وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [سورة غافر:18-20]
يوم الآزفة اسم من أسماء يوم القيامة وسميت بذلك لاقترابها كما قال تعالى: أَزِفَتْ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ [سورة النجم:57-58]، وقال : اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ [سورة القمر:1]، وقال - جل وعلا -: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ [سورة الأنبياء:1]، وقال: أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ [سورة النحل:1]، وقال : فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [سورة الملك:27] الآية.
وقوله - تبارك وتعالى -: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ قال قتادة: وقفت القلوب في الحناجر من الخوف، فلا تخرج ولا تعود إلى أماكنها، وكذا قال عكرمة والسدي وغير واحد، ومعنى "كاظمين" أي: ساكتين لا يتكلم أحد إلا بإذنه، يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [سورة النبأ:38]، وقال ابن جريج: كاظمين أي: باكين.
هنا قوله - تبارك وتعالى -: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِين الحنجرة هي الموضع البارز في العنق أو الرقبة، وقول الحافظ ابن كثير: قال قتادة: وقفت القلوب في الحناجر من الخوف فلا تخرج ولا تعود إلى أماكنها، ونقله عن جماعة من السلف، قال: ومعنى "كاظمين" أي ساكتين لا يتكلم أحد إلا بإذنه، بلوغ القلوب الحناجر يعني تصل إلى هذا الموضع فلا هي ترجع إلى موضعها، ولا هي تخرج، وهم في حال كما وصف الله : كَاظِمِينَ قال: أي ساكتين لا يتكلم أحد إلا بإذنه، وهذا معنى ذكره مَن ذكره من السلف ، والعبارات في هذا متقاربة، يعني بعضهم يقول: مغمومين مكروبين في حال من الغم والكرب ممتلئين غيظًا، وابن جرير - رحمه الله - يفسره بأن قلوبهم تعلقت بحناجرهم بحلوقهم، كاظميها كاظمين للقلوب التي ارتفعت من مواضعها وانتقلت حتى صارت عالقة بالحناجر فلا هي ترجع إلى مواضعها ولا هي تخرج، هذا معنى آخر غير ما ذكر قبله أنهم قد امتلئوا بالغم، فهنا أنهم قد تعلقت قلوبهم بحناجرهم فلا تخرج ولا ترجع فهم كاظمون لهذه يرومون ردها إلى مواضعها من صدورهم فلا ترجع، ولا هي تخرج من أبدانهم فيموتون ويستريحون، وهذا الذي أيضًا قاله الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -، يعني كأنهم قد غصوا بقلوبهم حينما تحولت وانتقلت من أماكنها، فصاروا لا يستطيعون ردها ولا هي تخرج فيموتون، مع أن الشنقيطي - رحمه الله - ذكر المعنى الآخر أنهم مكروبون ممتلئون من الخوف والغم والحزن، - نسأل الله العافية -، والكظم هو رد الحزن والغم وما إلى ذلك من المعاني كالخوف والغضب، كظم الغيظ، كما قال الله : وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [سورة آل عمران:134] فالذي يدافع شيئًا في نفسه مدافعة بحيث إنه يغالبه مغالبة يقال: كظمه، والإنسان يكظم الحزن الشديد والغم الشديد كما يكظم أيضًا الغضب الشديد، وإن كان هذا ليس المراد هنا - أعني الغضب -، وإنما المقصود إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ فهم في حال من الشدة، هذه الشدة ما حقيقتها؟ ما منشؤها؟ ما الذي جعل القلوب أصلًا ترتفع إلى الحناجر؟ "إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين" تصوير لشدة الخوف الذي اجتمع معه الغم والهم والحزن وما إلى ذلك من هذه المعاني، فإنه في ذلك اليوم حينما يشاهد هذه الأهوال القلب يكون في حال من الخوف الشديد؛ ولهذا أخبر الله عن أهل الإيمان بأنهم لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة يونس:62]، وقال: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الأنعام:82].
وإذا نفى ذلك عن أهل الإيمان أثبته لهؤلاء من المجرمين الكافرين والمنافقين، ففي ذلك بيان لشدة الحالة التي يصيرون إليها حيث يتعاظم خوفهم فترتفع القلوب إلى الحناجر.
فهذه المعاني ملتئمة مجتمعة وليست مفترقة، بصرف النظر عن هذه العبارة هل يراد بها حقيقة ارتفاع القلب إلى الحنجرة أو أن ذلك تصوير لشدة الخوف كأن القلوب قد ارتفعت؟ على قولين، وقد مضى الكلام على هذا في قوله - تبارك وتعالى -: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ [سورة الأحزاب:10]، فالعرب تعبر عن شدة الخوف بمثل هذا، بلغت القلوب الحناجر، فبعضهم يقول: هذا تصوير لشدة الخوف كأن القلوب قد بلغت الحناجر، وبعضهم يقول: إن الإنسان إذا اشتد خوفه انتفخت رئته، فيرتفع معها القلب فحينما يرتفع القلب يكون في أعلى مكان بحيث إنه يكاد يصل إلى الحنجرة، يكاد يخرج من شدة الخوف، ولهذا العرب يقولون - كما ترون في مرويات غزوة بدر -: انتفخ سَحْره، فهم يعبرون بمثل هذه العبارة، والمقصود به الرئة، انتفخ سحره يعني رئته، فهذا يقال له ذلك، وعائشة - ا - تقول: "قُبض النبي ﷺ ورأسه بين سَحْري ونحري"[1]، في هذا الموضع، فهذه الرئة يقال لها هذا، ومن ثَمّ فبعض أهل العلم يقول: تصوير لشدة الخوف بحيث إنه يعبر عنه كأن القلب يكاد يخرج، وبعضهم يقول: يرتفع حقيقة لانتفاخ الرئة إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ، وكون القلوب ترتفع بسبب شدة الخوف فهذان متلازمان، السبب والمسبب، فإذا كان الإنسان في حال من الخوف الشديد فإنه يكون بهذه المثابة، إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ وهذا الذي يكظمه ما هو؟ هذا القلب الذي ارتفع، وكذلك أيضًا هذه الأمور التي يدافعها كانت سببًا لحصول هذه الحالة عنده من شدة الخوف وشدة الغم - نسأل الله العافية -، هذا تصوير في غاية الدقة لما يكابده أهل الموقف.
- رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب في فضل عائشة - ا -، برقم (2443).