روى الإمام أحمد عن عكرمة عن ابن عباس - ا - قال: مرَّ رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي ﷺ يرعى غنماً له، فسلم عليهم، فقالوا: ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا، فعمدوا إليه فقتلوه، وأتوا بغنمه النبيَّ ﷺ، فنزلت هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إلى آخرها، ورواه الترمذي في التفسير ثم قال: هذا حديث حسن[1].
وفي الباب عن أسامة بن زيد - ا -، ورواه الحاكم، ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وروى البخاري عن ابن عباس - ا -: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا [سورة النساء:94] قال: قال ابن عباس: كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم، فقتلوه، وأخذوا غنيمته، فأنزل الله في ذلك: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا [سورة النساء:94] قال ابن عباس: عرض الدنيا تلك الغُنيمة، وقرأ ابن عباس: السَّلام."
يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ [سورة النساء:94] هذه هي القراءة المشهورة التي عليها عامة القراء، وفي قراءة أخرى متواترة، وهي قراءة حمزة (فتثبَّتوا)، والتبيّن، والتثبت معناهما متقارب، فالتبيُّن يعني التريث، والتمهل من أجل أن يتحقق مما يريد فعله، وهكذا أيضاً معنى التثبت.
وقوله: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا [سورة النساء:94] قراءة عامة المكيين، والمدنيين، والكوفيين (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) [سورة النساء:94]، والسلم يمكن أن يكون بمعنى الاستسلام، ويمكن أن يكون بمعنى ألقى إليكم الإسلام كما يقول ابن جرير - رحمه الله - في تفسير وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ [سورة النساء:94] أي أظهر الاستسلام لتعريفكم أنه مؤمن، وأنه منكم، وكأن ابن جرير بهذا القول جعل الاستسلام، والإسلام متلازمان، أو كأنه أراد أن يجمع بين المعنيين، أي أن قوله: أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلمَ [سورة النساء:94] معناه لم يقاتلكم، وأعلمكم أنه على دينكم.
والسلام هو التحية المعروفة، وهي تحية أهل الإيمان، فإذا قالها فهو يعلمهم بذلك بإسلامه؛ لأنها مستعملة بين المسلمين، وهو يقول لهم: السلام عليكم، ليفهمهم أنه على دينهم، فهذه المعاني متلازمة، فمن قال: إن ذلك يعني الإسلام، ومن قال: إنه الاستسلام، ومن قال: إنها التحية المعروفة، فالمعنى الجامع هو أنه إنما كف عن قتالكم، وألقى إليكم هذه التحية إعلاماً منه بأنه على دينكم، ومثل هذا لا يجوز قتله باعتبار أنه قال ذلك اتقاء للقتل، وتعوذاً، وخوفاً، وإنما يحمل الناس على الظاهر.
"إضم" هو واد كبير معروف، يشق الحجاز حتى يفرغ في البحر.
قوله: "معه مُتيَّع له، ووطب من لبن" يعني معه متاع قليل، وسقاء من لبن.
كم من منافق في هذا العصر يجمع من السيرة أخطاء أصحاب النبي ﷺ في غزواتهم فيروجها في قناة فضائية، أو في كتاب، ولا غرابة في ذلك فهذا هو ديدن المنافقين.
ومن أمثلة تلك الكتابات التي تدل على نفاق أصحابها أن أحد الكتاب كتب: إن أول من فتح باب التكفير هو أبو بكر لما كفر المرتدين، وحاربهم، واستحل دماءهم، وأموالهم، وهذا المثال أيضاً من الأمثلة التي يمكن للمنافقين أن يبرزوها للناس بالطريقة التي تشوه الدين الإسلامي، وحملته، مع أنه لا حجة لهذا القائل بمثل هذه الأمثلة - والله المستعان -.
قوله تعالى: كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ [سورة النساء:94] يحتمل معنيين: الأول: كذلك كنتم من قبل كفاراً غير مؤمنين، فهداكم الله إلى الإسلام، وهذا المعنى تحتمله الآية، وبه قال جماعة من السلف.
والمعنى الثاني: كذلك كنتم تخفون إسلامكم في قومكم، فمنَّ الله عليكم بإظهار الدين، وإعزازه حتى أظهرتم إسلامكم، وهذا أرجح؛ لأنه لو كان المعنى كنتم كفاراً، فمن الله عليكم بالإسلام فما وجه الإنكار أن يقتلوا ذلك الرجل، بمعنى أنه لو كان معنى الآية كذلك كنتم كفاراً من قبل مثله فمعنى ذلك أنهم قتلوه، وهو كافر، ولا لوم عليهم حينئذ؛ لأنه من المشركين الأعداء، وهم في جهاد، فالقضية ليست كذلك، وإنما القضية أن هذا مؤمن ألقى إليهم السلام، فإذاً كذلك كنتم من قبل مثل هذا تخفون إيمانكم، فهو كان في قومه المشركين يخفي إيمانه، فلما جاء المسلمون اطمأن إليهم، وأنهم لن يتعرضوا إليه، فألقى إليهم السلام، وحصل ما حصل، فعلى هذا يكون المعنى الثاني هو الأرجح، وهو الذي عليه كثير من المحققين منهم ابن جرير - رحمه الله -، - والله أعلم -.
وقوله: فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ [سورة النساء:94] أي خير مما رغبتم فيه من عرض الحياة الدنيا الذي حملكم على قتل مثل هذا الذي ألقى إليكم السلام، وأظهر إليكم الإيمان، فتغافلتم عنه، واتهمتموه بالمصانعة، والتقية، لتبتغوا عرض الحياة الدنيا، فما عند الله من الرزق الحلال خير لكم من مال هذا.
وقوله: كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ أي: قد كنتم من قبل هذه الحال كهذا الذي يُسر إيمانه، ويخفيه من قومه، كما تقدم في الحديث المرفوع آنفاً."
في قوله: فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ على المعنى الذي ذكرنا أنه هو الأرجح في قوله: كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ يكون المعنى هنا: مَنَّ عليكم بإعزاز الدين، وإظهاره، وتحتمل معنىً آخر هو أنه من عليكم بالتوبة، والإيمان - والله أعلم -.
وقوله: فَتَبَيَّنُواْ [سورة النساء:94] تأكيد لما تقدم، وقوله: إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [سورة النساء:94] قال سعيد بن جبير: هذا تهديد، ووعيد."
- أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ باب تفسير سورة النساء (3030) (ج 5 / ص 240)، وأحمد (2023) (ج 1 / ص 229)، والحاكم (2920) (ج 2 / ص 256)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (3030).
- صحيح البخاري تعلقاً في كتاب الديات (ج 6 / ص 2518).
- أخرجه الطبراني في الكبير (12409) (ج 12 / ص 30)، والبزار (5127) (ج 2 / ص 196)، وقال: هذا الحديث لا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلا عن ابن عباس، ولا نعلم له طريقاً عن ابن عباس إلا هذا الطريق.