يقول المؤلف - رحمه الله -: يقول الله تعالى: ليس لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن بوجه من الوجوه، كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال: لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة ثم إذا وقع شيء من هذه الثلاث فليس لأحد من آحاد الرعية أن يقتله، وإنما ذلك إلى الإمام، أو نائبه."
فقوله - تبارك، وتعالى -: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا [سورة النساء:92] مثل هذا يدل على الامتناع، وهذا الامتناع تارة يكون امتناعاً شرعياً كما هنا، وكما في قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [سورة الأحزاب:36] أي لا يسوغ لهم بحال، ولا يجوز، وكقوله تعالى: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا [سورة الأحزاب:53]، وكقوله تعالى: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ [سورة التوبة:120].
فتارة يكون ذلك من قبيل الامتناع الشرعي، وتارة يكون من قبيل الامتناع العقلي، وتارة يكون من قبيل الامتناع في مجاري العادات، وإذا تأملت ما ورد من هذا في القرآن تجده متفاوتاً نحو هذا التفاوت، فقوله تعالى: مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا [سورة النمل:60] ليس من الامتناع الشرعي، أي ليس المقصود أنه يحرم عليكم أن تنبتوا شجرها، وإنما المراد أنكم لا تستطيعون ذلك، وأما قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا [سورة النساء:92] فهذا من الامتناع الشرعي، أي أنه لا يجوز لمؤمن أن يقتل مؤمناً.
وقوله ﷺ: لا يحل دم امرئ مسلم[1] هذا الحديث يفسر هذه الآية، وأما الثلاث الموجبات لقتل المسلم، والمذكورة بطريقة الحصر في هذا الحديث، فكلام أهل العلم فيها معروف، فمنهم من يقول: لا يحل إلا بهذه الأمور المذكورات؛ لأن الحصر هنا ظاهر، وهو بأقوى صيغة من صيغه، وهي النفي، والاستثناء، والأقرب أنه يجوز قتل الإنسان، ويحل دمه في كل ما ورد بالنصوص الصحيحة كقوله ﷺ مثلاً في الساحر: حد الساحر ضربة بالسيف[2]، ومن عمل عملَ قوم لوط فإنه يقتل هو، والمفعول به، وورد الأمر بقتل شارب الخمر في المرة الرابعة، فالمقصود أنه لا بد من جمع النصوص، والعمل بمقتضاها.
يقول رحمه الله: "ثم إذا وقع شيء من هذه الثلاث فليس لأحد من آحاد الرعية أن يقتله، وإنما ذلك إلى الإمام أو نائبه"؛ لأن هذا الأمر ليس لعامة الناس حتى ولو كان قصاصاً، فلو أن أحداً قتل رجلاً فليس لولي المقتول أن يقتص من القاتل، وإنما الإمام، أو نائبه هو الذي يمكنه من ذلك، وإلا كانت أمور الناس فوضى.
إذا كان الاستثناء منقطعاً تكون "إلا" بمعنى لكن، وهذا قول عامة المحققين من أهل العربية كسيبويه، وأهل التفسير أمثال ابن جرير، ومنهم من يقول: هو استثناء متصل، ويكون المعنى، وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً في حال من الأحوال إلا حال الخطأ، ومعلوم أن الفرق بين الاستثناء المتصل، والمنقطع هو أن في المنقطع يكون المستثنى ليس من جنس المستثنى منه.
هذه الرواية ضعيفة، ولو صحت لكان يمكن أن يقال: إنها سبب النزول.
هذه الرواية عن أبي الدرداء هنا أيضاً لم تصح، ومعنى قالها متعوذاً: أي خائفاً من القتل.
يقول: "فلا تجزئ الكافرة"؛ لأن الرقبة بنص هذه الآية مقيدة بالإيمان فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ [سورة النساء:92] لكن الخلاف قائم في مثل كفارة الظهار، وكفارة اليمين حيث أطلق الله الرقبة هناك، ولم يقيدها بالإيمان، وعلى كل حال لا شك أنه لا تجزئ الرقبة الكافرة في كفارة القتل، لكن هل يشترط غير هذا الشرط بمعنى هل يجزئ الصغير، والمعاق إعاقة تمنعه من العمل كالمشلول، والأعمى أو مقطوع اليدين؟
في هذه الشروط كلام معروف لأهل العلم، وقد جاء في هذه الآية قراءة غير متواترة لأُبَيِّ هكذا: (فتحرير رقبة مؤمنة لا يجزئ فيها صبي).
وابن جرير، وغيره يفرقون في من ولد من أبوين مسلمين، وبين من لم يبلغ مبلغاً يعرف فيه الإسلام، ويميزه، وينطق بالشهادة أو يدخل في الإسلام اختياراً، ونحو ذلك.
وقوله: وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [سورة النساء:92] هو الواجب الثاني فيما بين القاتل، وأهل القتيل عوضاً لهم عما فاتهم من قريبهم."
يعني أن الحكم على القاتل يكون فيه حقان الأول: تحرير رقبة مؤمنة فإن لم يجد فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [سورة النساء:92] - كما سيأتي - هذا حق الله ، والحق الثاني يتمثل بالدية لأولياء المقتول فهي حق لهم بما فاتهم من قريبهم، فالمقصود أن على القاتل حقين حق لله، وحق لأولياء الدم.
قوله: "وهذه الدية إنما تجب أخماساً" ليس المراد أنها تقسط خمسة أقساط، وإنما المراد خمسة أصناف في أسنان الإبل، وهذا بناء على رواية لا تخلو من ضعف، وبالنسبة لتقسيطها فعلى ثلاث سنين لا دفعة، واحدة، وهذا نقل عليه بعض أهل العلم الإجماع.
بنت المخاض، وابن المخاض ما لها سنة، وابن لبون ما لها سنتان.
وبالنسبة للحِقّة فهي التي دخلت في السنة الرابعة، وبعضهم يقول: استحقت طرق الفحل، وبعضهم يقول: استحقت الركوب يعني أنها تتحمل، وأما الجَذَعة فهي أكبر من الحِقّة أي التي دخلت في السنة الخامسة، وعلى كل حال قال: هذا لفظ النسائي، والرواية كما قلت قبلُ لا تخلو من ضعف، وجاء في رواية أخرى أصح من هذه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفيها التفريق بين قتل الخطأ، وبين قتل العمد، وأما في رواية ابن مسعود هذه فليس فيها هذا التفريق.
ومن التفريق أنه في قتل العمد جعلها أثلاثاً أي ثلاثين حِقّة، وثلاثين جَذَعة، وأربعين خليفة، والخليفة هي الحامل، والحوامل من الإبل هي الأنفس.
وفي نفس رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في الخطأ جعلها أربعاً، ثلاثين بنت لبون، وثلاثين بنت مخاض، وثلاثين حِقّة، وعشر ابن لبون، وتقسط على ثلاث سنوات.
ومن التفريق أن كفارة القتل العمد يتحملها القاتل، وفي كفارة القتل الخطأ لا يتحملها القاتل، وإنما تتحملها العاقلة، وهذا من محاسن هذه الشريعة في باب الإرفاق بالمكلفين.
والمقصود بالعاقلة عصبات الرجل أي قرابته من جهة أبيه، الأدنوْن، ثم من يليهم، ثم من يليهم، وتقسم عليهم مقادير معينة بحيث لا تجحِف بأموالهم، والعلماء مختلفون في النساء هل عليهن شيء، أم أن ذلك على الرجال فقط؟ فالمهم أنها تقسم على عصباته الأقربين، فإن لم يفِ ذلك بالمطلوب جاء الدور على الدائرة الأبعد، يعني ممن يمتّون لهم بصلة بعيدة، وهكذا الأبعد، ثم الأبعد حتى تجمع الدية في ثلاث سنوات.
قوله: "وقضى بدية المرأة على عاقلتها" يعني أن هذا في دية الخطأ، ومما قضى به أيضاً أن دية جنينها غرة عبد، أو أمة، بمعنى أن دية الجنين هي عُشر دية الأم، ومعلوم أن دية المرأة نصف دية الرجل، فإذا قلنا: إن دية الرجل تساوي مائة، وعشرين ألفاً فدية المرأة تكون ستين ألفاً، وعليه فإن عشر دية الأم يساوي ستة آلاف، فإذا أسقط الجنين ففيه عشر دية الأم، فلو أن الطبيب أعطى المرأة دواء فأسقطت، أو هي قفزت على شيء، أو حملت شيئاً ثقيلاً لتُسقط، أو نحو ذلك فإن عليها إذا سقط منها صورة إنسان سواء قبل نفخ الروح أو إذا كان ذلك بعد نفخ الروح فإنه تجب فيه الدية، وتعطى لوارثه، فالأم تدفعها لوارثه، وهو زوجها - أبو الجنين -، وهكذا إذا كان الذي أسقط الجنين غير الأم بأن جنى أحد عليه بضرب الأم، أو دفعها أو نحو ذلك، وجبت عليه الدية - عشر دية الأم - غرة عبد، أو أمة.
قوله: "عمد الخطأ" يقصد به شبه العمد، وذلك أن كثيراً من أهل العلم يجعلون القتل ثلاثة أقسام: خطأ محض، وعمد، وشبه عمد، فالخطأ المحض مثل ما إذا أراد أن يرمي صيداً فأصاب إنساناً فقتله، والعمد هو القتل بما يقتل عادة لمعصوم قصداً، كأن يرمي بحجر يقتل عادة، أو بسلاح يقتل عادة، أو نحو ذلك، ويشترط أيضاً أن يكون هذا الإنسان المقتول معصوماً، أي لا يكون ممن لا يقتص منه به كقتل الوالد للولد، وأن يكون ذلك عمداً عدواناً، وأن يكون مكافئاً له.
وعمد الخطأ، أو شبه العمد هو وسط بين الخطأ، والعمد، ومثاله أن يضربه بعصا لا تقتل عادة، أو لكمه لكمة لا تقتل عادة، أو دفعه فسقط، فمات، فهذا يعتبر شبه عمد إلا إذا كان ذلك مما يقتل عادة كأن يكون لكمه لكمة من شأنها أن تقتل أصلاً عند أهل الاختصاص، فهذا يقتل به؛ لأنه يعتبر عامداً، أما إذا لكمه لكمة لا تقتل عادة، كمعلم ضرب الطالب تأديباً بعصا ليس من شأنها أن تقتل عادة، فمات فلا يقتص منه بذلك؛ لأن هذا شبه عمد.
وبالنسبة لشبه العمد هل يلحق بالعمد من ناحية أوصاف الدية، أم بالخطأ؟ فإن ابن كثير - رحمه الله - يقول هنا: "فهذا يقتضي أن حكم عمد الخطأ حكم الخطأ المحض في وجوب الدية"، وذلك أن النبي ﷺ لما اختصموا إليه قضى أن دية جنين المرأة غرة عبد، أو أمة، وقضى بدية المرأة على العاقلة، ومعلوم أن الدية في العمد على القاتل نفسه، فلما كان الضرب هنا بما لا يقتل عادة ألحقه بالخطأ، ولم يلحقه بالعمد حيث جعل الدية على العاقلة.
وهذا الحديث يؤخذ منه أن خطأ الإمام، أو نائبه يكون في بيت المال."
فهذه الرواية التي ذكر فيها أن خالداً قتل هؤلاء حينما قالوا: صبأنا صبأنا تشتمل على كثير من المعاني، والفوائد، والأحكام، ومن ذلك أن مثل هذا التعبير في قولهم: صبأنا صبأنا اعتبره منهم النبي ﷺ مع أنه ليس من الألفاظ الشرعية، ولا يقوم مقام الشهادتين، بل كان يستعمله الكفار في الاستهزاء بالمسلمين حيث كانوا يسمونهم الصابئة، ويقولون: صبأ فلان، وهؤلاء القوم قد علق ذلك في أذهانهم على المسلمين، وظنوا أن من أراد أن يسلم فعليه أن يقول: "صبأت" لكثرة ما أذاعه الكفار، فظنوا أن المسلمين يحبونه، ويقرونه، وأن هذا هو الدين، فقالوا: صبأنا، بقدر جهدهم، ومعرفتهم، وعلمهم، فاعتبر ذلك النبي ﷺ منهم دخولاً في الإسلام.
ومن الفوائد، والأحكام في هذا الحديث أيضاً أن خالداً قتلهم بهذا، ولم يقتص النبي ﷺ لهم منه، مع أن ظاهر الأمر أنه قتل أناساً قد دخلوا في الإسلام.
ومثل ذلك ما ورد في الخبر المشهور عن أسامة بن زيد، وغير أسامة فذاك قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ومع ذلك قتله، ولم يقتص النبي ﷺ منه؛ لأنه متأول مجتهد في ذلك فهو ظن أنه قالها متعوذاً، ولم يقلها صادقاً، فاعتبر أنه لا زال على كفره، فقتله بهذا الاعتبار.
وذاك رجل عنده غنم، وظاهر الأمر أنه مسلم حيث اطمأن كل الاطمئنان حيث فر الناس، ويخبر المسلمين أنه مسلم بإلقاء السلام عليهم، ومع ذلك قُتل، وأخذت غنمه فنزلت الآية تقول: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا [سورة النساء:] أي من أجل الغنائم، والأغنام، فهؤلاء أخطئوا، ومع ذلك لم يقتص النبي ﷺ للمقتول، وإنما بيَّن أن ذلك خطأ، فالمقصود أنه كان ﷺ في مثل هذه القضايا يبين لأصحابه الموقف الصحيح، وتنتهي القضية، بمعنى أنك لو نظرت إلى أخطاء الصحابة في السيرة، وما يقع عادة في الجهاد في سبيل الله من بعض الأخطاء، والتجاوزات، والاجتهادات، وما أشبه ذلك تجد أنه ﷺ كان يبيّن لهم وجه الصواب، ثم تنتهي القضية بعد ذلك حيث تبين الصواب من الخطأ، وهكذا كان الخلفاء الراشدون يبيّنون الحق في مثل تلك الأخطاء التي تقع من بعض الأفراد، وينتهي الأمر.
أما اليوم إذا وقعت من المجاهدين بعض الأخطاء فإنه تحصل شنائع للرد على تلك الأخطاء في الإعلام، وعلى مستوى العالم كله من شرقه إلى غربه، حتى إن أول من سيتفرق عنهم هم الذين معهم، وهذا تصرف غير صحيح مع أخطاء المجاهدين؛ لأن الجهاد الشرعي في سبيل الله مظنة لوقوع أخطاء، وتجاوزات لكنها تقوَّم فلا تُقَرّ، وليس معنى ذلك أن هذه الأخطاء تأتي على هذا الأصل الكبير الشرعي - الجهاد في سبيل الله - فهذا لا يجوز، وهكذا أخطاء المسلمين ليس من العدل أن تضخَّم بحيث يأتي الكفار، ويضخِّمون الأمر، ثم ينسبون ذلك الخطأ إلى الإسلام، فهذا لا يرجع إلى الإسلام، وإنما المخطئون هم الذين يتحملون هذه الأخطاء، وتبعاتها، ولا يصح أن نقبل نسبة ذلك إلى الإسلام، ومثل ذلك أيضاً يجب رد الأخطاء التي يرتكبها بعض رواد المساجد، وأخطاء المعلمين، وأخطاء طلاب العلم، وأخطاء غيرهم من شرائح الأمة لكن لا يؤتى على الأصل الشرعي، ويبطل، أو يراد إبطاله بناء على أخطاء وقعت من أولئك الناس.
وعلى كل حال على الإنسان أن يراعي مثل هذه القضايا، ولا ينبغي غض الطرف عن الخطأ، ولو صدر من إنسان قصده حسن، وما ضر المسلمين في عشرات السنين التي مضت مثل كتم هذه الأشياء، وإنكارها، وجحدها، وأن ذلك غير صحيح، ويُخفى عن الأمة زعماً بأن ذلك من المصلحة، ثم تنكشف الأمور عن بلايا، ورزايا، وخزايا، فتذهب معها ثمرات هذه الأعمال جميعاً كجهاد الأعداء، وفي المقابل لا بد أن يبين الخطأ بأنه خطأ، والمخطئ يجب إعلامه بخطئه، وإيقافه عن هذا الخطأ إن أمكن لكن لا يؤتى على الأصل الشرعي، فالأصل الشرعي تبقى له منزلته، ومكانته، وحرمته، وإلا ألغينا الإسلام بأخطاء المسلمين -والله المستعان -.
التصدق المذكور في قوله تعالى: إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ [سورة النساء:92] يعني بإسقاط الدية، فهذا يسمى صدقة، وهو كقوله في الدَّيْن: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ [سورة البقرة:280] يعني، وأن تصدقوا بإسقاط الدين، أو بإسقاط بعضه.
وقوله: وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ الآية [سورة النساء:92] أي: فإن كان القتيل أولياؤه أهل ذمة، أو هدنة فلهم دية قتيلهم، فإن كان مؤمناً فدية كاملة."
يقول تعالى في الآية: فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ [سورة النساء:92] أي: إذا كان القتيل مؤمناً، ولكنْ أولياؤه من الكفار - أهل حرب -، فهذا تنصيص على أنه مؤمن، ثم قال سبحانه: وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ [سورة النساء:92] فلم يذكر الإيمان إن كان المقتول من قوم كفار معاهدين، ولذلك فالحكم في القوم المعاهدين يشمل الكافر منهم أيضاً حيث يتحمل الإمام الدية فيدفعها من بيت مال المسلمين إن كان الذي قتل هذا القتيل من المعاهدين الجيش أو فلول الجيش؛ لأن الإمام هو الذي يتحمل تبعة أخطاء من تحت يده ممن يعملون لمهام الجهاد، ونحو ذلك، أما إذا كان القاتل من آحاد الناس بأن تنازع معه، فقتله، فإنه يتحمل الدية بنفسه، وليس الإمام؛ ولذلك فإن في قصة عمرو بن أمية الضمري المعروفة أنه لما حصل الغدر بالمسلمين في بئر معونة نجا هو من القتل، وفي طريقه إلى المدينة وجد رجلين فأكل معهما، وحادثهما فلما ناما عمد إليهما فقتلهما، وأدخل الرمح في عين واحد منهما حتى سمع خشخشة عظامه فلما رجع إلى النبي ﷺ أخبره فتبيّن أن الرجلين بينهم، وبين النبي ﷺ عهد، وليسوا من الكفار الذين قتلوا السبعين من القراء، فذهب النبي ﷺ يجمع دية القتيلين، وكان قد أتى على يهود النضير، وأرادوا قتله بإلقاء الحجر كما هو معلوم من قصة سبب غزوة بني النضير، فيلاحظ أن النبي ﷺ هو الذي تحمل الدية فأعطاهم إياها من بيت المال مع أن القتيلين من الكفار.
ويجب أيضاً على القاتل تحرير رقبة مؤمنة"
بمعنى أن الحكم في المستأمن من أهل الذمة - يعني من رعايا الدولة المسلمة التي فتحت، وبقي بعض أهلها على الكفر - هو نفس الحكم الذي لمن كان بينكم، وبينهم عهد، وميثاق حيث إن من كان هذا حاله لا يحل قتله إلا إذا نقض العهد، وإذا نقض العهد ليس قتله لآحاد الناس، والمقصود أن هذا المستأمن أو المعاهد إذا قتله أحد غير الإمام وجبت الدية لأوليائه.
في قول الحافظ ابن كثير: "فإن كان مؤمناً" من قوله: "فإن كان مؤمناً فدية كاملة، ويجب أيضاً على القاتل تحرير رقبة مؤمنة" مقتضاه أن الله لم يقيد ذكر المقتول بالإيمان، وعليه يكون الحكم فيه ما ذكر بعده سواء كان المقتول مسلماً أو كافراً؛ وهذا القول كأنه قول، وسط في هذه الآية، وذلك أن من أهل العلم - ككبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - من يقول: إن الفرق بين قوله تعالى: فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ، وبين قوله: وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ أن كليهما غير مؤمنين إلا أن الأول من قوم عدو محاربين لكم، والثاني من قوم بينكم، وبينهم عهد، فالحافظ ابن كثير نظر إلى اللفظ في قوله: مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ، ووجد أنه يحتمل أن يكون مؤمناً، ويحتمل أن يكون غير مؤمنٍ، فإن كان غير مؤمن فقد سبق النص الذي يفيد أن في أهل الذمة الدية - على خلاف في ذلك - مضافاً إلى ذلك قراءة الحسن - وهي قراءة غير متواترة كما هو معروف - (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وهو مؤمن فدية) من هنا رجح الحافظ أن هذا الحكم الأخير مختص بأهل الإيمان أعني أن فيه الدية، والكفارة.
قال تعالى: وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [سورة النساء:92] يعني أنه في حال كون المقتول غير مؤمن، وهو من قوم بيننا، وبينهم ميثاق فقد دل الشرع على أنهم يعطون الدية أيضاً - كما ثبت عن النبي ﷺ، وفيه الكفارة أيضاً إما بتحرير رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، ومثاله لو أن إنساناً صار له حادث، فصدم شخصاً فاتضح أنه غير مسلم فإنه إضافة إلى الدية يعتق رقبة فإن لم يجد فعليه صيام شهرين متتابعين، ولا ينتقل إلى إطعام ستين مسكيناً كما في كفارة الظهار، ومن المؤسف أننا نسمع أناساً يُسألون عن ديات عليهم، وكفارات قتل فيقولون: سألنا إمام المسجد، أو سألنا فلاناً فقال لنا: أطعم ستين مسكين، وهذه مشكلة - فالله المستعان -.
قوله: "استأنف" يعني وجب عليه أن يبدأ الشهرين من جديد، وكأنه ما صام بعد، وأما الأعذار المبيحة للفطر في رمضان كالحيض، والنفاس، والمرض فهذه لا تقطع التتابع في الصيام.
ومن أهل العلم من ذكر قولاً هو أحوط للذمة في مثل هذا الصيام - من عليه صوم شهرين متتابعين - منهم الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - حيث يقول: إن من عليه صيام شهرين متتابعين فليوقع هذا الصوم في وقت لا ينقطع فيه، يعني لا يكون قطعه بيده هو، أما إذا نزل عليه شيء اضطراراً فليس داخلاً في هذا، لكن أن يبدأ الصيام في شهر ذي القعدة - مثلاً - فهذا سيقطعه عيد الأضحى، وأيام التشريق، ومثله من بدأ الصيام بعد دخول شهر شعبان فإنه سيقطع صيامه رمضان، وعيد الفطر لذلك نقول: صم بعد رمضان، وقبل ذي القعدة أو بعد أيام التشريق فبذلك يمكنك أن تدفع قطعه إلا ما نزل بك من غير قصد، ولا إرادة - والله أعلم -.
وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [سورة النساء:92] قد تقدم تفسيره غير مرة.
- أخرجه البخاري في كتاب الديات - باب قول الله تعالى: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة المائدة:45] (6484) (ج 6 / ص 2521)، ومسلم في كتاب القسامة، والمحاربين، والقصاص، والديات - باب ما يباح به دم المسلم (1676) (ج 3 / ص 1302).
- أخرجه الترمذي في كتاب الحدود – باب ما جاء في حد الساحر (1460) (ج 4 / ص 60)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (2699).
- أخرجه مسلم من حديث أسامة بن زيد في كتاب الإيمان - باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله (96) (ج 1 / ص 96).
- أخرجه أحمد (15781) (ج 3 / ص 451)، والدارمي (2348) (ج 2 / ص 244)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير صحابيه.
- أخرجه البخاري في كتاب المغازي - باب بعث النبي -صلى الله عليه، وسلم- خالد بن الوليد إلى بني جذيمة (4084) (ج 4 / ص 1577).