الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُوا۟ وَلَا تَقُولُوا۟ لِمَنْ أَلْقَىٰٓ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَٰمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا فَعِندَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوٓا۟ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [سورة النساء:94].
روى الإمام أحمد عن عكرمة عن ابن عباس - ا - قال: مرَّ رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي ﷺ يرعى غنماً له، فسلم عليهم، فقالوا: ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا، فعمدوا إليه فقتلوه، وأتوا بغنمه النبيَّ ﷺ، فنزلت هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إلى آخرها، ورواه الترمذي في التفسير ثم قال: هذا حديث حسن[1].
وفي الباب عن أسامة بن زيد - ا -، ورواه الحاكم، ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وروى البخاري عن ابن عباس - ا -: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا [سورة النساء:94] قال: قال ابن عباس: كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم، فقتلوه، وأخذوا غنيمته، فأنزل الله في ذلك: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا [سورة النساء:94] قال ابن عباس: عرض الدنيا تلك الغُنيمة، وقرأ ابن عباس: السَّلام."

يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ [سورة النساء:94] هذه هي القراءة المشهورة التي عليها عامة القراء، وفي قراءة أخرى متواترة، وهي قراءة حمزة (فتثبَّتوا)، والتبيّن، والتثبت معناهما متقارب، فالتبيُّن يعني التريث، والتمهل من أجل أن يتحقق مما يريد فعله، وهكذا أيضاً معنى التثبت.
وقوله: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا [سورة النساء:94] قراءة عامة المكيين، والمدنيين، والكوفيين (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) [سورة النساء:94]، والسلم يمكن أن يكون بمعنى الاستسلام، ويمكن أن يكون بمعنى ألقى إليكم الإسلام كما يقول ابن جرير - رحمه الله - في تفسير وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ [سورة النساء:94] أي أظهر الاستسلام لتعريفكم أنه مؤمن، وأنه منكم، وكأن ابن جرير بهذا القول جعل الاستسلام، والإسلام متلازمان، أو كأنه أراد أن يجمع بين المعنيين، أي أن قوله: أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلمَ [سورة النساء:94] معناه لم يقاتلكم، وأعلمكم أنه على دينكم.
والسلام هو التحية المعروفة، وهي تحية أهل الإيمان، فإذا قالها فهو يعلمهم بذلك بإسلامه؛ لأنها مستعملة بين المسلمين، وهو يقول لهم: السلام عليكم، ليفهمهم أنه على دينهم، فهذه المعاني متلازمة، فمن قال: إن ذلك يعني الإسلام، ومن قال: إنه الاستسلام، ومن قال: إنها التحية المعروفة، فالمعنى الجامع هو أنه إنما كف عن قتالكم، وألقى إليكم هذه التحية إعلاماً منه بأنه على دينكم، ومثل هذا لا يجوز قتله باعتبار أنه قال ذلك اتقاء للقتل، وتعوذاً، وخوفاً، وإنما يحمل الناس على الظاهر.
"وروى الإمام أحمد - رحمه الله - عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد عن أبيه عبد الله بن أبي حدرد قال: بعثنا رسول الله ﷺ إلى إضم، فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة."

"إضم" هو واد كبير معروف، يشق الحجاز حتى يفرغ في البحر.
"فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعي، ومحلم بن جثامة بن قيس.
محلم بن جثامة بن قيس هو أخو الصعب بن جثامة في قصة الحمار الوحشي.
"حتى إذا كنا ببطن إضم مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قَعود له معه مُتيَّع له، ووطب من لبن."

قوله: "معه مُتيَّع له، ووطب من لبن" يعني معه متاع قليل، وسقاء من لبن.
"فلما مر بنا سلم علينا، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة، فقتله بشيء كان بينه، وبينه، وأخذ بعيره، ومُتيَّعه، فلما قدمنا على رسول الله ﷺ، وأخبرناه الخبر نزل فينا القرآن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ إلى قوله تعالى: خَبِيرًا [سورة النساء:94] تفرد به أحمد."

كم من منافق في هذا العصر يجمع من السيرة أخطاء أصحاب النبي ﷺ في غزواتهم فيروجها في قناة فضائية، أو في كتاب، ولا غرابة في ذلك فهذا هو ديدن المنافقين.
ومن أمثلة تلك الكتابات التي تدل على نفاق أصحابها أن أحد الكتاب كتب: إن أول من فتح باب التكفير هو أبو بكر لما كفر المرتدين، وحاربهم، واستحل دماءهم، وأموالهم، وهذا المثال أيضاً من الأمثلة التي يمكن للمنافقين أن يبرزوها للناس بالطريقة التي تشوه الدين الإسلامي، وحملته، مع أنه لا حجة لهذا القائل بمثل هذه الأمثلة - والله المستعان -.
"وروى البخاري عن ابن عباس - ا - قال: قال رسول الله ﷺ للمقداد: إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار، فأظهر إيمانه، فقتلتَه، فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكة من قبل هكذا ذكر البخاري هذا الحديث معلقاً مختصراً[2]."

قوله تعالى: كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ [سورة النساء:94] يحتمل معنيين: الأول: كذلك كنتم من قبل كفاراً غير مؤمنين، فهداكم الله إلى الإسلام، وهذا المعنى تحتمله الآية، وبه قال جماعة من السلف.
والمعنى الثاني: كذلك كنتم تخفون إسلامكم في قومكم، فمنَّ الله عليكم بإظهار الدين، وإعزازه حتى أظهرتم إسلامكم، وهذا أرجح؛ لأنه لو كان المعنى كنتم كفاراً، فمن الله عليكم بالإسلام فما وجه الإنكار أن يقتلوا ذلك الرجل، بمعنى أنه لو كان معنى الآية كذلك كنتم كفاراً من قبل مثله فمعنى ذلك أنهم قتلوه، وهو كافر، ولا لوم عليهم حينئذ؛ لأنه من المشركين الأعداء، وهم في جهاد، فالقضية ليست كذلك، وإنما القضية أن هذا مؤمن ألقى إليهم السلام، فإذاً كذلك كنتم من قبل مثل هذا تخفون إيمانكم، فهو كان في قومه المشركين يخفي إيمانه، فلما جاء المسلمون اطمأن إليهم، وأنهم لن يتعرضوا إليه، فألقى إليهم السلام، وحصل ما حصل، فعلى هذا يكون المعنى الثاني هو الأرجح، وهو الذي عليه كثير من المحققين منهم ابن جرير - رحمه الله -، - والله أعلم -.
"وقد روي مطولاً موصولاً، فروى الحافظ أبو بكر البزار عن ابن عباس - ا - قال: بعث رسول الله ﷺ سرية فيها المقداد بن الأسود فلما أتوا القوم، وجدوهم قد تفرقوا، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأهوى إليه المقداد فقتله، فقال له رجل من أصحابه: أقتلت رجلاً شهد أن لا إله إلا الله؟ والله لأذكرنَّ ذلك للنبي ﷺ،  فلما قدموا على رسول الله ﷺ قالوا: يا رسول الله إن رجلاً شهد أن لا إله إلا الله، فقتله المقداد، فقال: ادعوا لي المقداد، يا مقداد أقتلت رجلاً يقول: لا إله إلا الله، فكيف لك بلا إله إلا الله غداً؟ قال: فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ [سورة النساء:94] فقال رسول الله ﷺ للمقداد: كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار، فأظهر إيمانه، فقتلتَه، فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكة من قبل[3].
وقوله: فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ [سورة النساء:94] أي خير مما رغبتم فيه من عرض الحياة الدنيا الذي حملكم على قتل مثل هذا الذي ألقى إليكم السلام، وأظهر إليكم الإيمان، فتغافلتم عنه، واتهمتموه بالمصانعة، والتقية، لتبتغوا عرض الحياة الدنيا، فما عند الله من الرزق الحلال خير لكم من مال هذا.
وقوله: كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ أي: قد كنتم من قبل هذه الحال كهذا الذي يُسر إيمانه، ويخفيه من قومه، كما تقدم في الحديث المرفوع آنفاً."

في قوله: فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ على المعنى الذي ذكرنا أنه هو الأرجح في قوله: كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ يكون المعنى هنا: مَنَّ عليكم بإعزاز الدين، وإظهاره، وتحتمل معنىً آخر هو أنه من عليكم بالتوبة، والإيمان - والله أعلم -.
"وكما قال تعالى: وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ الآية [سورة الأنفال:26]، ورواه عبد الرزاق عن سعيد بن جبير في قوله: كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ تستخفون بإيمانكم كما استخفى هذا الراعي بإيمانه.
 وقوله: فَتَبَيَّنُواْ [سورة النساء:94] تأكيد لما تقدم، وقوله: إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [سورة النساء:94] قال سعيد بن جبير: هذا تهديد، ووعيد."
  1. أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ باب تفسير سورة النساء (3030) (ج 5 / ص 240)، وأحمد (2023) (ج 1 / ص 229)، والحاكم (2920) (ج 2 / ص 256)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (3030).
  2. صحيح البخاري تعلقاً في كتاب الديات (ج 6 / ص 2518).
  3. أخرجه الطبراني في الكبير (12409) (ج 12 / ص 30)، والبزار (5127) (ج 2 / ص 196)، وقال: هذا الحديث لا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلا عن ابن عباس، ولا نعلم له طريقاً عن ابن عباس إلا هذا الطريق.

مرات الإستماع: 0

"ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:94] أي سافرتم في الجهاد."

سبيل الله إذا أُطلق في القرآن فالغالب المقصود به الجهاد ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا [النساء:94].

"قوله - تعالى -: فَتَبَيَّنُوا [النساء:94] من البيان، وقُرأ بالثاء المثلثة."

فَتَبَيَّنُوا من التبين بمعنى التأني، والنظر، والكشف عنه حتى يتضح حاله، يعني لا يستعجل بقتله دون أن يتبين حاله.

"وقُرأ بالثاء المثلثةِ من الثبات."

فتثبتوا، فهذه قراءة حمزة، والكسائي[1]: (فتثبتوا) قراءة الجمهور: فَتَبَيَّنُوا فالتبين هنا المقصود به الاستكشاف، ومقتضى ذلك التأني، فتثبتوا، التثبت بمعنى أيضًا التريث، وعدم الاستعجال، والنظر، والكشف عنه حتى يتضح.

"والتفعل فيها بمعنى الاستفعال، أي اطلبوا بيان الأمر، وثبوته."

هذا خلاف العجلة، التثبت إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا كذلك فتثبتوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6] هذا يقتضي ترك العجلة.

"قوله - تعالى -: (أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلمَ) بغير ألف أي انقاد، وألقى بيده، وقُرئ السَّلامَ [النساء:94] بمعنى التحية."

بمعنى التحية، القراءة: (أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلمَ) هذه قراءة نافع التي جرى عليها المؤلف، وكذلك قراءة ابن عامر، وحمزة (السَّلمَ) خلاف قراءة الجمهور.

يقول: "أي انقاد، وألقى بيده" يعني من الاستسلام، (لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلمَ) يعني استسلم، "وقُرئ السَّلامَ بمعنى التحية" يعني ألقى السلام إليهم، فمثلُ هذا لا ينبغي أن يُبادر بالقتل بحجة أنه إنما ألقى السلام تقيةً من أجل أن يُحرز دمه، وماله.

"ونزلت في سريةٍ لقيت رجلًا فسلم عليهم، وقال: لا إله إلّا الله محمدٌ رسول الله، فحمل عليه أحدهم فقتله، فشق ذلك على رسول الله ﷺ وكان القاتل مُحلِّم بن جثَّامة، والمقتول عامر بن الأضبط."

جاء عن ابن عباس - ا -: كان رجلٌ في غُنيمة له، فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم، فقتلوه، وأخذوا غُنيمته، فأنزل الله هذه الآية إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا [النساء:94][2].

وهنا يقول: "فحمل عليه أحدهم فقتله" جاء عن عبد الله بن أبي حدرد قال: «بعثنا رسول الله ﷺ إلى إضم، فخرجت في نفرٍ من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعي، ومُحلِّم بن جثَّامة بن قيس، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعودٍ له، معه متيعٌ، ووطبٌ - يعني سقاء - من لبن، فلمّا مرَّ بنا سلَّم علينا فأمسكنا عنه، وحمل عليه مُحلِّم بن جثَّامة فقتله بشيءٍ كان بينه، وبينه - يعني عداوة سابقة - وأخذ بعيره، ومُتيعه، فلمّا قدمنا على رسول الله ﷺ وأخبرناه الخبر نزل فينا القرآن يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:94][3]

فهذا صريح في سبب النزول، وهي رواية صحيحة، فحديث ابن عباس - ا - أنها في الرجل الذي كان له غُنيمة فقتلوه، وهنا حديث عبد الله بن أبي حدرد في خصوص هذا الذي قتله مُحلِّم بن جثَّامة، وهو عامر بن الأضبط الأشجعي، يحتمل أن يكون الرجل واحد ًا، وإن اختلفت التفاصيل في خبره، يعني معه غُنيمة، أو معه جمل، ومعه مُتيع، وسقاء، قد يكون معه غنم، ولم يُذكر، لكن كان يركب هذا الجمل، ومعه هذا السقاء، ويصحبه غُنيمة، أو يسوق غُنيمة، قد يكون واحد ًا، وقد تكون الواقعة مختلفة، فإن كانت مختلفة فإن كان الزمان متقاربًا فتكون الآية نزلت بعد الواقعتين، وإن كان الزمان متباعدًا تكون الآية نزلت مرتين، والعلم عند الله وفي مثل هذا عبرة، يعني بهذه الرواية هذا رجل سلَّم يقول: فأمسكنا عنه، حمل عليه مُحلِّم بن جثَّامة فقتله بشيءٍ كان بينه، وبينه.

فهذا يدل على أن الجهاد لا يخلو من، وقوع مثل هذه الأمور، والتجاوزات، حتى في زمن النبي ﷺ وأصحابه يقع مثل هذا، والنبي ﷺ قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد[4].

وكذلك ما وقع لأسامة بن زيد  أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟[5] وكان يعتقد أنه قال ذلك تقيةً، اتقاءً للقتل، فهذا لا يخلو، لكن المشكلة حينما يكون هذا هو الأصل، وهذا هو المنهج المتبع الذي يُقال أنه دين الله : قتل المسلمين، والتقرب إلى الله بهذا، فهذا دين الخوارج، هذا الفرق، يعني قد يقع في الجهاد - وذكر هذا شيخ الإسلام رحمه الله - الجهاد يقع فيه مثل هذه الأمور، ويصعب ضبط مثل هذه القضايا، والتجاوزات، هي تقع في كل زمان أن يعمد أحد الأفراد، أو نحو ذلك لقتل من لا يستحق القتل، ووجد النبي ﷺ امرأةً مقتولة، وقال: ما كانت هذه لتقاتل[6].

لكن أن يكون هذا هو الدين قتل المسلمين بحجج أنهم مرتدون، أو أنهم في المستقبل مشروع لكذا، في المستقبل لم يحدث بعد، فيُستحل قتلهم، ويُتقرب به إلى الله، فهذا لا يُعرف عن طائفة من الطوائف إلا الخوارج، وكما ذكرت لكم في بعض المناسبات من أن ما يُقال: من أن الخوارج يكفِّرون صاحب الكبيرة، هذا ليس محل اتفاق عند الخوارج، فهم لهم تفاصيل في هذا، وبعضهم يكفر حتى في الصغائر، فهم أصحاب أهواء لا يضبطهم ضابط، ولا يدورون على أصلٍ واحد لكل شيء، وإنما هم طوائف يختلفون على أدنى الأشياء، وأحسن ما يُقال عنهم: أنهم طوائف فوضوية يختلفون كثيرًا، ويكفِّرون من خالفهم، أما هكذا قول بإطلاق بأن الخوارج يكفِّرون صاحب الكبيرة فهذا ليس على إطلاقه، ليس كل الخوارج يقول بهذا، وذكرت من أقوالهم في الكلام على العبر من التاريخ، ذكرت من أقوالهم أشياء من مذاهبهم ما يدل على خلاف هذا المعنى السائد، وهذا مذكور في كتب الملل، والنحل في الفِرَق، الذين يذكرون مذهب الخوارج يذكرون عن بعضهم مثل هذا، بل بعضهم ينص على الأصول التي يقررها لأتباعه، ويذكر التشديد فيها، ومنها قتل المسلمين، لكن المشكلة ليست في هذا، المشكلة أن من هم المسلمون عندهم؟ المسلمون هم طائفته، وبقية الناس من أهل الإسلام هؤلاء كفار تحل دماءهم، وأموالهم، ولذلك الكلام الذي يردده الخطباء في مثل هذه النصوص وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا [النساء:93] هذه لا تجدي مع هؤلاء؛ لأنهم يقولون: نحن لا نقتل أهل الإيمان، نحن نقتل الكفار، فلهذا تحتاج أن تبين له أن هؤلاء ليسوا بكفار أصلًا قبل أن تسوق لهم نصوصًا في وعيد من قتل مؤمنًا، هو يتقرب إلى الله بهذا القتل.

"وقيل: القاتل أسامة بن زيد، والمقتول مرداس بن نهيك."

على كل حال هو لا فائدة من تحديد الاسم، وقد جاء في روايةٍ أخرى غير ما ذُكر، لكن يكفي أن يُعرف إجمالًا سبب النزول، وأما اسم من وقع منه ذلك، أو وقع عليه فهذا لا يترتب عليه هنا فائدة - والله أعلم -.

"قوله - تعالى -: تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [النساء:94] يعني الغُنيمة، وكان للرجل المقتول غنم."

يعني الغُنيمة كما جاء عن ابن عباس - ا - أو المال - عرض الدنيا - الغُنيمة، أو المال، ويطلق العرض على المتاع، والحطام، لهذا هنا لماذا قلنا: الغُنيمة، وليست الغَنيمة؟ قال: "وكان للرجل المقتول غنم" إذًا هي الغُنيمة.

"قوله - تعالى -: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ [النساء:94] وعدٌ، وتزهيدٌ في غنيمة من أظهر الإسلام."

قوله - تعالى -: كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ [النساء:94] قيل: معناه كنتم كفارًا فهداكم الله للإسلام، وقيل: كنتم تُخْفون إيمانكم من قومكم فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [النساء:94] بالعزة، والنصر حتى أظهرتموه.

وهذا المعنى الثاني: إن كنتم تخفون ذلك جاء عن سعيد بن جُبير، واختاره ابن جرير[7] وابن كثير[8] أن المعنى كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ يعني: تخفون إسلامكم خوفًا من المشركين، فقد يكون في هؤلاء من يخفي إسلامه، فإذا لقي أهل الإيمان سلَّم عليهم، أو قال: لا إله إلا الله مظهرًا إيمانه لهم الذي يخفيه عن قومه.

كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [النساء:94] بالعزة، والنصر حتى أظهرتموه" فهذان معنيان: الأول: كنتم كفارًا فهداكم الله للإسلام، لكن أيهما أليق بالسياق؟ الثاني كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ يعني: كنتم كفارًا فهداكم للإسلام ما علاقته؟ هنا نهي عن قتل من أظهر الإسلام، إنما كنتم تخفون إسلامكم خوفًا من قومكم.

  1.  تفسير الطبري (9/81).
  2.  أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا [النساء:94] رقم: (4591).
  3.  أخرجه أحمد (39/310)، رقم: (23881).
  4.  أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب بعث النبي ﷺ خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، رقم: (4339).
  5.  أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب بعث النبي ﷺ أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة، رقم: (4269)، مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله، رقم: (96).
  6.  أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في قتل النساء، رقم: (2669).
  7.  تفسير الطبري (9/83).
  8.  تفسير ابن كثير (2/384).