ففي قوله - تبارك، وتعالى - عن هؤلاء المنافقين: وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ [سورة النساء:81] يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "يخبر تعالى عن المنافقين بأنهم يظهرون الموافقة، والطاعة" هذا تفسير لمعنى الآية، لكن التركيب في قوله: وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ [سورة النساء:81] فيه مقدر محذوف تقديره أمْرنا طاعة، أو شأننا طاعة، وهذا كقوله : وَقُولُواْ حِطَّةٌ [سورة البقرة:58] يعني مسألتنا أن تحط عنا خطايانا، وهنا وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ [سورة النساء:81] أي شأننا طاعة، أو أمرنا طاعة، أو لك منا طاعة، أو نحو ذلك مما يقدر في الكلام فيتضح وجه هذا التركيب.
قوله تعالى: فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ [سورة النساء:81] أي: خرجوا، وتواروا عنك بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [سورة النساء:81] إما أن يكون المعنى غير الذي تقول أنت مما خاطبتهم به، وأمرتهم به، ونهيتهم عنه، أي أنهم بيتوا المخالفة، والمعصية.
ويحتمل أن يكون معنى بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [سورة النساء:81] أي غير الذي تقوله تلك الطائفة نفسها فإنهم قالوا لك: طاعة، فإذا خرجوا من عندك بيتوا في أنفسهم غير الذي قالوه.
وقوله: بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يقول: "أي استسروا ليلاً فيما بينهم بغير ما أظهروه لك" أي دبروا ذلك ليلاً، ولذلك يقال: هذا أمر قد بُيِّت بليل أي دُبِّر بليل.
وقوله: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [سورة النساء:81] أي: اصفح عنهم، واحلم عليهم، ولا تؤاخذهم، ولا تكشف أمورهم للناس، ولا تخف منهم أيضاً وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً [سورة النساء:81] أي: كفى به، ولياً، وناصراً، ومعيناً لمن توكل عليه، وأناب إليه."
الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا جمع المعاني التي قالها السلف في قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [سورة النساء:81] فالأمر بالإعراض هنا أمر عام يدخل فيه ما قيل من أن المراد لا تعاقبهم، وذلك أن النبي ﷺ كان في أول الأمر مأموراً بالصفح، والإعراض، والتجاوز، ويدخل أيضاً في قوله: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [سورة النساء:81] ألا يشتغل بهم، فهو يقول له: لا تشتغل بهم فهؤلاء قد طمس عليهم بالنفاق، وليس ثمت ما يجدي، وينفع من الاشتغال بهم، وصرف الأوقات، والهمم إلى استصلاحهم، وإنما امض إلى ما أمرك الله ، واشتغل فيما ينفع، ودع هؤلاء فالله هو الذي يتولى حسابهم، وقيل: يدخل فيه أيضاً أنه أمر من الله لنبيه ألا يفضحهم.
فالمقصود أن النبي ﷺ أُمر بالإعراض عنهم، وهذا لا يعارض قوله - تبارك، وتعالى -: جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [سورة التوبة:73] فهذا مما نزل في سورة التوبة، وهي آخر ما نزل، وقد قال من قال: إن هذه الآية منسوخة بآية السيف؛ لأنه أمر بالإعراض عن المنافقين، لكن الراجح أن هذا ليس من قبيل النسخ، وإنما يكون ذلك في أوقات الضعف، والعجز، وأوقات الفترة، وأما في وقت الظهور، والقوة، والتمكن فتأتي العزائم كما قال سبحانه: جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِين، وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [سورة التوبة:73]، وهكذا يقال في أهل الأهواء، والبدع، فإذا كان أهل السنة فيهم ضعف فإنهم يعرضون عنهم كما قال تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [سورة النساء:81] بل ربما احتاجوا إلى شيء من المصانعة، أما إذا كان أهل السنة في ظهور، وقوة فهنا تأتي العزائم بالزجر، والهجر، والإغلاظ، وما أشبه ذلك، فهذا يختلف من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، ولذلك تجد أن الأئمة من أهل السنة ما كانوا يرون هجر أهل القَدَر الذين كانوا في البصرة، وما كانوا يرون هجر أهل التشيع في الكوفة؛ لأنه في ذلك الحين كان القول بالقدر هو الغالب على أهل البصرة، والتشيع هو الغالب على أهل الكوفة، فالهجر لا يجدي، بل إذا هجرهم الإنسان صار هو المهجور، وإذا كان هؤلاء من أهل الأهواء لهم ظهور، وقوة، وصاروا هم الذين يمثلون العلماء، والقضاة فهنا يُحتاج إلى شيء من الصبر، وسعة الصدر، ومجادلتهم بالتي هي أحسن كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بينما كان المتقدمون يسدون هذا الباب، أو يكادون فلا يسمعون منهم، ولا يكلمونهم، وينهون عن هذا، ويغلظون عليهم غاية الإغلاظ سداً للباب الذي أوشك أن يفتح في ذلك الحين فلما كسر الباب، واستشرت تلك الأهواء في الأمة، وصارت تمثل سواداً عظيماً احتاج العلماء إلى مناقشة هؤلاء، والرد عليهم، وإلى التلطف بهم، وبطوائفهم، وأتباعهم لاستمالتهم إلى الحق، لكن لا بد إلى التنبه إلى أن هذا الأمر يضبط بضوابط شرعية، فليس على إطلاقه، وليس لكل أحد أن يرد على هؤلاء المنحرفين.