"لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:95] الآية: معناها تفضيل المجاهدين على من لم يجاهد، وهم القاعدون."
تفضيل المجاهد على من لم يجاهد، والآية صريحةٌ في هذا، هنا رواية في هذا الباب، الحديث المشهور عن أبي هريرة : من آمن بالله، ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان كان حقًا على الله أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي ولد فيها، قالوا: يا رسول الله، أفلا ننبأ الناس بذلك؟ قال: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء، والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة فهذا صريح في بيان هذا التفاضل.
"قوله - تعالى -: غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ [النساء:95] لمّا نزلت الآية: قام ابن أم مكتوم الأعمى، فقال: يا رسول الله، هل من رخصةٍ فإني ضريرُ البصر؟ فنزل: غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ [النساء:95]."
في سبب نزولها هذا الاحتراز لما جاء في حديث سهل بن سعد الساعدي أنه قال: رأيت مروان بن الحكم جالسًا في المسجد، فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول الله ﷺ أملى عليه لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:95] قال: فجاءه ابن أم مكتوم، وهو يُملُّها - يعني يمليها - وهو يُملُّها عليّ، فقال: يا رسول الله، لو أستطيع الجهاد لجاهدتُ، وكان رجلًا أعمى، فأنزل الله - تبارك، وتعالى - على رسوله ﷺ وفخذه على فخذي، فثقُلت عليّ حتى خفت أن تُرضَّ فخذي - يعني لمّا نزل الوحي كان ذلك شديدًا، وثقيلًا - يقول: ثم سُري عنه فأنزل الله غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ [النساء:95]» هذا مُخرَّج في الصحيح.
وفي رواية عن البراء قال: «لمّا نزلت لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:95] قال النبي ﷺ: ادعُ لي فلانًا فجاءه، ومعه الدواة، واللوح، أو الكتف - يعني ليكتب - فقال: اكتب لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ [النساء:95] وخلف النبي ﷺ ابن أم مكتوم، فقال: يا رسول الله، أنا ضرير، فنزلت مكانها لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:95]» فهذا سبب النزول.
يعني من به علة تمنعه من الجهاد فقد يُبلَّغ منازل المجاهدين إذا كان له في ذلك نية، وبالمناسبة ابن عباس - ا - ورد عنه أنه نسختها التي بعدها يعني غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ [النساء:95] وهذا صريح بأنهم يقصدون بالنسخ ما يعرض للنص من تقييدٍ، أو بيانٍ للمجمل، أو تخصيص للعام، ونحو ذلك؛ لأن هذا ليس من قبيل الرفع قطعًا.
يقول: "وقُرئ غير بالحركات الثلاث" قُرئ بالحركات الثلاث قراءة نافع التي جرى عليها المؤلف ابن عامر الكسائي (غَيْرَ أُوْلِي الضَّرَرِ)، والقراءة الأخرى - قراءة الجمهور - بالضم غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وأما بالكسر (غَيْرِ أُوْلِي الضَّرَرِ) فليست من القراءات المتواترة.
"قال: وقرئ غير بالحركات الثلاث، بالرفع صفةٌ للقاعدين [وفي النسخ الخطية: فالرفعُ صفةٌ للقاعدين]."
صفة، أو بدل، يعني لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ فيكون صفةً للقاعدين، أو بدلًا منه.
"قال: وبالنصب على الاستثناء."
على الاستثناء من القاعدين لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ لأنهم هم المُحدث عنهم، فيكون استثناءً منه.
"[وفي النسخ الخطية: والنصب على الاستثناء، أو الحال]."
على كل حال، والنصب، وبالنصب كل هذا لا إشكال فيه، أو الحال أيضًا من القاعدين، حال من القاعدين، حال منه، وجاز وقوع غير حالًا، وإن كانت مضافة؛ لأنها نكرةٌ لا تتعرف بالإضافة غَيْرُ هي ملازمة للإضافة، لكنّها لا تتعرف بها (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُوْلِي الضَّرَرِ).
"وبالخفض صفةٌ للمؤمنين. "
(لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرِ أُوْلِي الضَّرَرِ).
"قوله - تعالى -: دَرَجَةً قيل: هي تفضيلٌ على القاعدين من أهل العذر، والدرجات على القاعدين بغير عذر، وقيل: إنّ الدرجات مبالغةٌ، وتأكيد الدرجة."
الدرجة هنا، الله يقول: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً فهذا تفضيل للمجاهدين على القاعدين، واستُثني من القاعدين من ذُكر أُوْلِي الضَّرَرِ فهؤلاء مستثنون فهم يُبلغون للعذر إذا كانت لهم نية، يعني يتمنون الجهاد، ولكنهم يعجزون عنه.
هنا يقول: "من أهل العذر، والدرجات على القاعدين بغير عذر" الآية في المجاهدين، وليست في القاعدين، لكن القاعدين استثناهم الله فيُلحقون بالمجاهدين بخلاف من قعد بلا عذر.
يقول: "وقيل: إن الدرجات مبالغة، وتأكيد الدرجة" يعني في قوله - تبارك، وتعالى -: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً فهنا الدرجة مع قوله: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ [النساء:95 - 96] يعني كأنه، أو أن بعضهم يقول: كأنه هو الذي جرى عليه، أو قال: قيل: هي تفضيل القاعدين، يعني إن الأولى دَرَجَةً هي بين القاعدين لعذر، والقاعدين لغير عذر، والدرجات بين المجاهدين، والقاعدين، لكن الظاهر - والله تعالى أعلم - أن ذلك واحد، فالدرجة جنس تشمل القليل، والكثير، وذكر بعده الدرجات فكأنه تأكيدٌ، وتفسيرٌ له، فهذه الدرجات بين المجاهدين، والقاعدين من غير أهل الأعذار.
الله يقول: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً فكيف يُقال هذا التفضيل للقاعدين لعذر على القاعدين لغير عذر؟ فالله يذكر المجاهدين، فكل ذلك واحد أعني أنه في المجاهدين، فالدرجة مُفسرة بالدرجات، والحديث بيَّن هذا إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء، والأرض.
فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ فأل هنا للعهد الذكري مذكور قبله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً فهنا عَلَى الْقَاعِدِينَ مذكورين في قوله: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فهنا نفي الاستواء بين المجاهدين، والقاعدين، ومن هنا قال ابن أم مكتوم : أنه من ذوي الأعذار، فجاء هذا الاحتراز غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ فالآية في أولها، وآخرها، ووسطها هو في المفاضلة بين المجاهدين، والقاعدين، فلا يُقال: إن ذلك في خصوص القاعدين لعذر لمجرد أنه ذكرت الدرجة مفردة، فالدرجة جنس فتشمل القليل، والكثير، وجاءت مُفسرةً مؤكدةً بعد ذلك دَرَجَاتٍ مِنْهُ - والله أعلم -.
قوله - تعالى -: أَجْرًا منصوبٌ على الحال من درجات، أو المصدرية [وفي النسخ الخطية: ..
هكذا عندكم في النسخ؟ أو على المصدرية من معنى فَضَّلَ.
"أو على المصدرية من معنى فَضَّلَ]."
لا إشكال، ما يتغير المعنى بهذا الاعتبار، ولكن القول بأن أَجْرًا منصوب على الحال من درجات هكذا كيف؟، أو المصدرية من معنى فَضَّلَ يعني أنه يكون مصدرًا من غير لفظه.