الإثنين 07 / ذو القعدة / 1446 - 05 / مايو 2025
إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِىٓ أَنفُسِهِمْ قَالُوا۟ فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا۟ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى ٱلْأَرْضِ ۚ قَالُوٓا۟ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةً فَتُهَاجِرُوا۟ فِيهَا ۚ فَأُو۟لَٰٓئِكَ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَآءَتْ مَصِيرًا

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا ۝ إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ۝ فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ۝ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [سورة النساء:97-100].
روى البخاري عن محمد بن عبد الرحمن أبي الأسود قال: قطع على أهل المدينة بعثٌ، فاكتتبت فيه، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس - ا - فأخبرته، فنهاني عن ذلك أشد النهي، ثم قال: أخبرني ابن عباس أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثِّرون سواد المشركين على رسول الله ﷺ، يأتي السهم فيرمى به، فيصيب أحدهم، فيقتله، أو يضرب عنقه فيقتل فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ [سورة النساء:97].
وقال الضحاك: نزلت في ناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله ﷺ بمكة، وخرجوا مع المشركين يوم بدر، فأصيبوا فيمن أصيب، فنزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص هذه الآية حيث يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ [سورة النساء:97] أي: بترك الهجرة."

فقوله: تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ [سورة النساء:97] يعني بنزع أرواحهم، ولا يلزم أن يقول: توفتهم؛ لأن الملائكة ليس مؤنثاً حقيقياً، وبناء عليه يصح أن يأتي الفعل قبله من غير إشعار بالتأنيث.
ولفظ "توفاهم" يحتمل أن يكون فعلاً ماضياً بمعنى إن الذين توفتهم الملائكة، كما تقول: توفاه الله، يعني في الزمن الماضي.
والمعنى الثاني - وهو المتبادر - أن قوله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ [سورة النساء:97] يعني في المستقبل، والمعنى تتوفاهم الملائكة في حال كونهم ظالمين لأنفسهم، وهذا الظلم هو الذي تبينه رواية البخاري هنا: أن هؤلاء خرجوا مع المشركين في يوم بدر، فقتلوا حيث كانوا ممن دخل في الإسلام، لكنه لم يهاجر.
وعلى الرواية الثانية التي ذكرها عن الضحاك أنها نزلت في أناس من المنافقين، يقال: ما ذكرنا سابقاً أنه لا يوجد في مكة نفاق، فعلى كل حال هذه الآية - والله تعالى أعلم - هي فيمن بقي بين ظهراني المشركين مع قدرته على الانتقال، والهجرة في حال كونه مستضعفاً لا يستطيع إقامة دينه، فربما حمله المشركون على الخروج معهم ليتقووا به، ولتكثير سوادهم كأولئك الذين أخرجهم المشركون يوم بدر؛ حيث أخرجوهم، فقتل بعضهم في تلك الغزوة كما هو معروف، وأسماؤهم موجودة - ذكرها ابن هشام، وغيره في السيرة - فأنزل الله فيهم هذه الآيات - والله أعلم -.
"قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ [سورة النساء:97] أي: لِمَ مكثتم هاهنا، وتركتم الهجرة؟ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ [سورة النساء:97] أي: لا نقدر على الخروج من البلد، ولا الذهاب في الأرض قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً الآية [سورة النساء:97].
وروى أبو داود عن سمرة بن جندب : أما بعد، قال رسول الله ﷺ : من جامع المشرك، وسكن معه فإنه مثله[1]
.
هذا الحديث ثابت صحيح، وهو من الأحاديث التي تتوعد المتشبهين بالكفار، والمحاكين لهم، والذين يوالونهم، فإن من أنواع الولاية للمشركين أن يساكنهم، وأن يجامعهم اختياراً، ولا يجوز مساكنة المشركين، ولا أن يسكن في ديارهم مختاراً لكن قد يحصل ذلك إما اضطراراً، وإما لمصلحة للمسلمين - لا لمصلحة شخصية - فاضطراراً كأن لا يجد مكاناً في بلاد المسلمين يذهب إليه فيُضطر، وأصحاب النبي ﷺ هاجروا من مكة إلى الحبشة مع أن مكة أحب البقاع إلى الله لكن هاجروا منها إلى الحبشة، وهي بلاد للنصارى اضطراراً، فالإنسان يهاجر إلى الأرض التي يأمن فيها، ويستطيع أن يقيم دينه، فإذا كان الإنسان في أرض، وإن كان أهلها من المسلمين، لكنه لا يستطيع أن يقيم دينه، فإنه ينتقل إلى حيث يأمن؛ فالمقصود أن الإنسان المضطر يجوز له ذلك.
والحالة الأخرى هي أن يكون ذلك لمصلحة للمسلمين كالذي يقوم بأعمال تتصل بهم، وما أشبه ذلك من الوظائف التي يحتاج إليها الناس في علاقاتهم، وارتباطاتهم، وما أشبه هذا، فهذا لا إشكال فيه، لكن بالشروط المعروفة، ومنها أن يكون قادراً على إظهار دينه.
وأما أن يسكن في بلاد المشركين لغير مصلحة المسلمين مثل أن يسكن في بلادهم من أجل تحسين الوضع المادي بالنسبة إليه - فرص عمل كما يقولون - أي أن المرتبات عالية، أو لوجود بيئة علمية مهيأة من مختبرات، ونحوها فينتقل، ويعمل هناك، فيتقوى به الكفار، وتقوم عليه، وعلى أمثاله حضارتهم، وقوتهم، فهذا لا يجوز، والجوع يُطرد بكسرة خبز، أما أن يوظف الإنسان علمه، وعقله، ومهارته من أجل خدمة أعداء الله فهذا من موالاتهم، ولا عذر له لكونه يبحث عن بيئة علمية، أو غير ذلك.
وأما من ذهب إلى الدراسة، فينظر في هذه الدراسة إن كانت لا توجد في بلاد المسلمين فلا بأس، وأما ما يجد فيه مندوحة في بلاد المسلمين فلا يذهب؛ لأنه يُفتن من حيث شعر، أو لم يشعر، فهو يفتن بالشهوات - ولم يصدُق من قال: إنه لا يتأثر - كيف، وهو يرى أموراً تشيب لها المفارق، ولا تقوم لها الجبال، وكل إنسان يعرف نفسه، ولو حاول أن يظهر خلاف ذلك أمام الناس، وأنه لا يتأثر، وأنه لا يكترث، فليس بصحيح أنه لا يكترث إلا أن يكون عنده علة فهذا شأن آخر.
والنوع الآخر من الفتن هي فتنة الشبهات، وهي نوعان: نوع ظاهر يدركه الإنسان، ونوع لا يدركه، وذلك بما يحصل له من ألوان التأثير غير المباشر، فيرجع منبهراً، ويرجع، وقد تغيرت كثير من الأمور التي ينظر إليها، وينظر إلى هذا التأثير أنه من قبيل سعة الأفق، بل يرجع وهو يثني عليهم، وعلى حضارتهم، ويثني على أخلاقهم، وعلى كل ما رأى منهم، ثم بعد ذلك يبدأ عنده ذوبان في الولاء، والبراء، ويتحدث أن هؤلاء لا يخلون من جوانب جيدة، وطيبة، وخيرة، ويبدأ يتكلم على الطرف الآخر، والسماع من الآخر، والتواصل مع الآخر، فالمقصود أنه يبتلى، وهذا الابتلاء يجده الناظر في كثير ممن يذهب إليهم، فإن كان متديناً فهو يرجع، ونزعة الولاء، والبراء عنده قد ضعفت، وأما من كان غير متدين - فالله المستعان -.
  1. أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد - باب في الإقامة بأرض الشرك (2789) (ج 3 / ص48)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2330).

مرات الإستماع: 0

"إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [النساء:97] الآية نزلت في قوم أسلموا بمكة، ولم يهاجروا، فلمّا كان يوم بدرٍ خرجوا مع الكفار فقُتلوا منهم: قيس بن الفاكه، والحارث بن زمعة، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف."

جاء في الصحيح عن ابن عباس - ا - أن أناسًا من المسلمين كانوا مع المشركين يُكثِّرون سواد المشركين على رسول الله ﷺ فيأتي السهم يُرمى به، فيصيب أحدهم، فيقتله، أو يُضرب فيُقتل، فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ [النساء:97][1].

هذا سبب النزول، يكونون في صف المشركين يُكثِّرون السواد، فيُقتلون في صفهم.

"ويحتمل أن يكون تَوَفَّاهُمُ [النساء:97] ماضيًا، أو مضارعا."

يعني: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ يعني: في الماضي، تقول: توفاه الله تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ فيما مضى، وإذا كان مضارعًا تَوَفَّاهُمُ بمعنى تتوفاهم الملائكة، والآية تحتمل هذا، والمتبادر تَوَفَّاهُمُ أنها مضارع، أي تتوفاهم، وليست تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ في الماضي.

"وانتصب ظَالِمِي على الحال."

يعني حال كونهم بهذا المثابة ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ.

"قوله - تعالى -: قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ أي في أي شيءٍ كنتم من أمر دينكم قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ اعتذارٌ عن التوبيخ الذي، وبَّخهم به الملائكة: أي لا نقدر على الهجرة [وفي النسخ الخطية: أي لم نقدر على الهجرة] وكان اعتذارًا بالباطل قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً [النساء:97] ردٌ عليهم، وتكذيبٌ لهم في اعتذارهم."

طبعًا هذا - كما سيأتي في الاستثناء - فيمن كان يستطيع الهجرة.

  1. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا الآية، رقم: (4596).