الأحد 01 / رجب / 1447 - 21 / ديسمبر 2025
ٱللَّهُ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ وَٱلْمِيزَانَ ۗ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

ثم قال: اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ يعني: الكتب المنزلة من عنده على أنبيائه وَالْمِيزَانَ وهو: العدل والإنصاف، قاله مجاهد، وقتادة، وهذه كقوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25].

وقوله: وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ۝ أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ۝ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [الرحمن: 7- 9].

قوله هنا: اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ الكتاب هنا يحتمل: أن يكون القرآن، فتكون "أل" هذه عهدية.

ويحتمل: أن يكون المراد جنس الكتب، وهذا هو الأقرب.

اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وهذا الذي مشى عليه ابن كثير - رحمه الله -، الكتب المنزلة من عنده، وأما الميزان فقال: وهو العدل والإنصاف، قاله مجاهد وقتادة.

يقول: وهذا كقوله: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25].

وقوله: وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ۝ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، فهذا قول الجمهور: أن المراد بالميزان: العدل.

وبعضهم فسره: بآلته، الآلة التي يوزن بها.

وبين القولين ملازمة، والشنقيطي - رحمه الله - فرق بين هذه الآية مع آية الحديد: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ [الحديد:25]، وبين آية الرحمن وَوَضَعَ الْمِيزَانَ.

ففرّق بين إنزال الميزان كما في آية الشورى وآية الحديد، وبين وَوَضَعَ الْمِيزَانَ كما في آية الرحمن.

ففسر الآيتين: آية الشورى وآية الحديد بالعدل.

وفسر آية الرحمن ووضع الميزان: أنه الميزان المعروف الذي يوزن به.

وقول الجمهور: إن المقصود به العدل والإنصاف.

وبعضهم يقول: ما في الكتب المنزلة مما يجب العمل به، وهذا ميزان، وهو عدل وإنصاف.

وبعضهم يقول: المقصود بذلك الجزاء على الطاعة والثواب، وعلى المعصية بالعقاب، وأن ذلك يعني أنه بالعدل، يعني كونه يثاب المطيع، ويعاقب العاصي أن هذا من العدل والإنصاف.

المشهور الذي عليه الجمهور: أن المراد: العدل.

لكن يرد سؤال، وهو أن قوله - تبارك وتعالى -: اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ فهذه الكتب مشتملة على العدل والميزان والعدل، فهل هذا من قبيل التكرار على هذا التفسير؟

يعني هذه الكتب متضمنة للحق والعدل في كل شيء، يعني التوحيد عدل، وسائر ما أنزله الله - تبارك وتعالى -، وبه قامت السموات والأرض، فهل يقال: إن هذا التفسير - يعني أن الميزان هو العدل - تكرار مع ما قبله؟

فرق بعض أهل العلم بينهما، وقالوا: إن الكتب نازلة بالعدل بالحق، ومتضمنة للعدل، ولكن الميزان أعم مما جاء في الكتب من العدل، فهذا العدل قد يكون مما جاء في الكتاب، وقد يكون مما يلحق به بالقياس، وقد يكون بغير ذلك، فهو أعم مما نزل في الكتب من العدل.

وهناك كلام للشنقيطي في "الأضواء" نذكره ملخصاً:

قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي أنزل الكتاب في حال كونه متلبسًا بالحق الذي هو ضد الباطل.

وقوله: الْكِتَابَ اسم جنس مراد به جميع الكتب السماوية.

يعني "الباء" للملابسة بالحق، متلبسًا بالحق.

وقد أوضحنا في سورة الحج: أن المفرد الذي هو اسم جنس يطلق مرادًا به الجمع.

- يعني هنا يقول: الكتاب يعني الكتب -.

وذكرنا الآيات الدالة على ذلك.

وقوله تعالى: في هذه الآية: وَالْمِيزَانَ يعني أن الله - جل وعلا - هو الذي أنزل الميزان، والمراد به العدل والإنصاف.

وقال بعض أهل العلم: الميزان في الآية هو آلة الوزن المعروفة، ومما يؤيد ذلك: أن الميزان مِفْعال، والمفعال قياسي في اسم الآلة.

وعلى التفسير الأول، وهو أن الميزان العدل والإنصاف، فالميزان الذي هو آلة الوزن المعروفة داخل فيه؛ لأن إقامة الوزن بالقسط من العدل والإنصاف.

- يعني بينهما ملازمة -.

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الله تعالى هو الذي أنزل الكتاب والميزان أوضحه في غير هذه الموضع، كقوله تعالى في سورة الحديد: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25].

فصرح تعالى بأنه أنزل مع رسله الكتاب والميزان لأجل أن يقوم الناس بالقسط، وهو العدل والإنصاف، وكقوله تعالى في سورة الرحمن: وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ۝ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ۝ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ الرحمن:7-9.

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له -: الذي يظهر لي - والله تعالى أعلم - أن الميزان في سورة الشورى وسورة الحديد هو العدل والإنصاف، كما قاله غير واحد من المفسرين.

وأن الميزان في سورة الرحمن هو الميزان المعروف، أعني آلة الوزن التي يوزن بها بعض المبيعات.

ومما يدل على ذلك: أنه في سورة الشورى وسورة الحديد عبر بإنزال الميزان لا بوضعه.

وقال في سورة الشورى: اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ، وقال في الحديد: وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ [الحديد:25].

وأما في سورة الرحمن فقد عبر بالوضع لا الإنزال، قال: وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ [الرحمن:7] ثم أتبع ذلك بما يدل على أن المراد به آلة الوزن المعروفة، وذلك في قوله: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [الرحمن:9] لأن الميزان الذي نهوا عن إخساره هو أخو المكيال، كما قال تعالى: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ۝ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ۝ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ [الشعراء:181-183]، وقال تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ۝ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين:1-3]، وقال تعالى عن نبيه شعيب: وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ [هود:84] الآية، وقال تعالى عنه أيضًا: قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ [الأعراف:85] الآية، وقال في سورة الأنعام: وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [الأنعام:152]، وقال في سورة بني إسرائيل: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [الإسراء:35].

فإن قيل: قد اخترتم أن المراد بالميزان في سورة الشورى وسورة الحديد هو العدل والإنصاف، وأن المراد بالميزان في سورة الرحمن هو آلة الوزن المعروفة، وذكرتم نظائر ذلك من الآيات القرآنية، وعلى هذا الذي اخترتم يُشكل الفرق بين الكتاب والميزان أن الكتب السماوية كلها عدل وإنصاف؟ - السؤال الذي أوردتُه -، فالجواب من وجهين:

الأول منهما: هو ما قدمنا مرارًا من أن الشيء الواحد إذا عبر عنه بصفتين مختلفتين جاز عطفه على نفسه تنزيلاً للتغاير بين الصفات منزلة التغاير في الذوات.

ومن أمثلة ذلك في القرآن: قوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ۝ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ۝ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ۝ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [الأعلى:1- 4]، يعني أن ذلك يرجع إلى شيء واحد.

فالموصوف واحد، والصفات مختلفة، وقد ساغ العطف لتغاير الصفات، ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر:

إلَى المَلِكِ القَرْمِ وَابْنِ الهُمَامِ وَلَيْث الكَتِيبَةِ فِي المُزْدَحَمْ

وأما الوجه الثاني: فهو ما أشار إليه العلامة ابن القيم - رحمه الله - في إعلام الموقعين: من المغايرة في الجملة بين الكتاب والميزان، وإيضاح ذلك أن المراد بالكتاب هو العدل والإنصاف المصرح به في الكتب السماوية.

وأما الميزان فيصدق بالعدل والإنصاف الذي هو مصرح في الكتب السماوية، ولكنه معلوم مما صرح به فيها، فالتأفيف في قوله تعالى: فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ [الإسراء:23] من الكتاب، لأنه مصرح به في الكتاب، ومنع ضرب الوالدين مثلاً المدلول عنه بالنهي عن التأفيف من الميزان، أي من العدل والإنصاف الذي أنزله الله مع رسله، وقبول شهادة العدلين في الرجعة والطلاق المنصوص في قوله تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ [الطلاق:2] من الكتاب الذي أنزله الله؛ لأنه مصرح به فيه، وقبول شهادة أربعة عدول في ذلك من الميزان الذي أنزله مع رسله، وتحريم أكل مال اليتيم المذكور في قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النساء:10] الآية من الكتاب، يعني مثل مفهوم الموافقة، وتحريم إغراق مال اليتيم وإحراقه المعروف من ذلك من الميزان الذي أنزله الله مع رسله[1].

يقصد ما نطق به الكتاب هذا من العدل الذي جاءت به الكتب، وما يفهم من ذلك، أو يلحق به، أو يضاف إليه بالقياس، أو نحو هذا أن هذا من الميزان.

وقوله: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ فيه ترغيب فيها، وترهيب منها، وتزهيد في الدنيا.
  1. انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (7/64-67).