والآيات، والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جداً، فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء[1].
وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله ﷺ: لا يزال المؤمن معنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً َبلّح[2]."
قوله - عليه الصلاة، والسلام -: معنقاً صالحاً يعني أنه ما لم يصب دماً حراماً فهو مبادر، ومسرع في طاعة الله ، ومنبسط في عمله، ويحتمل أن يكون المراد أنه يسير سيراً صحيحاً في الآخرة في الحساب، وعلى الصراط فهو في عافية الله ، وفي حالة مرْضيَّة ما لم يصب دماً حراماً.
ومعنى بلَّح في قوله - عليه الصلاة، والسلام -: فإذا أصاب دماً حراماً بلّح يقال: بلّح الرجل يعني انقطع سيره من التعب، والإعياء من كثرة المشي، فالبعير مثلاً تجده ينطلق في قطع المسافات، فإذا أصابه الإعياء الشديد انقطع، وهكذا المؤمن لا يزال يسير سيراً في عافية الله فهو يسدد، ويقارب حتى يصل إلى مطلوبه، والنجاة فإذا أصاب دماً حراماً بلّح أي: أقعده هذا الذنب، وقطعه كما قطع التعبُ البعيرَ من السير - نسأل الله العافية -.
قوله: "كان ابن عباس يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمداً" هذا منقول عن جماعة من الصحابة، ومن بعدهم، من الصحابة أبو هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومن التابعين أبو سلمة بن عبد الرحمن، والحسن البصري، وقتادة، والضحاك، وعبيد بن عمير كلهم كانوا يرون أنه لا توبة للقاتل عمداً.
قد يبدأ الإنسان بالإقبال على الله ، وصلاح الحال، والاستقامة، وما إلى ذلك، ثم بعد ذلك - نسأل الله العافية - قد يجره الشيطان إلى أشياء لا تأويل فيها إطلاقاً مع أن مقصوده يكون ما عند الله لكن ما عرف الطريق، لذلك كان الواجب على الإنسان أنه إذا اشتبه عليه أمر تركه، واشتغل بما يعلم، ويتوثق منه، وهذه الشريعة واسعة فهناك عبادات كثيرة جداً يمكن للمرء أن يشتغل بها ليصل بها إلى الجنة إن قام بها لوجه الله ، فينبغي للمسلم أن يعمل الواجبات، ويترك المحرمات، ولو أنه اشتغل بالأيتام بالمسح على آلامهم، ودموعهم، وإطعامهم، وكفالتهم، وكذا الاعتناء بالأرامل، والفقراء عموماً فهذا باب واسع لو استغرق كل جهده فيه لوصل بذلك إلى الجنة فالنبي ﷺ يقول: أنا، وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة، والوسطى، وفرج بينهما شيئاً[5].
ومن الطرق السهلة الموصلة إلى الجنة الدعوة إلى الله، فلو أن المرء اشتغل بدعوة الجاليات من غير المسلمين أو بدعوة المسلمين فهذا باب واسع، وهم بحاجة إلى أقل الجهود، ويصل بإذن الله إلى الجنة.
وهكذا توجد أعمال كثيرة جداً لا شبهة فيها مجمع على أنها من العمل الطيب، والصالح الذي يوصل إلى الله - تبارك، وتعالى -، ويصل به الإنسان إلى أعظم المنازل، فالحاجة، واسعة، وقائمة، ويستطيع الإنسان أن يعمل بما يصل به إلى الجنة، أما أن يدخل في أمور يقول عنها أهل العلم: إنها ضلال، وانحراف لا تجوز بحال من الأحوال فهذا طريق للضياع، والهلاك - نسأل الله العافية -.
فعلى الإنسان أن يفكر، ويُعمل عقله، وينظر فإذا اشتبه عليه شيء تركه، ولا يدخل في شيء إلا وهو، واثق من أنه ينفعه في دنياه، وآخرته، ولا يقول شيئاً إلا وهو قادر على إثباته، وما عدا ذلك فيتركه، وليعلم أن الله - تبارك، وتعالى - قد أسقط عليه الأمور التي يعجز عنها فلا يحاسبه عليها لكن للأسف أن الإنسان هو الذي يضيق على نفسه، وهو الذي يدخل نفسه في أمور لا دخل له فيها، أو يفتي، ويتكلم في أمور ما امتدت الأعناق إليه، وما انتظر الناس كلامه، وما طلبوا فتواه، ولا يعدونه من أهل العلم أصلاً ثم ما تدري بعد مدة إلا وقد انحرف تماماً، وانتكس، وانتقد الدين، ووقع في الدعاة إلى الله، وفي أهل الخير، وجعلهم مادة للسخرية، وهو من قبل كان يحرم كل شيء حتى الملعقة، والشوكة - نسأل الله العافية -، وكم من أناس نعرفهم، ورأيناهم كانوا بهذه الطريقة ثم انحرفوا، فالمقصود أن الإنسان يبقى في ما وسع الله عليه، ويلزم ما يعلم، ويترك ما يلتبس عليه، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه.
فعليك أخي المسلم أن لا تتدخل في دقائق المسائل، ولا تشتغل بها، بل انشغل بما تعرف فتعلم التجويد، والطهارة، والصلاة، وما أشبه ذلك من القضايا التي تحسنها، ومما هي من أساسيات الدين التي تخصك، والزم الجادة، وكن مع أهل العلم الذين تثق بهم، وبدينهم، وبخوفهم من الله - تبارك، وتعالى -، وبعلمهم.
وروى البخاري عن ابن جبير قال: اختلف فيها أهل الكوفة فرحلت إلى ابن عباس فسألته عنها فقال: نزلت هذه الآية: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ [سورة النساء:93] هي آخر ما نزل، وما نسخها شيء، وكذا رواه أيضاً مسلم، والنسائي[6].
والذي عليه الجمهور من سلف الأمة، وخلفها أن القاتل له توبة فيما بينه، وبين ربه فإن تاب، وأناب، وخشع، وخضع، وعمل عملاً صالحاً بدَّل الله سيئاته حسنات، وعوض المقتول من ظلامته، وأرضاه عن طلابته.
قال الله تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [سورة الفرقان:68] إلى قوله: إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا الآية [سورة الفرقان:70]، وهذا خبر لا يجوز نسخه، وحمله على المشركين، وحمل هذه الآية على المؤمنين خلاف الظاهر، ويحتاج حمله إلى دليل - والله أعلم -."
فقوله - تبارك، وتعالى -: فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [سورة النساء:93] فهم منه بعض أهل العلم أن هذا الخلود هو البقاء الأبدي السرمدي، ومثل هذه النصوص لا شك أنها من نصوص الوعيد، ومن أهل العلم من يعرض عن تأويلها؛ ليحصل المقصود من الزجر؛ لئلا يخف أثر ذلك في النفوس، ولكن حينما يشتبه الأمر لاسيما في مقام التعليم، فإنه قد يحتاج إلى بيان ذلك، لمعرفة أصل، وهو أنه ليس شيء من الذنوب خلا الشرك بالله - تبارك، وتعالى - يوجب الخلود في النار، وهذه عقيدة أهل السنة، والجماعة، وبناء عليه قال بعض أهل العلم: إن الخلود في مثل هذه النصوص مقصود به المدد الطويلة، فإن العرب تسمي ذلك خلوداً.
ومن أهل العلم من يقول: هذا جزاؤه إن جازاه الله أي أن هذا ما يستحقه، وإلا فإن الإنسان إذا تاب تاب الله عليه، والشرك أعظم من القتل كما قال تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [سورة النساء:48]، والقتل داخل تحت عموم قوله: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [سورة النساء:48] أي ما دون الإشراك، فقد يغفر الله للعبد ابتداء، وقد يكون ذلك بشفاعة، وقد يكون بحسنات عظيمة، ماحية، وقد يكون بمصائب مكفرة، أو بغير ذلك مما يحصل للإنسان من أسباب تكفير الذنوب، وإن عظُمت، وإن عذب هذا الإنسان فإنه يعذب بقدر جنايته، ثم يخرج من النار كما دلت على ذلك النصوص الأخرى التي تدل على خروج الموحدين من النار - والله تعالى أعلم -.
وقول ابن كثير: "وهذا خبر لا يجوز نسخه" يعني أن النسخ إنما يكون في الإنشاء، أي في الأمر، والنهي فقط، وأما نسخ الأخبار فإن نسخها يعني تكذيبها، فإذا قلت: جاء زيد، ثم قلت: لم يأتِ زيد، فهذا تكذيب للخبر السابق، وهذا بخلاف ما إذا قلت: افعل، ثم قلت: لا تفعل، فهذا ليس تكذيباً، وإنما هو نسخ للأمر، وأما الأخبار التي هي بمعنى الطلب فهي داخلة في الإنشاء، ونسخها لا يعد تكذيباً لها، ومن أمثلة الأخبار التي بمعنى الإنشاء - الأمر أو النهي - قوله تعالى: فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ [سورة البقرة:197] فمعناه لا ترفثوا، ولا تفسقوا، ولا تجادلوا، ومثال ذلك أيضاً قوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [سورة البقرة:233] أي: ليرضعن أولادهن، وهذا أسلوب معروف.
قال الله تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [سورة النساء:48] فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك، وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية، وقبلها لتقوية الرجاء - والله أعلم -.
وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس، ثم سأل عالماً هل لي من توبة؟ فقال:، ومن يحول بينك، وبين التوبة، ثم أرشده إلى بلد يعبد الله فيه، فهاجر إليه، فمات في الطريق، فقبضته ملائكة الرحمة[7] كما ذكرناه غير مرة، وإن كان هذا في بني إسرائيل فلأن يكون في هذه الأمة التوبة مقبولة بطريق الأولى، والأحرى؛ لأن الله وضع عنا الآصار، والأغلال التي كانت عليهم، وبعث نبينا ﷺ بالحنيفية السمحة، فأما الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا الآية [سورة النساء:93] فقد قال أبو هريرة ، وجماعة من السلف: "هذا جزاؤه إن جازاه"، ومعنى هذه الصيغة: أن هذا جزاؤه إن جوزي عليه، وكذا كل وعيد على ذنب لكن قد يكون لذلك معارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه على قول أصحاب الموازنة، والإحباط، وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد - والله أعلم بالصواب -.
وبتقدير دخول القاتل إلى النار، إما على قول ابن عباس - ، وأرضاه -ومن وافقه: أنه لا توبة له، أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالح ينجو به، فليس بمخلد فيها أبداً، بل الخلود هو المكث الطويل، وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله ﷺ: أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى ذرة من إيمان."
- أخرجه البخاري في كتاب الديات (6471) (ج 6 / ص 2517)، ومسلم في كتاب القسامة، والمحاربين، والقصاص، والديات - باب المجازاة بالدماء في الآخرة، وأنها أول ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة (1678) (ج 3 / ص 1304).
- أخرجه أبو داود في كتاب الفتن - باب في تعظيم قتل المؤمن (4272) (ج 4 / ص 167)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7693).
- أخرجه الترمذي في كتاب الديات - باب ما جاء في تشديد قتل المؤمن (1395) (ج 4 / ص 16)، والنسائي في كتاب تحريم الدم - باب تعظيم الدم (3987) (ج 7 / ص 82)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5077).
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة الفرقان (4485) (ج 4 / ص 1784)، ومسلم في كتاب التفسير (3023) (ج 4 / ص 2317).
- أخرجه البخاري في كتاب الطلاق - باب اللعان (4998) (ج 5 / ص 2032).
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة النساء (4314) (ج 4 / ص 1676)، ومسلم في كتاب التفسير (3023) (ج 4 / ص 2317).
- أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء - باب أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ، وَالرَّقِيمِ [(9) سورة الكهف] (3283) (ج 3 / ص 1280)، ومسلم في كتاب التوبة - باب قبول توبة القاتل، وإن كثر قتله (2766) (ج 4 / ص 2118).