رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [سورة غافر:15-17].
يقول تعالى مخبرًا عن عظمته وكبريائه وارتفاع عرشه العظيم العالي على جميع مخلوقاته كالسقف لها، كما قال تعالى: مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [سورة المعارج:3-4]، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - بيان أن هذه مسافة ما بين العرش إلى الأرض السابعة في قول جماعة من السلف والخلف وهو الأرجح إن شاء الله، وقد ذكر غير واحد أن العرش من ياقوتة حمراء اتساع ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة، وارتفاعه عن الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة.
يأتي الكلام على هذا - إن شاء الله - والروايات الواردة فيه وما قيل فيها، لكن قول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تفسير قوله: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ هل هذا يعود إلى الله ، أو يعود إلى غيره؟ كلام الحافظ ابن كثير هو ظاهر القرآن، رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ يقول تعالى مخبرًا عن عظمته وكبريائه وارتفاع عرشه العظيم العالي على جميع مخلوقاته كالسقف لها، وذلك على ظاهره رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ أن ذلك يعود إلى الله - تبارك وتعالى -، فهو عال على خلقه، مستو على عرشه، استواء يليق بجلاله وعظمته، وقد جاء عن السلف أقاويل أخرى وليست من التأويل واللفظ يحتملها، فإن الله - تبارك وتعالى - هنا قال: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فبعضهم يقول: إن المقصود بـ "رفيع الدرجات" أي: رفيع الصفات، ولا شك أن العلو صفة لله - تبارك وتعالى - والاستواء كذلك، فالله - تبارك وتعالى - له علو الذات وعلو القدر وعلو القهر، كل ذلك ثابت لله - تبارك وتعالى -، رفيع الدرجات يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده، بعضهم يقول: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ يعني رفيع درجات الملائكة، الروح هو الوحي، فرفيع درجات الملائكة يعني معارج الملائكة، فسروه بقوله - تبارك وتعالى -: مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وهنا بعضهم فسره بهذا يعني معارج درجة الملائكة ومعارج الملائكة، وبعضهم فسره بدرجات الأنبياء وأهل الإيمان والأولياء في الجنة، رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ يعني أن عنده درجات عالية، الملائكة لهم درجات، والأنبياء لهم درجات، وأهل الإيمان لهم درجات، وكلٌّ بحسبه، وهكذا فُسر أيضًا كما جاء عن سعيد بن جبير - رحمه الله - رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ يعني أن الله - تبارك وتعالى - رفع السماوات السبع، وهنا يكون رفيع بمعنى رافع، فعيل بمعنى فاعل، والأظهر - والله أعلم - هو ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله.
هنا قوله - تبارك وتعالى -: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أي من قضائه على من يشاء من عباده، وقوله -تبارك وتعالى-: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ "من" هذه تحتمل أن تكون متعلقة بيلقي يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ فتكون لابتداء الغاية، يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ يعني مبتدَأً من أمره، ويحتمل أن تكون متعلقة بمحذوف على أنه حال من الروح، أي يلقي الروح كائنة مثلًا من أمره ونحو ذلك، والروح قيل: هو جبريل ، والله - تبارك وتعالى - وصف جبريل ﷺ وسماه روحًا، كما وصف الله - تبارك وتعالى - الوحي الذي يأتي به جبريل بالروح، يُلْقِي الرُّوحَ يعني الوحي، رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فتفسيره بأنه الوحي هو الأقرب، والله تعالى أعلم.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "قَالَ تَعَالَى: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِفَالْوَحْيُ حَيَاةُ الرُّوحِ، كَمَا أَنَّ الرُّوحَ حَيَاةُ الْبَدَنِ، وَلِهَذَا مَنْ فَقَدَ هَذِهِ الرُّوحَ فَقَدْ فَقَدَ الْحَيَاةَ النَّافِعَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَحَيَاتُهُ حَيَاةُ الْبَهَائِمِ، وَلَهُ الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلَهُ جَهَنَّمُ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا"[1].
ولذلك سمى الله - تبارك وتعالى - الكفار أمواتًا، فهم موتى؛ لأنهم فقدوا هذه الروح، والحياة الحقيقية هي الحياة بالوحي والإيمان، ومن فقدها فهو ميت، كما أن من فقد الروح التي تعمر الجسد فهو ميت، فهما موتتان وحياتان، إحداهما أعظم من الأخرى؛ ولذلك كانت الأبوة أبوتين أبوة الولادة التي تكون سببًا للوجود في هذه الدنيا، والأبوة الأخرى التي هي أبوة التربية والتعليم فهذه التي يكون بها ارتقاء العبد إلى معارج الكمال.
هنا لينذر يوم التلاق لاحظ السياق يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ [سورة النحل:2]، وإذا اعتبرت هذه الآية مع قوله - تبارك وتعالى -: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ من الذي ينذر؟ هنا في هذه الآية من هذه السورة يحتمل أن يكون لِيُنذِرَ أي: الله - تبارك وتعالى -، ينزل الوحي لينذر عباده يوم القيامة، ويحتمل أن الذي ينذر هو الرسول ﷺ، يعني هذا العبد الذي أنزل عليه الوحي، ينزل الوحي على من يشاء من هؤلاء العباد لينذر هذا الذي نزل عليه الوحي ينذر يوم التلاق، فهذان معنيان تحتملهما الآية، والمعنى الثاني هو الذي يشهد له قوله - تبارك وتعالى-: يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ فالذي ينذر هو الذي نزل عليه الروح الذي نزل عليه الوحي، وهكذا في قوله: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ [سورة الشعراء:193-194] فالذي ينذر هو الرسول ﷺ، ويدل على هذا أيضًا قراءة غير متواترة منقولة عن ابن عباس والحسن بالتاء لتنذر يوم التلاق، ومعلوم أن القراءة غير المتواترة تفسر القراءة المتواترة لتنذر يوم التلاق، هنا على هذه القراءة غير المتواترة لا يحتمل المعنى إلا الرسول .
والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فالله - تبارك وتعالى - ينزل الروح - الوحي - على من يشاء من عباده لينذر الله - تبارك وتعالى - هؤلاء العباد بواسطة الرسل الذين أمرهم بالإنذار، ينذرون عباد الله يوم القيامة.
وهنا قوله - تبارك وتعالى -: لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ يقول: هذا من أسماء يوم القيامة، وذلك أن كل عامل سيلقى ما عمله، يعني سمي يوم التلاق على هذا للالتقاء بين العامل والعمل وهذا - كما هو معلوم - دل عليه القرآن وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [سورة الكهف:49] وغير ذلك من الآيات، وبعضهم يقول: لالتقاء أهل السماء والأرض فذلك يوم التلاق، كما قال ذلك قتادة، واختاره ابن جرير - رحمه الله -، كما اختار ابن جرير أيضًا في الذي قبله أن المنذر هو النبي ﷺ، فهنا الالتقاء بين أهل السماء والأرض، وبعضهم يقول: قيل له ذلك للالتقاء الذي يكون بين العابدين والمعبودين، وقد دل على هذا آيات من كتاب الله - تبارك وتعالى - أنه يحصل هذا الالتقاء، وأن هؤلاء جميعًا سيحضرون ويحصل بينهم من البراءة، والعداوة ما أخبر الله - تبارك وتعالى - عنه، وقد مضى الكلام على ذلك، وهذا قال به طائفة من السلف كأبي العالية، وقال به أيضًا مقاتل، والعلم عند الله ، وبعضهم يقول غير هذا، وبعضهم يقول: الالتقاء بين الظالم والمظلوم، وبعضهم يقول: التقاء الدنيا بالآخرة، أو التقاء الأولين بالآخرين وذلك يوم التلاق، التلاق هنا بصيغة الجمع ويدل ذلك أيضًا على كثرة في هذا اللقاء، وذلك اللقاء - والله تعالى أعلم - بين أهل السماء والأرض، ويلتقي فيه الأولون والآخرون، ويلتقي فيه المعبود بعابده، والعامل بعمله، وهكذا أيضًا يلقون فيه صحائف الأعمال والدواوين التي سطرت فيها، ولهذا بعضهم حمله على جزاء الأعمال حيث يلتقيها العاملون، يلتقون بصحائف الأعمال، ولو قيل: إن هذه المعاني لا دليل على تخصيص واحد منها، القرآن يحتمل ذلك، وكله حاصل يوم القيامة، والقرآن دل على هذا يعني على وقوع جميع ذلك، مثل هذا لو حمل عليه لم يكن بعيدًا، والله أعلم.
- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (3/ 243).