الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَـًٔا ۚ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَـًٔا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهْلِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَصَّدَّقُوا۟ ۚ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍۭ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَٰقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهْلِهِۦ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ ٱللَّهِ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"يقول الله : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ۝ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [سورة النساء:92-93].
يقول المؤلف - رحمه الله -: يقول الله تعالى: ليس لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن بوجه من الوجوه، كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال: لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة ثم إذا وقع شيء من هذه الثلاث فليس لأحد من آحاد الرعية أن يقتله، وإنما ذلك إلى الإمام، أو نائبه."

فقوله - تبارك، وتعالى -: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا [سورة النساء:92] مثل هذا يدل على الامتناع، وهذا الامتناع تارة يكون امتناعاً شرعياً كما هنا، وكما في قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [سورة الأحزاب:36] أي لا يسوغ لهم بحال، ولا يجوز، وكقوله تعالى: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا [سورة الأحزاب:53]، وكقوله تعالى: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ [سورة التوبة:120].
فتارة يكون ذلك من قبيل الامتناع الشرعي، وتارة يكون من قبيل الامتناع العقلي، وتارة يكون من قبيل الامتناع في مجاري العادات، وإذا تأملت ما ورد من هذا في القرآن تجده متفاوتاً نحو هذا التفاوت، فقوله تعالى: مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا [سورة النمل:60] ليس من الامتناع الشرعي، أي ليس المقصود أنه يحرم عليكم أن تنبتوا شجرها، وإنما المراد أنكم لا تستطيعون ذلك، وأما قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا [سورة النساء:92] فهذا من الامتناع الشرعي، أي أنه لا يجوز لمؤمن أن يقتل مؤمناً.
وقوله ﷺ: لا يحل دم امرئ مسلم[1] هذا الحديث يفسر هذه الآية، وأما الثلاث الموجبات لقتل المسلم، والمذكورة بطريقة الحصر في هذا الحديث، فكلام أهل العلم فيها معروف، فمنهم من يقول: لا يحل إلا بهذه الأمور المذكورات؛ لأن الحصر هنا ظاهر، وهو بأقوى صيغة من صيغه، وهي النفي، والاستثناء، والأقرب أنه يجوز قتل الإنسان، ويحل دمه في كل ما ورد بالنصوص الصحيحة كقوله ﷺ مثلاً في الساحر: حد الساحر ضربة بالسيف[2]، ومن عمل عملَ قوم لوط فإنه يقتل هو، والمفعول به، وورد الأمر بقتل شارب الخمر في المرة الرابعة، فالمقصود أنه لا بد من جمع النصوص، والعمل بمقتضاها.
يقول رحمه الله: "ثم إذا وقع شيء من هذه الثلاث فليس لأحد من آحاد الرعية أن يقتله، وإنما ذلك إلى الإمام أو نائبه"؛ لأن هذا الأمر ليس لعامة الناس حتى ولو كان قصاصاً، فلو أن أحداً قتل رجلاً فليس لولي المقتول أن يقتص من القاتل، وإنما الإمام، أو نائبه هو الذي يمكنه من ذلك، وإلا كانت أمور الناس فوضى.
"وقوله: إِلاَّ خَطَأً [سورة النساء:92] قالوا: هو استثناء منقطع."

إذا كان الاستثناء منقطعاً تكون "إلا" بمعنى لكن، وهذا قول عامة المحققين من أهل العربية كسيبويه، وأهل التفسير أمثال ابن جرير، ومنهم من يقول: هو استثناء متصل، ويكون المعنى، وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً في حال من الأحوال إلا حال الخطأ، ومعلوم أن الفرق بين الاستثناء المتصل، والمنقطع هو أن في المنقطع يكون المستثنى ليس من جنس المستثنى منه.
"واختلف في سبب نزول هذه، فقال مجاهد، وغير واحد: نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه، وهي أسماء بنت مخرِّبة، وذلك أنه قتل رجلاً يعذبه مع أخيه على الإسلام، وهو الحارث بن يزيد العامري، فأضمر له عياش السوء فأسلم ذلك الرجل، وهاجر، وعياش لا يشعر فلما كان يوم الفتح رآه فظن أنه على دينه، فحمل عليه فقتله، فأنزل الله هذه الآية."

هذه الرواية ضعيفة، ولو صحت لكان يمكن أن يقال: إنها سبب النزول.
"وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: نزلت في أبي الدرداء؛ لأنه قتل رجلاً، وقد قال كلمة الإيمان حين رفع عليه السيف فأهوى به إليه فقال كلمته، فلما ذكر ذلك للنبي ﷺ قال: إنما قالها متعوذاً فقال له: هلا شققت عن قلبه؟! وهذه القصة في الصحيح لغير أبي الدرداء[3]."

هذه الرواية عن أبي الدرداء هنا أيضاً لم تصح، ومعنى قالها متعوذاً: أي خائفاً من القتل.
"وقوله: وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [سورة النساء:92] هذان، واجبان في قتل الخطأ أحدهما الكفارة لما ارتكبه من الذنب العظيم، وإن كان خطَأً، ومن شرطها أن تكون عتق رقبة مؤمنةً فلا تجزئ الكافرة."

يقول: "فلا تجزئ الكافرة"؛ لأن الرقبة بنص هذه الآية مقيدة بالإيمان فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ [سورة النساء:92] لكن الخلاف قائم في مثل كفارة الظهار، وكفارة اليمين حيث أطلق الله الرقبة هناك، ولم يقيدها بالإيمان، وعلى كل حال لا شك أنه لا تجزئ الرقبة الكافرة في كفارة القتل، لكن هل يشترط غير هذا الشرط بمعنى هل يجزئ الصغير، والمعاق إعاقة تمنعه من العمل كالمشلول، والأعمى أو مقطوع اليدين؟
في هذه الشروط كلام معروف لأهل العلم، وقد جاء في هذه الآية قراءة غير متواترة لأُبَيِّ هكذا: (فتحرير رقبة مؤمنة لا يجزئ فيها صبي).
وابن جرير، وغيره يفرقون في من ولد من أبوين مسلمين، وبين من لم يبلغ مبلغاً يعرف فيه الإسلام، ويميزه، وينطق بالشهادة أو يدخل في الإسلام اختياراً، ونحو ذلك.
"وروى الإمام أحمد عن رجل من الأنصار أنه جاء بأمة سوداء فقال: يا رسول الله إن عليَّ عتق رقبة مؤمنة، فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتُها، فقال لها رسول الله ﷺ:أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم، قال: أتشهدين أني رسول الله؟ قالت: نعم قال: أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟ قالت: نعم، قال: أعتقها[4]، وهذا إسناد صحيح، وجهالة الصحابي لا تضر.
وقوله: وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [سورة النساء:92] هو الواجب الثاني فيما بين القاتل، وأهل القتيل عوضاً لهم عما فاتهم من قريبهم."

يعني أن الحكم على القاتل يكون فيه حقان الأول: تحرير رقبة مؤمنة فإن لم يجد فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [سورة النساء:92] - كما سيأتي - هذا حق الله ، والحق الثاني يتمثل بالدية لأولياء المقتول فهي حق لهم بما فاتهم من قريبهم، فالمقصود أن على القاتل حقين حق لله، وحق لأولياء الدم.
"وهذه الدية إنما تجب أخماساً كما روى الإمام أحمد، وأهل السنن عن ابن مسعود قال: قضى رسول الله ﷺ في دية الخطأ عشرين بنت مخاض..

قوله: "وهذه الدية إنما تجب أخماساً" ليس المراد أنها تقسط خمسة أقساط، وإنما المراد خمسة أصناف في أسنان الإبل، وهذا بناء على رواية لا تخلو من ضعف، وبالنسبة لتقسيطها فعلى ثلاث سنين لا دفعة، واحدة، وهذا نقل عليه بعض أهل العلم الإجماع.
"كما روى الإمام أحمد، وأهل السنن عن ابن مسعود قال: قضى رسول الله ﷺ في دية الخطأ عشرين بنت مخاض، وعشرين بني مخاض ذكوراً، وعشرين بنت لبون، وعشرين جَذَعة، وعشرين حِقّة. "  

بنت المخاض، وابن المخاض ما لها سنة، وابن لبون ما لها سنتان.
وبالنسبة للحِقّة فهي التي دخلت في السنة الرابعة، وبعضهم يقول: استحقت طرق الفحل، وبعضهم يقول: استحقت الركوب يعني أنها تتحمل، وأما الجَذَعة فهي أكبر من الحِقّة أي التي دخلت في السنة الخامسة، وعلى كل حال قال: هذا لفظ النسائي، والرواية كما قلت قبلُ لا تخلو من ضعف، وجاء في رواية أخرى أصح من هذه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفيها التفريق بين قتل الخطأ، وبين قتل العمد، وأما في رواية ابن مسعود هذه فليس فيها هذا التفريق.
ومن التفريق أنه في قتل العمد جعلها أثلاثاً أي ثلاثين حِقّة، وثلاثين جَذَعة، وأربعين خليفة، والخليفة هي الحامل، والحوامل من الإبل هي الأنفس.
وفي نفس رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في الخطأ جعلها أربعاً، ثلاثين بنت لبون، وثلاثين بنت مخاض، وثلاثين حِقّة، وعشر ابن لبون، وتقسط على ثلاث سنوات.
ومن التفريق أن كفارة القتل العمد يتحملها القاتل، وفي كفارة القتل الخطأ لا يتحملها القاتل، وإنما تتحملها العاقلة، وهذا من محاسن هذه الشريعة في باب الإرفاق بالمكلفين.
والمقصود بالعاقلة عصبات الرجل أي قرابته من جهة أبيه، الأدنوْن، ثم من يليهم، ثم من يليهم، وتقسم عليهم مقادير معينة بحيث لا تجحِف بأموالهم، والعلماء مختلفون في النساء هل عليهن شيء، أم أن ذلك على الرجال فقط؟ فالمهم أنها تقسم على عصباته الأقربين، فإن لم يفِ ذلك بالمطلوب جاء الدور على الدائرة الأبعد، يعني ممن يمتّون لهم بصلة بعيدة، وهكذا الأبعد، ثم الأبعد حتى تجمع الدية في ثلاث سنوات.
"كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله ﷺ فقضى: أن دية جنينها غرة عبد، أو أمة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها."

قوله: "وقضى بدية المرأة على عاقلتها" يعني أن هذا في دية الخطأ، ومما قضى به أيضاً أن دية جنينها غرة عبد، أو أمة، بمعنى أن دية الجنين هي عُشر دية الأم، ومعلوم أن دية المرأة نصف دية الرجل، فإذا قلنا: إن دية الرجل تساوي مائة، وعشرين ألفاً فدية المرأة تكون ستين ألفاً، وعليه فإن عشر دية الأم يساوي ستة آلاف، فإذا أسقط الجنين ففيه عشر دية الأم، فلو أن الطبيب أعطى المرأة دواء فأسقطت، أو هي قفزت على شيء، أو حملت شيئاً ثقيلاً لتُسقط، أو نحو ذلك فإن عليها إذا سقط منها صورة إنسان سواء قبل نفخ الروح أو إذا كان ذلك بعد نفخ الروح فإنه تجب فيه الدية، وتعطى لوارثه، فالأم تدفعها لوارثه، وهو زوجها - أبو الجنين -، وهكذا إذا كان الذي أسقط الجنين غير الأم بأن جنى أحد عليه بضرب الأم، أو دفعها أو نحو ذلك، وجبت عليه الدية - عشر دية الأم - غرة عبد، أو أمة.
"وهذا يقتضي أن حكم عمد الخطأ حكم الخطأ المحض في وجوب الدية."

قوله: "عمد الخطأ" يقصد به شبه العمد، وذلك أن كثيراً من أهل العلم يجعلون القتل ثلاثة أقسام: خطأ محض، وعمد، وشبه عمد، فالخطأ المحض مثل ما إذا أراد أن يرمي صيداً فأصاب إنساناً فقتله، والعمد هو القتل بما يقتل عادة لمعصوم قصداً، كأن يرمي بحجر يقتل عادة، أو بسلاح يقتل عادة، أو نحو ذلك، ويشترط أيضاً أن يكون هذا الإنسان المقتول معصوماً، أي لا يكون ممن لا يقتص منه به كقتل الوالد للولد، وأن يكون ذلك عمداً عدواناً، وأن يكون مكافئاً له.
وعمد الخطأ، أو شبه العمد هو وسط بين الخطأ، والعمد، ومثاله أن يضربه بعصا لا تقتل عادة، أو لكمه لكمة لا تقتل عادة، أو دفعه فسقط، فمات، فهذا يعتبر شبه عمد إلا إذا كان ذلك مما يقتل عادة كأن يكون لكمه لكمة من شأنها أن تقتل أصلاً عند أهل الاختصاص، فهذا يقتل به؛ لأنه يعتبر عامداً، أما إذا لكمه لكمة لا تقتل عادة، كمعلم ضرب الطالب تأديباً بعصا ليس من شأنها أن تقتل عادة، فمات فلا يقتص منه بذلك؛ لأن هذا شبه عمد.
وبالنسبة لشبه العمد هل يلحق بالعمد من ناحية أوصاف الدية، أم بالخطأ؟ فإن ابن كثير - رحمه الله - يقول هنا: "فهذا يقتضي أن حكم عمد الخطأ حكم الخطأ المحض في وجوب الدية"، وذلك أن النبي ﷺ لما اختصموا إليه قضى أن دية جنين المرأة غرة عبد، أو أمة، وقضى بدية المرأة على العاقلة، ومعلوم أن الدية في العمد على القاتل نفسه، فلما كان الضرب هنا بما لا يقتل عادة ألحقه بالخطأ، ولم يلحقه بالعمد حيث جعل الدية على العاقلة.
"وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر - ا - قال: بعث رسول الله ﷺ خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتلهم، فبلغ ذلك رسولَ الله ﷺ، فرفع يديه، وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد[5]، وبعث عليّاً فودى قتلاهم، وما أتلف من أموالهم حتى ميلغة الكلب.
وهذا الحديث يؤخذ منه أن خطأ الإمام، أو نائبه يكون في بيت المال."

فهذه الرواية التي ذكر فيها أن خالداً قتل هؤلاء حينما قالوا: صبأنا صبأنا تشتمل على كثير من المعاني، والفوائد، والأحكام، ومن ذلك أن مثل هذا التعبير في قولهم: صبأنا صبأنا اعتبره منهم النبي ﷺ مع أنه ليس من الألفاظ الشرعية، ولا يقوم مقام الشهادتين، بل كان يستعمله الكفار في الاستهزاء بالمسلمين حيث كانوا يسمونهم الصابئة، ويقولون: صبأ فلان، وهؤلاء القوم قد علق ذلك في أذهانهم على المسلمين، وظنوا أن من أراد أن يسلم فعليه أن يقول: "صبأت" لكثرة ما أذاعه الكفار، فظنوا أن المسلمين يحبونه، ويقرونه، وأن هذا هو الدين، فقالوا: صبأنا، بقدر جهدهم، ومعرفتهم، وعلمهم، فاعتبر ذلك النبي ﷺ منهم دخولاً في الإسلام.
ومن الفوائد، والأحكام في هذا الحديث أيضاً أن خالداً قتلهم بهذا، ولم يقتص النبي ﷺ لهم منه، مع أن ظاهر الأمر أنه قتل أناساً قد دخلوا في الإسلام.
ومثل ذلك ما ورد في الخبر المشهور عن أسامة بن زيد، وغير أسامة فذاك قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ومع ذلك قتله، ولم يقتص النبي ﷺ منه؛ لأنه متأول مجتهد في ذلك فهو ظن أنه قالها متعوذاً، ولم يقلها صادقاً، فاعتبر أنه لا زال على كفره، فقتله بهذا الاعتبار.
وذاك رجل عنده غنم، وظاهر الأمر أنه مسلم حيث اطمأن كل الاطمئنان حيث فر الناس، ويخبر المسلمين أنه مسلم بإلقاء السلام عليهم، ومع ذلك قُتل، وأخذت غنمه فنزلت الآية تقول: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا [سورة النساء:] أي من أجل الغنائم، والأغنام، فهؤلاء أخطئوا، ومع ذلك لم يقتص النبي ﷺ للمقتول، وإنما بيَّن أن ذلك خطأ، فالمقصود أنه كان ﷺ في مثل هذه القضايا يبين لأصحابه الموقف الصحيح، وتنتهي القضية، بمعنى أنك لو نظرت إلى أخطاء الصحابة في السيرة، وما يقع عادة في الجهاد في سبيل الله من بعض الأخطاء، والتجاوزات، والاجتهادات، وما أشبه ذلك تجد أنه ﷺ كان يبيّن لهم وجه الصواب، ثم تنتهي القضية بعد ذلك حيث تبين الصواب من الخطأ، وهكذا كان الخلفاء الراشدون يبيّنون الحق في مثل تلك الأخطاء التي تقع من بعض الأفراد، وينتهي الأمر.
أما اليوم إذا وقعت من المجاهدين بعض الأخطاء فإنه تحصل شنائع للرد على تلك الأخطاء في الإعلام، وعلى مستوى العالم كله من شرقه إلى غربه، حتى إن أول من سيتفرق عنهم هم الذين معهم، وهذا تصرف غير صحيح مع أخطاء المجاهدين؛ لأن الجهاد الشرعي في سبيل الله مظنة لوقوع أخطاء، وتجاوزات لكنها تقوَّم فلا تُقَرّ، وليس معنى ذلك أن هذه الأخطاء تأتي على هذا الأصل الكبير الشرعي - الجهاد في سبيل الله - فهذا لا يجوز، وهكذا أخطاء المسلمين ليس من العدل أن تضخَّم بحيث يأتي الكفار، ويضخِّمون الأمر، ثم ينسبون ذلك الخطأ إلى الإسلام، فهذا لا يرجع إلى الإسلام، وإنما المخطئون هم الذين يتحملون هذه الأخطاء، وتبعاتها، ولا يصح أن نقبل نسبة ذلك إلى الإسلام، ومثل ذلك أيضاً يجب رد الأخطاء التي يرتكبها بعض رواد المساجد، وأخطاء المعلمين، وأخطاء طلاب العلم، وأخطاء غيرهم من شرائح الأمة لكن لا يؤتى على الأصل الشرعي، ويبطل، أو يراد إبطاله بناء على أخطاء وقعت من أولئك الناس.
وعلى كل حال على الإنسان أن يراعي مثل هذه القضايا، ولا ينبغي غض الطرف عن الخطأ، ولو صدر من إنسان قصده حسن، وما ضر المسلمين في عشرات السنين التي مضت مثل كتم هذه الأشياء، وإنكارها، وجحدها، وأن ذلك غير صحيح، ويُخفى عن الأمة زعماً بأن ذلك من المصلحة، ثم تنكشف الأمور عن بلايا، ورزايا، وخزايا، فتذهب معها ثمرات هذه الأعمال جميعاً كجهاد الأعداء، وفي المقابل لا بد أن يبين الخطأ بأنه خطأ، والمخطئ يجب إعلامه بخطئه، وإيقافه عن هذا الخطأ إن أمكن لكن لا يؤتى على الأصل الشرعي، فالأصل الشرعي تبقى له منزلته، ومكانته، وحرمته، وإلا ألغينا الإسلام بأخطاء المسلمين -والله المستعان -.
"وقوله: إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ [سورة النساء:92] أي: فتجب فيه الدية مسلمة إلى أهله إلا أن يتصدقوا بها فلا تجب."

التصدق المذكور في قوله تعالى: إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ [سورة النساء:92] يعني بإسقاط الدية، فهذا يسمى صدقة، وهو كقوله في الدَّيْن: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ [سورة البقرة:280] يعني، وأن تصدقوا بإسقاط الدين، أو بإسقاط بعضه.
"وقوله: فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ [سورة النساء:92] أي: إذا كان القتيل مؤمناً، ولكنْ أولياؤه من الكفار أهل حرب فلا دية لهم، وعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة لا غير.
وقوله: وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ الآية [سورة النساء:92] أي: فإن كان القتيل أولياؤه أهل ذمة، أو هدنة فلهم دية قتيلهم، فإن كان مؤمناً فدية كاملة."

يقول تعالى في الآية: فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ [سورة النساء:92] أي: إذا كان القتيل مؤمناً، ولكنْ أولياؤه من الكفار - أهل حرب -، فهذا تنصيص على أنه مؤمن، ثم قال سبحانه: وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ [سورة النساء:92] فلم يذكر الإيمان إن كان المقتول من قوم كفار معاهدين، ولذلك فالحكم في القوم المعاهدين يشمل الكافر منهم أيضاً حيث يتحمل الإمام الدية فيدفعها من بيت مال المسلمين إن كان الذي قتل هذا القتيل من المعاهدين الجيش أو فلول الجيش؛ لأن الإمام هو الذي يتحمل تبعة أخطاء من تحت يده ممن يعملون لمهام الجهاد، ونحو ذلك، أما إذا كان القاتل من آحاد الناس بأن تنازع معه، فقتله، فإنه يتحمل الدية بنفسه، وليس الإمام؛ ولذلك فإن في قصة عمرو بن أمية الضمري المعروفة أنه لما حصل الغدر بالمسلمين في بئر معونة نجا هو من القتل، وفي طريقه إلى المدينة وجد رجلين فأكل معهما، وحادثهما فلما ناما عمد إليهما فقتلهما، وأدخل الرمح في عين واحد منهما حتى سمع خشخشة عظامه فلما رجع إلى النبي ﷺ أخبره فتبيّن أن الرجلين بينهم، وبين النبي ﷺ عهد، وليسوا من الكفار الذين قتلوا السبعين من القراء، فذهب النبي ﷺ يجمع دية القتيلين، وكان قد أتى على يهود النضير، وأرادوا قتله بإلقاء الحجر كما هو معلوم من قصة سبب غزوة بني النضير، فيلاحظ أن النبي ﷺ هو الذي تحمل الدية فأعطاهم إياها  من بيت المال مع أن القتيلين من الكفار.
"أي: فإن كان القتيل أولياؤه أهل ذمة أو هدنة فلهم دية قتيلهم، فإن كان مؤمناً فدية كاملة،
 ويجب أيضاً على القاتل تحرير رقبة مؤمنة"

بمعنى أن الحكم في المستأمن من أهل الذمة - يعني من رعايا الدولة المسلمة التي فتحت، وبقي بعض أهلها على الكفر - هو نفس الحكم الذي لمن كان بينكم، وبينهم عهد، وميثاق حيث إن من كان هذا حاله لا يحل قتله إلا إذا نقض العهد، وإذا نقض العهد ليس قتله لآحاد الناس، والمقصود أن هذا المستأمن أو المعاهد إذا قتله أحد غير الإمام وجبت الدية لأوليائه.
في قول الحافظ ابن كثير: "فإن كان مؤمناً" من قوله: "فإن كان مؤمناً فدية كاملة، ويجب أيضاً على القاتل تحرير رقبة مؤمنة" مقتضاه أن الله لم يقيد ذكر المقتول بالإيمان، وعليه يكون الحكم فيه ما ذكر بعده سواء كان المقتول مسلماً أو كافراً؛ وهذا القول كأنه قول، وسط في هذه الآية، وذلك أن من أهل العلم - ككبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - من يقول: إن الفرق بين قوله تعالى: فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ، وبين قوله: وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ أن كليهما غير مؤمنين إلا أن الأول من قوم عدو محاربين لكم، والثاني من قوم بينكم، وبينهم عهد، فالحافظ ابن كثير نظر إلى اللفظ في قوله: مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ، ووجد أنه يحتمل أن يكون مؤمناً، ويحتمل أن يكون غير مؤمنٍ، فإن كان غير مؤمن فقد سبق النص الذي يفيد أن في أهل الذمة الدية - على خلاف في ذلك - مضافاً إلى ذلك قراءة الحسن - وهي قراءة غير متواترة كما هو معروف - (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وهو مؤمن فدية) من هنا رجح الحافظ أن هذا الحكم الأخير مختص بأهل الإيمان أعني أن فيه الدية، والكفارة.
قال تعالى: وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [سورة النساء:92] يعني أنه في حال كون المقتول غير مؤمن، وهو من قوم بيننا، وبينهم ميثاق فقد دل الشرع على أنهم يعطون الدية أيضاً - كما ثبت عن النبي ﷺ، وفيه الكفارة أيضاً إما بتحرير رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، ومثاله لو أن إنساناً صار له حادث، فصدم شخصاً فاتضح أنه غير مسلم فإنه إضافة إلى الدية يعتق رقبة فإن لم يجد فعليه صيام شهرين متتابعين، ولا ينتقل إلى إطعام ستين مسكيناً كما في كفارة الظهار، ومن المؤسف أننا نسمع أناساً يُسألون عن ديات عليهم، وكفارات قتل فيقولون: سألنا إمام المسجد، أو سألنا فلاناً فقال لنا: أطعم ستين مسكين، وهذه مشكلة - فالله المستعان -.
"ويجب أيضاً على القاتل تحرير رقبة مؤمنة فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [سورة النساء:92] أي: لا إفطار بينهما بل يسرد صومهما إلى آخرهما، فإن أفطر من غير عذر من مرض، أو حيض، أو نفاس استأنف."

قوله: "استأنف" يعني وجب عليه أن يبدأ الشهرين من جديد، وكأنه ما صام بعد، وأما الأعذار المبيحة للفطر في رمضان كالحيض، والنفاس، والمرض فهذه لا تقطع التتابع في الصيام.
ومن أهل العلم من ذكر قولاً هو أحوط للذمة في مثل هذا الصيام - من عليه صوم شهرين متتابعين - منهم الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - حيث يقول: إن من عليه صيام شهرين متتابعين فليوقع هذا الصوم في وقت لا ينقطع فيه، يعني لا يكون قطعه بيده هو، أما إذا نزل عليه شيء اضطراراً فليس داخلاً في هذا، لكن أن يبدأ الصيام في شهر ذي القعدة - مثلاً - فهذا سيقطعه عيد الأضحى، وأيام التشريق، ومثله من بدأ الصيام بعد دخول شهر شعبان فإنه سيقطع صيامه رمضان، وعيد الفطر لذلك نقول: صم بعد رمضان، وقبل ذي القعدة أو بعد أيام التشريق فبذلك يمكنك أن تدفع قطعه إلا ما نزل بك من غير قصد، ولا إرادة - والله أعلم -.
"وقوله: تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [سورة النساء:92] أي: هذه توبة القاتل خطأً إذا لم يجد العتق صام شهرين متتابعين.
وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [سورة النساء:92] قد تقدم تفسيره غير مرة.
  1. أخرجه البخاري في كتاب الديات -  باب قول الله تعالى: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة المائدة:45] (6484) (ج 6 / ص 2521)، ومسلم في كتاب القسامة، والمحاربين، والقصاص، والديات - باب ما يباح به دم المسلم (1676) (ج 3 / ص 1302).
  2. أخرجه الترمذي في كتاب الحدود – باب ما جاء في حد الساحر (1460) (ج 4 / ص 60)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (2699).
  3. أخرجه مسلم من حديث أسامة بن زيد في كتاب الإيمان - باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله (96) (ج 1 / ص 96).
  4. أخرجه أحمد (15781) (ج 3 / ص 451)، والدارمي (2348) (ج 2 / ص 244)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير صحابيه.
  5. أخرجه البخاري في كتاب المغازي - باب بعث النبي -صلى الله عليه، وسلم- خالد بن الوليد إلى بني جذيمة (4084) (ج 4 / ص 1577).

مرات الإستماع: 0

"وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء:92] نزلت بسبب قتل عياش بن أبي ربيعةَ للحارث بن زيد، وكان الحارث يُعذِّبه على الإسلام، ثم أسلم، وهاجر، ولم يعلم عياش بإسلامه فقتله، وقيل: إنّ الاستثناء هنا منقطع."

نزلت بسبب قتل عياش بن أبي ربيعة، وليس ابن ربيعة، عياش بن أبي ربيعة، صلحوها، وكان الحارث يعذبه على الإسلام، ثم أسلم، وهاجر، ولم يعلم عياش بإسلامه، فقتله، لقيه بالمدينة فقتله، وقيل: لقيه في موضعٍ - على كل حال - لم يعلم بإسلامه فقتله، لكن هذه الرواية لا تصح، فلا يثبت أن ذلك هو سبب النزول، لا يثبت، هذا جاء عند ابن جرير[1] وابن أبي حاتم[2] مراسيل عن مجاهد، والقاسم بن محمد، وسعيد بن جُبير، ومن حسَّن هذا باعتبار أنه يعضد بعضها بعضا، هذه المراسيل جاءت، لكن الواقع حتى هذه المراسيل فإن أكثرها لا يصح أيضًا من جهة الإسناد، يعني فيه من الرواة الضعفاء ما لا يصح معه بحال فضلًا عن كونه مرسلًا.

المقصود أن هذا لا يصح أنه سبب النزول - والله أعلم -.

"وقيل: إن الاستثناء هنا منقطع، والمعنى: لا يحل لمؤمن أن يقتل مؤمنًا بوجه، لكنّ الخطأ قد يقع."

إِلَّا خَطَأً [النساء:92] فيكون الاستثناء بمعنى، لكن الخطأ قد يقع، وهذا الذي اختاره سيبويه، والزَّجاج[3] واختاره أيضًا أبو جعفر ابن جرير - رحمه الله -[4] ويمكن أن يكون التقدير لكن إن قتله خطأً فجزاؤه ما يُذكر.

وبعضهم يقول: بأنه استثناء مُفرَّغ من أحوال عامة، أو علل عامة محذوفة، فالمشهور أنه استثناءٌ منقطع.

"والصحيح أنه متصل، والمعنى لا ينبغي لمؤمن، ولا يليق به أن يقتل مؤمنًا إلّا على وجه الخطأ من غير قصدٍ، ولا تعمد إذ هو مغلوبٌ فيه، وانتصاب خطأ على أنه مفعولٌ من أجله، أو حال، أو صفةٌ لمصدر محذوف."

إذا قلنا: بأنه مفعول من أجله، يعني ما ينبغي له أن يقتله لعلةٍ من العلل إلا للخطأ وحده إِلَّا خَطَأً [النساء:92] إلا للخطأ وحده، وإذا قلنا: بأنه حال يكون التقدير ما ينبغي أن يصدر منه قتلٌ له إلا مخطئًا في قتله، يعني حال كونه مخطئًا في قتله، يعني ما ينبغي له أن يقتله في حالٍ من الأحوال إلا في حال الخطأ، وعلى الوجه الثالث: أو صفة مصدرٍ محذوف، يعني إلا قتلًا خطأ، هذا المصدر المحذوف، إلا قتلًا خطأ.

"قوله - تعالى -: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ [النساء:92] هذا بيان ما يجب على القاتل خطأ، فأوجب الله عليه التحرير، والدية، فأما التحرير ففي مال القاتل، وأما الدية ففي مال عاقلته، وجاء ذلك عن النبي ﷺ وبيانٌ للآية - [وفي النسخ الخطية: وهو بيانٌ للآية] - إذ لفظها يحتمل ذلك، أو غيره، وأجمع الفقهاء عليه."

في قوله هنا: فأما التحرير ففي مال القاتل، يعني الرقبة في مال القاتل، وأما الدية ففي مال عاقلته، العاقلة: القرابة من جهة أبيه، عصباته، وجاء ذلك عن النبي ﷺ ويقول: وبيانٌ للآية إذ لفظه يحتاج ذلك، أو غيره، جاء عن النبي ﷺ ما يدل على أن دية القتل الخطأ على عاقلته، كما في حديث أبي هريرة: في المرأتين من هذيل لما اقتتلتا فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، وما في بطنها، فاختصموا إلى النبي ﷺ فقضى رسول الله ﷺ أن دية جنينها غُرة عبدٌ، أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها[5].

هذا واضح بخلاف القتل العمد، فالمشهور أنه الدية تكون على القاتل في ماله، وليس على عاقلته، هذا في الخطأ يكون على عاقلته.

"وأجمع الفقهاء عليه، واشترط مالكٌ في الرقبة التي تُعتق أن تكون مؤمنة، ليس فيها عقدٌ من عقود الحرية، سالمةٌ من العيوب فأما إيمانها فنُص هنا، ولذلك أجمع العلماء عليه هنا، واختلفوا في رقبة الظهار، وكفارة اليمين."

باعتبار حمل المطلق على المقيد، وذكرت لكم أن المطلق، والمقيد لهما أربعة أحوال في مجلسٍ سابق، فهل ما جاء من قبيل المطلق في كفارة الظهار، واليمين يُقيد بالإيمان، فيُقال: يُشترط أن تكون الرقبة مؤمنة، ولا تُجزئ الكافرة، أو يُقال بأن القيد جاء هنا في كفارة القتل، وهناك يبقى على إطلاقه؟ خلاف بين أهل العلم، والصورة نفسها هنا في مسألة اتحاد السبب، أو الحكم، والعكس هي من قبيل المُختلف فيه، يعني المتفق عليه ذكرنا أنه ما اتحد فيه السبب، والحكم، أو اختلف الحكم، والسبب، فهذا الأول يُحمل، والثاني لا يُحمل، ويبقى الوسط: ما اتحد الحكم، واختلف السبب، أو العكس، فيه خلاف، فالحكم هنا متحد، وهو الكفارة، تحرير رقبة مؤمنة، ومطلق أيضًا في الموضعين الآخرين، والسبب مختلف، قتل، يمين، ظهار، فهذا فيه خلاف، هل يحمل المطلق على المقيد. 

"وأما سلامتها من عقود الحرية."

عقود الحرية مثل المُبعَّض، يعني عُتق بعضه، وكذلك أيضًا مثل المُكاتب، فيؤول أمره إلى الحرية، وهكذا، وما أشبه هؤلاء، مُدبَّر بحيث أنه إذا مات سيده يصير إلى الحرية، فهنا قال: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [النساء:92].

"قال: فيظهر من قوله - تعالى -: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [النساء:92]؛ لأن ظاهره أنه ابتداء عتقٍ عند التكفير بها."

وليس قد ابتُدئ ذلك بعقدٍ، أو تدبيرٍ، أو إعتاقٍ بعضٍ، أو نحو ذلك.

"وأما سلامتها من العيب، فزعموا أن إطلاق الرقبة يقتضيه، وفي ذلك نظر."

يقتضيه، يعني رقبة بمعنى رقبة كاملة باعتبار أن المطلق يُحمل على أتم معانيه، يعني من كان فيه إعاقة أنه لا يُجزئ؛ وذلك لنقصه، على تفاصيل في الإعاقة عندهم ما يدخل فيها، وما لا يدخل، والمقصود أن يكون قادرًا على العمل، ينفع نفسه، لا يكون عالةً على المجتمع؛ لأن مقصود الشارع بالعتق هو أن يكون هذا الإنسان في حالٍ أكمل، ولا يكون مقيدًا بقيد الرق، أما إذا كان العتق يؤدي به إلى أن يكون كلًا على المجتمع فمثل هذا قد يكون بقاؤه في الرق أفضل، ولذلك قال الله في المكاتبة في سورة النور: فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور:33] يعني قدرة على الكسب مع الوفاء للمُكاتِب، وهو السيد إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور:33] قدرةً على الكسب، لكن إذا كان سيبقى عند أبواب المساجد يمد يده للناس، لا يستطيع التصرف، ولا الاكتساب، ولا العمل، فمثل هذا يبقى عند سيده يؤويه، وينفق عليه خيرٌ له من هذه الحال التي يضيع فيها، فزعموا أن إطلاق الرقبة يقتضيه، وجاء في قراءة أُبي: لا يجزئ فيها صبي، باعتبار أن الصبي لا يستطيع الكسب، والعمل فيضيع.

"قال: ولم يُبيَّن في الآية مقدار الدية، وهي عند مالك مائةٌ من الإبل على أهل الإبل، وألف دينارٍ شرعيةٍ على أهل الذهب، واثنا عشر ألف درهمٍ شرعية على أهل الورِق."

المقصود بالدنانير الشرعية، والدراهم الشرعية: الدنانير، والدراهم تُضرب، وتكون على مقدارٍ، ووزنٍ مُحدد معلوم، الدينار الشرعي، وله زنة معلومة كما لا يخفى.

"ورُوي ذلك عن عمر بن الخطاب."

رُوي هذا؛ جاء هذا عن عمر بن الخطاب، ذكر عندكم في الحاشية: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله ﷺ ثمانمائة دينار، أو ثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلمين، وكان ذلك كذلك حتى استُخلف عمر، فقام خطيبًا فقال: إن الإبل قد غلت، فرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفا، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاة ألفي شاة، وعلى أهل الحُلل - يعني الثياب - مائتي حُلة، وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية"[6] أخرجه أبو داوود، وحسَّن الألباني إسناده.

"قوله: مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [النساء:92] أي مدفوعةٌ إليهم، والأهل هنا الورثة، واختُلف في مدة تسليمها، فقيل: هي حالةٌ عليهم"

يعني يدفعونها نقدًا مباشرةً، يدفعونها مباشرةً ليست مجزأة، مقسطة.

"وقيل: يؤدونها في ثلاث سنين، وقيل: في أربع، ولفظ التسليم مطلق، وهو أظهر في الحلول لولا ما جاء من السنة في ذلك."

أظهر في الحلول يعني أنها حالَّة ليست مؤجلة، أو مجزأة، يقول: لولا ما جاء من السنة في ذلك، هنا نقل عندكم في الحاشية، قال الترمذي: "وقد أجمع أهل العلم على أن الدية تؤخذ من ثلاث سنين في كل سنةٍ ثُلث الدية"[7] يعني الإجماع له مستند، لكن قد يكون خفي علينا، يعني نحن لم نقف على الحديث في أنها مؤجلة ثلاث سنين، لكن لمّا انعقد الإجماعُ عليه، الإجماع لا بد له من مستند في الأصل، فيكون ذلك قد خفي علينا فدلَّ عليه الإجماع.

ونقل القرطبي[8] - رحمه الله - عن ابن العربي - رحمه الله - ما ملخصه: إن الدية على العاقلة في ثلاثة أعوام على ما قضاه عمر، وعليّ، وكان من النبي ﷺ يعطيها دفعةً لأغراض: منها أنه كان يعطيها صلحًا، وتسديدًا، ومنها أنه كان يُعجِّلها تأليفًا، فلما وُجد الإسلام يعني استقر، قررتها الصحابة على هذا النظام.

وقال ابن قدامة في المُغني: "ولا خلاف بينهم في أنها مؤجلة في ثلاث سنين، فإن عمر، وعليًّا - ا - جعلا دية الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين، ولا نعرف لهما في الصحابة مخالفًا"[9] يعني أولًا نقل الإجماع هذا قول صحابي ليس له مخالف، الذي هو من أقوال الخلفاء الراشدين عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين[10] نحن عرفنا أيضًا أن قول الصحابي إذا لم يُعلم له مخالف لاسيما ما يُنقل عن مثل عمر يكون قد اشتُهر، فهذا يكون حُجة - كما سبق - أنه حجةٌ بيانية، وليس بحجةٍ رسالية، يقول ابن قدامة: "ولأنه مالٌ يجب على سبيل المواساة فلم يجب حالًّا كالزكاة، وكل ديةٍ تحملها العاقلة تجب مؤجلة"[11] هذا كلام ابن قدامة.

" قوله: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [النساء:92] الضمير يعود على أولياء المقتول أي إذا أسقطوا الدية سقطت، وإذا أسقطها المقتول سقطت أيضا عند مالكٍ، والجمهور."

يعني أسقطها المقتول، كيف يسقطها المقتول؟ إنه قبل موته، وهو في حال الرمق، أو النزع، أو كانت به نوع حياة، فأسقط الدية، ثم مات؛ لأنه معلوم أنه ما تؤخذ الدية، ولا يُقتص، الدية واضح، لكن حتى القصاص لا يُقتص حتى يُنظر في الجراح هذه إلى ما تؤول، وقد تؤول إلى العطب، يموت، وقد يحصل بسبب ذلك فساد عضو، فإذا استعجل، وأخذ الدية كما هو الظاهر في أول الأمر، ثم سرت هذه الإصابة، أو الجراح، أو نحو هذا حتى أتت على نفسه فليس له أن يطالب بعد ذلك، كذلك لو أنها سرت على العضو، فصار تالفًا، وشُل، فليس له أنه يطالب بعد ذلك؛ لأن الأصل أنه ينتظر حتى يُنظر فيما تؤول إليه هذه الإصابة، أو الجراح، فهذا المقتول يمكن أن يكون قبل موته قد تنازل عن الدية. 

"وإذا أسقطها المقتول سقطت أيضا عند مالكٍ، والجمهور، خلافًا لأهل الظاهر."

خلافًا لأهل الظاهر باعتبار أنه قال: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [النساء:92] ما قال: إلا أن يصدق.

"وحجتهم عود الضمير على الأولياء، وقال الجمهور: إنما هذا إذا لم يسقطها المقتول.

قوله - تعالى -: فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92] معنى الآية: أن المقتول خطأً إن كان مؤمنًا، وقومه كفارا أعداءً، وهم المحاربون، فإنما في قتله التحرير خاصةً دون الدية فلا تُدفع لهم لئلا يتقووا بها على المسلمين، ورأى ابن عباس - ا - أن ذلك إنما هو فيمن آمن، وبقي في دار الحرب لم يهاجر، وخالفه غيره، ورأى مالكٌ أن الدية في هذا لبيت المال، فالآية عنده منسوخة."

 

فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92] فهذا ظاهر في أن المقصود كفارة فقط دون الدية؛ لئلا يتقووا على المسلمين، ابن عباس قيده فيمن آمن، وبقي في دار الحرب، ولم يهاجر، وخالفه غيره، رأي مالك أن الدية في هذا لبيت المال، فالآية عندهم منسوخة، وهذه - دعوى النسخ - أيضًا لا تثبت لمجرد الاحتمال.

فظاهر الآية أنه إن كان من قوم أعداء محاربين فليس لهم الدية، أهله من هؤلاء الأعداء، من هؤلاء الكفار، فلا تُدفع إليهم الدية مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:92] فيُكتفى بالكفارة، هذا ظاهر الآية - والله أعلم -.

"قوله - تعالى -: وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:92] الآية: معناها أن المقتول خطأً إن كان قومه كفارًا مُعَاهدين ففي قتله تحرير رقبة، والدية إلى أهله لأجل معاهدتهم، والمقتول على هذا مؤمن، ولذلك قال مالك: لا كفارة في قتل الذمي، وقيل: إنّ المقتول في هذه الآية كافرٌ، فعلى هذا تجب الكفارة في قتل الذميّ، وقيل: هي عامةٌ في المؤمن، والكافر، ولفظ الآية مطلق إلّا إن قيده قوله: وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:92] في الآية التي قبلها، وقرأ الحسن هنا: وهو مؤمن."

وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:92] في النوع الأول نص على أنه مؤمن، لكنّ قومه من الكفار، وهنا قال: وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:92] فظاهره أنه مؤمن، والفرق أن قومه ليسوا كالأولين من المحاربين، بل بينهم، وبين المسلمين ميثاق، بينهم عهد.

يقول: ففي قتله تحرير رقبة، والديةُ إلى أهله لأجل معاهدتهم، وفي قراءة الحسن كما سمعتم، وهو مؤمن، والقراءة الأحادية إذا صح سندها فهي تفسر القراءة المتواترة على الراجح، تفسرها وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:92] يقول: ولذلك قال مالك: لا كفارة في قتل الذمي، وقيل: إن المقتول في هذه الآية كافر، يعني من أهل الذمة، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله - وعليه فالكفارة تكون في قتل الذمي، وقيل: هي عامةٌ في المؤمن، والكافر، ولفظ الآية مطلق إلا إن قيده قوله: وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:92] في الآية التي قبلها وَإِنْ كَانَ [النساء:92] يعني المقتول مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:92] هل هو كالأول وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:92]؟ مع هذه القراءة أيضًا قراءة الحسن، وهذا كأنه الأقرب - والله أعلم - أنه مؤمن من قوم بينهم، يعني يكون الفرق في القوم في أهله، هل هم من المُعاهدين، أو من المحاربين؟ أهله من غير المسلمين، فصار ذلك على ثلاثة أحوال: أن يكون قومه من المؤمنين فيُعطون الدية، وفيه الكفارة وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:92] وأن يكونوا من المعاهدين وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:92] ففيه الدية، والكفارة، أو يكون من المؤمنين، ويكون قومه من المحاربين ففيه الكفارة دون الدية - والله أعلم -.

"قوله - تعالى -: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ [النساء:92] أي: من لم يجد العتق، ولم يقدر عليه فصيام الشهرين المتتابعين عوضٌ منه.

تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ [النساء:92] منصوبٌ على المصدرية، ومعناه رحمةً منه، وتخفيفا."

يعني الكفارة لحق الله، والدية لحق المخلوق، وكما سبق بأن القتل الخطأ تكون على العاقلة، ولذلك هؤلاء الذين يقفون في المساجد، ويطلبون الصدقات، ونحو ذلك بسبب ديات يزعمون أنهم تحملوها، ونحو هذا، يُقال لهم: الأصل أن الدية ليست عليكم، وإنما هي على العاقلة، تُفرض عليهم، يُلزمون بها، وتُجزَّأ عليهم بثلاث سنين، فلا معنى لوقوفه أمام الناس، أما المبالغات في الديات بحيث تصل إلى عشرات الملايين، ونحو ذلك، ويزاودون فيها، أو نحو هذا، ثم يطلب من الناس، أن يبذلها من ماله، العاقلة يبذلونها من مالهم أو ولي القاتل، أو نحو هذا، هذا إليهم، لكن كونهم يعلنون هذا للناس، ويطلبون منهم، ويُذاع ذلك، ويُنشر، ثم بعد ذلك يتهافت الناس في تجميع هذه الأموال، فهذا لا أرى له وجهًا لهذه المبالغات في الديات، فهذا جاني، وقاتل، ويؤدي هذا الفعل إلى التساهل في الدماء، والاجتراء عليها، كما قال أحدهم يهدد آخر بالقتل: ديتك قطية، يعني هذا يدفع، وهذا يدفع، وهذا يدفع، وهذا يدفع، ترى ديتك قطيع يعني أسهل شيء عندي قتلك، مثل هؤلاء الذين يستهترون في دماء الناس، وأرواحهم، ثم بعد ذلك يُجمع لهم هذه الملايين بهذه الطريقة، هذا لا وجه له فيما أظن، ولا أرى الانسياق في مثل هذا، وإنما تُبذل الأموال فيما هو أنفع للأمة، وأجدى، لاسيما، ونحن نشاهد هذه الأحوال، والمسغبة التي تعيشها - للأسف - شعوب كاملة، ثم يُخالف في دية جانٍ لربما يؤدي ذلك إلى جراءته، وجراءة غيره، أنه إذا قتل يُبالغ لهم حتى يحصل لهم طمعٌ بالمال، فيبذل إليهم ما طلبوه، ولا يُقتل.

المقتول إذا تنازل كأن يقول مثلًا: إن مت فأنا متنازل عن ديتي، واضح؟ إن مت فأنا متنازل عن ديتي، وقد يكون الإصابة التي فيه هي إصابة قاتلة، واضح أن هذا الإنسان لا يعيش، فهو في حكم الميت، فيقول بأنه متنازل عن الدية، فهل هي حق للورثة تسكين نفوسهم، أو حق له كعوض؟ واضح؟ العلماء تكلموا على المقتول بكونه قد فاتت نفسه، ويذهب، ولم يستوف حقه، وهؤلاء الورثة لهم حق باعتبار أن فيه دية فأخذوه، أو تنازلوا عنه، فيبقى حق المقتول في إزهاق نفسه، ولذلك يقولون: بأن من صام مثلًا، أو أعتق رقبة، ودفع الدية للورثة، أو تنازلوا عنها، هل تبرأ ذمته؟

الكفارة بينه، وبين الله مع التوبة، لكن حق المقتول أين هو؟ فلو أن المقتول عفا عنه قبل أن يموت، وأسقط حقه، فالظاهر أنه يسقط، يبقى حق الله إذا تاب، وأخرج الكفارة، بالنسبة للقتل العمد الدية تكون على القاتل نفسه، وهل فيه كفارة صيام شهريين متتابعين؟ بعض العلماء يقول: ليس فيه الكفارة وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا [النساء:93] ما ذكر الكفارة قال: فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ [النساء:93] إلى آخره، الكفارة لا تعمل شيئًا مثل اليمين الغموس، لا كفارة فيها، كفارة اليمين - اليمين الكاذبة - وإنما فيها التوبة العظيمة، وكثرة الحسنات، فكذلك القتل العمد.

وبعض أهل العلم يقول: فيه الكفارة أيضًا مع التوبة العظيمة، فهذا يحتمل أن تكون حقًا له إذا أسقطه سقط، من باب أولى أنه أحق بذلك؛ لأنها إنما استُحقت بسببه فهو أحقُ بإسقاطها، ويحتمل أن يكون بناءً على ظاهر الآية كما قال الظاهرية: بأن ذلك أعاده إلى الورثة إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [النساء:92] ما قال: إلا أن يتصدق، فيحتمل - والله أعلم -.

  1.  تفسير الطبري (7/307).
  2.  تفسير ابن أبي حاتم (3/1031).
  3.  معاني القرآن وإعرابه للزجاج (2/90).
  4.  تفسير الطبري (5/687)، واختاره ابن كثير في تفسيره (2/373).
  5.  أخرجه البخاري، كتاب الديات، باب جنين المرأة، وأن العقل على الوالد وعصبة الوالد، لا على الولد، برقم (6910)، ومسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب دية الجنين، ووجوب الدية في قتل الخطأ، وشبه العمد على عاقلة الجاني، برقم (1681).
  6.  أخرجه أبو داود، كتاب الديات، باب الدية كم هي؟ برقم (4542)، وحسنه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (3498)، وفي إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (7/305)، برقم (2247).
  7.  انظر: سنن الترمذي ت شاكر (4/11)، بعد حديث (1386).
  8.  تفسير القرطبي (5/320).
  9.  المغني لابن قدامة (8/378).
  10.  أخرجه الترمذي، أبواب العلم عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، برقم (2676)، وابن ماجه، أبواب السنة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، برقم (42 و 43)، وأحمد في المسند، برقم (17142)، وقال محققوه: "حديث صحيح بطرقه وشواهده، وهذا إسناد حسن" وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (937).
  11.  المغني لابن قدامة (8/378).