْ أَذَاهُمْ [الأحزاب:48] فإنه يحتمل دَعْ أَذَاهُمْ [الأحزاب:48] لا تؤذهم، ويحتمل أن يكون لا تقف مع إساءتهم، ولا تكترث بهم، دع أذاهم الواصل إليك، ولا تلتفت إليه، ولا تعتد به، ولا تقف معه، تحتمل المعنيين.

  1. انظر: تفسير الطبري (7/246).
  2. ألفية ابن مالك (ص:17)، باب الابتداء.
  3. ألفية ابن مالك (ص:17)، باب الابتداء.