الأحد 13 / ذو القعدة / 1446 - 11 / مايو 2025
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءَانَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُوا۟ فِيهِ ٱخْتِلَٰفًا كَثِيرًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ۝ وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [سورة النساء:82 - 83].
يقول تعالى آمراً لهم بتدبر القرآن، وناهياً لهم عن الإعراض عنه، وعن تفهم معانية المحكمة، وألفاظه البليغة، ومخبراً لهم أنه لا اختلاف فيه، ولا اضطراب، ولا تضاد، ولا تعارض؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد، فهو حق من حق، ولهذا قال تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [سورة محمد:24]، ثم قال: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ [سورة النساء:82] أي: لو كان مفتعلاً مختلقاً كما يقوله من يقول من جهلة المشركين، والمنافقين في بواطنهم لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا [سورة النساء:82] أي: اضطراباً، وتضاداً كثيراً، أي: وهذا سالم من الاختلاف فهو من عند الله، كما قال تعالى مخبراً عن الراسخين في العلم حيث قالوا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا [سورة آل عمران:7] أي: محكمه، ومتشابهه حق، فلهذا ردوا المتشابه إلى المحكم فاهتدوا، والذين في قلوبهم زيغ ردوا المحكم إلى المتشابه فغووا؛ ولهذا مدح تعالى الراسخين، وذم الزائغين."

قوله تعالى: لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [سورة النساء:82] المقصود بالاختلاف هنا أنه يناقض بعضه بعضاً، ويكذب بعضه بعضاً، ولذلك، وصف الله القرآن، وصفاً عاماً بالتشابه اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا [سورة الزمر:23] بمعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في الحسن، والفصاحة، والبلاغة، ولا تناقض فيه، ولا تعارض البتة، فهو في غاية الحسن، والإتقان، ولذلك وصفه بالإحكام وصفاً عاماً فقال: أُحْكِمَتْ آيَاتُهٍُ [سورة هود:1] بمعنى أنك لا تجد فيها خللاً، ولا ما ينتقص لا في الألفاظ، ولا في المعاني، ولا تجد بين المعاني معارضة، والمقصود أنه ليس معنى قوله تعالى: لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [سورة النساء:82] أن الناس يختلفون فيه، أو يختلفون في المعاني، ليس هذا هو المراد إطلاقاً، فالقرآن كما قال علي : "حمَّال ذو، وجوه" بمعنى أن الآية تحتمل معانيَ متعددة كما هو معلوم، وليس اختلاف العلماء في تفسير الآيات هو المنفي في الآية، ولم يقل أحد بهذا، وإنما المراد في قوله: لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا [سورة النساء:82] أي لو كان من عند غير الله لوجدوه مختلفاً في نفسه، فيضرب بعضه بعضاً، ويناقض بعضه بعضاً، وهذا غير موجود في كلام الله، أما في كلام الناس فلو أن أحداً بقي يكتب في ثلاث، وعشرين سنة، فإنك تجد في كلامه من المعارضات، والمناقضات، والتباين، والتفاوت ما الله به عليم سواء في الأسلوب، أو في الأمور التي يقررها، بل لو أن إنساناً كتب شيئاً، وقرأه بعد خمس سنوات فإنه ربما يستغرب كيف كتبه، وكيف قبل الناس هذا الكلام منه، واستحسنوه! وتجد الفرق الواضح بين أسلوب الإنسان حينما يكتب أول ما يكتب، وبين ما يكتبه في آخر حياته، أما النبي ﷺ فكان ينزل عليه القرآن في ثلاث، وعشرين سنة، ومع ذلك تجد من أول سورة نزلت إلى آخر سورة نزلت كلها في غاية الفصاحة، والبلاغة، والبيان، وفي أعلى مستوى الإتقان لا فرق بين أوله، وآخره، فهذا يدل على أنه من عند الله - تبارك، وتعالى - .
"روى الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: لقد جلست أنا، وأخي مجلساً ما أحب أن لي به حمر النعم، أقبلت أنا، وأخي، وإذا مشيخة من أصحاب رسول الله ﷺ على باب من أبوابه فكرهنا أن نفرق بينهم فجلسنا حجرة، إذ ذكروا آية من القرآن، فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهمم، فخرج رسول الله ﷺ مغضباً حتى احمرَّ وجهه يرميهم بالتراب، ويقول: مهلاً يا قوم، بهذا أهلكت الأمم من قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً إنما يصدق بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه، فردوه إلى عالِمه[1]."

هذه الرواية، ورد بمعناها روايات أخرى ثابتة صحيحة، وفي بعضها أنه خرج كأنما فُقئ في، وجهه حب الرمان[2] يعني من الغضب، فالمقصود بمثل هذا الحديث أن هذا النقاش الذي حصل كان مذموماً، وذلك أن هذا كان ينزع آية، وهذا ينزع آية، فهذا يقول: ألم يقل الله كذا؟ وهذا يقول: ألم يقل الله كذا؟ يعني فيما يقابله كأن يقول الأول: ألم يقل الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ؟ [سورة الشورى:30]، ويقول الآخر: ألم يقل الله تعالى: قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ؟ [سورة النساء:78] فهذا يأتي بآيات تُرجع ما يقع للإنسان إلى نفسه كقوله تعالى: مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [سورة النساء:79]، وذاك يأتي بالآيات التي ترجع ذلك إلى الله ، وأنه بقضائه، وقدره فيقع في مثل هذا ضرب بعض القرآن ببعض، ولهذا كان هذا النوع من الجدال، والنقاش، والحوار محرماً، وهذه واحدة من الآفات التي وقعت فيها طوائف أهل الكلام، وهي أحد الأسباب التي جعلت كلام المتكلمين مذموماً، فمن الآفات التي دخلت على علم الكلام أن أهله يضربون النصوص بعضها ببعض، فيقع بسبب ذلك من التفرق، والتشكيك، والاضطراب ما الله به عليم، وهذا الذي وقع لهم جعل الواحد منهم يتلون، ويتغير في اليوم الواحد عدة مرات، وقد قال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل.
أما إذا كان الكلام على سبيل التفهم لا على ضرب القرآن بعضه ببعض، أو كان النقاش في الفقه مثلاً من أجل معرفة الأحكام فهذا لا إشكال فيه، ولهذا جاء في بعض الروايات أنهم كانوا يتنازعون، أو يتجادلون، أو يتكلمون في آيات تتعلق بالقدر، ولذلك غضب النبي ﷺ.
"وروى أحمد عن عبد الله بن عمرو - ا - قال: هجَّرت إلى رسول الله ﷺ يوماً فإنا لجلوس إذ اختلف اثنان في آية فارتفعت أصواتهما فقال: إنما هلكت الأمم قبلكم باختلافهم في الكتاب، ورواه مسلم، والنسائي[3]
  1. أخرجه أحمد (6702) (ج 2 / ص 181)، وصححه الألباني في شرح الطحاوية برقم (218)، وقال في السلسلة الصحيحة: "سنده صحيح على شرط الشيخين (1522) (ج 4 / ص 96).
  2.  أخرجه أحمد (6845) (ج 2 / ص 195)، وقال فيه شعيب الأرناؤوط: "صحيح، وهذا إسناد حسن".
  3. أخرجه مسلم في كتاب العلم - باب النهي عن اتباع متشابه القرآن، والتحذير من متبعيه، والنهي عن الاختلاف في القرآن (2666) (ج 4 / ص 2053).

مرات الإستماع: 0

"أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء:82] حضٌ على التفكر في معانيه لتظهر أدلته، وبراهينه."

هو حضٌ على التفكر في معانيه.

أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء:82] حضٌ على التفكر في معانيه لتظهر أدلته، وبراهينه، عامة المفسرين عند التتبع لتفسيرهم لمثل هذه اللفظة في القرآن التي،\ وردت في أربعة مواضع - التدبر - يفسرونها بنحوٍ من هذا يعني التفكر؛ لأنه إعمال الذهن في التعرف على مراد الله - تبارك، وتعالى - والنظر فيما وراء الألفاظ من المعاني، والعِبر، والهدايات، والدلالات، وما أشبه ذلك، فهذا هو التدبر، التفكر، وإعمال الذهن، ولا يُفسر أبدًا بالتفسير، ولم يقل بذلك أحدٌ من أهل العلم، التدبر لا يُقال إنه التفسير أبدًا، التفكر، فالتدبر غير التفسير، فهنا الخطاب موجه للمنافقين أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء:82] فكيف يُقال: بأن هذا المقصود به التفسير؟ يفسرون القرآن أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [المؤمنون:68] يعني أفلم يفسروه؟ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29] يعني ليفسروا آياته؟ لو كان تفسيرًا كان بمعنى التفسير لما خوطب به أهل النفاق، وأهل الكفر، وعموم الناس بهذه الآيات، التفسير لا يصح أن يجترئ عليه المنافق، ولا الكافر، ولا عامة الناس، وأما إعمال الذهن، التعرف على مراد الله، والتفكر، فهذا مطلب من أجل أن يعقل عن الله، وأن يعتبر بما في القرآن، وينتفع، وهذا واضح، ومن يقول بخلاف هذا فقوله لا يمكن أن يكون له وجه.

"قوله - تعالى -: اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82] أي: تناقضًا كما في كلام البشر، أو تفاوتًا في الفصاحة، لكنّ القرآن منزّهٌ عن ذلك، فدلَّ على أنه كلام الله، وإن عرضت لأحدٍ شبهة، وظن اختلافًا في شيء من القرآن، فالواجب أن يتهم نظره، ويسأل أهل العلم، ويطالع تأليفهم، حتى يعلم أن ذلك ليس باختلاف."

لا يوجد في القرآن تناقض، ولا تعارض وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82] فما ذكره هنا من التناقض أو التفاوت في الفصاحة كل ذلك داخلٌ فيه - والله أعلم - لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82] ولا شك أن المعنى الأول أبين، وأظهر، لكنّه أيضًا لا يمتنع من دخول المعنى الثاني الذي هو التفاوت؛ ولذلك فإن القرآن وصفه الله بالتشابه: كِتَابًا مُتَشَابِهًا [الزمر:23] يعني يشبه بعضه بعضا في الفصاحة، والبيان، والبلاغة، ويصدق بعضه بعضًا، فالاختلاف الكثير وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82] ويثبتُ شيئًا في موضع، وينفيه في موضع آخر، أو نحو ذلك هذا لا وجود له في القرآن، وكذلك لا تفاوت فيه، أول سورة نزلت اقْرَأْ [العلق:1] وآخر سورة كاملة نزلت سورة النصر، وما بين ذلك سورة اقْرَأْ [العلق:1] نزل صدرها - كما هو معلوم - وآخرُ سورةٍ كاملة هي سورة النصر، وما بين ذلك لا يوجد تفاوت في الفصاحة، والبلاغة مع أنه نزل في نحوٍ من ثلاثٍ، وعشرين سنة.

وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82] فالشاعر المُجيد يقول القصائد المتعددة تجدها متفاوتة في ألفاظها، وقوالبها، وكذلك في مضامينها، وكذلك صاحب الكلام المنثور من الخطابةِ، وغيرها كلامه يتفاوت، هنا قوله: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82] هذا نوع من التدبر، وهو التدبر من أجل الوقوف على أحقية القرآن، أنه حق من عند الله، وأنه كلامه، وأنه ليس من قول النبي ﷺ أو قول البشر، فإذا قرأ القرآن وجد في مضامينه هذه الهدايات، وكذلك أيضًا هذا الإحكام، ولا تفاوت فيه، ولا تعارض، ولا تناقض إلى غير ذلك، فهذا يدعوه إلى معرفة مصدر القرآن أنه كلام الله، فهذا أحد أنواع التدبر، ويحتاج إلى هذا النوع من كان شاكًا في القرآن أو مكذبًا، وإذا قرأه من أوله إلى آخره بتدبرٍ، وتعقل عرف أن هذا لا يكون من كلام البشر، هذا نوع واحد ، ولكن المؤمن الذي يوقن أن هذا كلام الله يتدبر لأمور أخرى؛ ليعتبر، ويتعظ، ويعمل، ويرقق قلبه، ويعرض نفسه على القرآن، فيصلح من قلبه، وحاله، وعمله، وكذلك أيضًا قد يتدبر ليستنبط إن كان من أهل العلم، وقد يتدبر ليقف على وجوه الفصاحة، والبلاغة، والبيان، فيستخرج ألوان الاستعمالات البلاغية، ووجوه الإعجاز إلى غير ذلك.