ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الشورى:23-24].
يقول تعالى لما ذكر روضات الجنة لعباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات: ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أي: هذا حاصل لهم، كائن لا محالة، ببشارة الله لهم به.
وقوله: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من كفار قريش: لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح لكم مالا تعطونيه، وإنما أطلب منكم أن تكفوا شركم عني، وتذروني أبلغ رسالات ربي، إن لم تنصروني فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة.
روى البخاري: عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد، فقال ابن عباس: عَجِلْتَ إن النبي ﷺ لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة"[1]، انفرد به البخاري، ورواه الإمام أحمد من طريق آخر.
قوله - تبارك وتعالى -: قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى هنا سؤالان:
السؤال الأول: من المراد بالقربى؟
والسؤال الثاني: هل الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى من جنس الأجر أو أنها ليست من جنسه، يعني لا أسألكم أجرًا مطلقًا، فيكون الاستثناء منقطعًا، أي لكن أن تودوني في قرابتي، أنا لا أريد منكم أجرًا.
أما ما يتعلق بالقربى هنا: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى فكما في تفسير ابن عباس هنا: أن المراد بذلك ليس قرابة النبي ﷺ، من أهل بيته، وإنما المقصود به إلا أن تودوني في قرابتي منكم، يعني أنه ما من بطن من قريش إلا وله ﷺ قرابة فيهم، فيقول: راعوا هذه القرابة التي بيني وبينكم، فلا يصل إليّ منكم أذى، أنا لا أريد منكم أجرًا على هذه الدعوة والبلاغ، أريد منكم أن تراعوني في قرابتي منكم، فتخلوا بيني وبين دعوتي، خلوا بيني وبين الناس، لا يصل منكم إليّ شيء من الأذى.
فعلى هذا التفسير لا يكون للآية علاقة بقرابات النبي ﷺ، وأهله بيته، وهذه: الرافضة حينما يتحدثون عنها يتكلمون بكلام طويل، ويسطرون المجلدات، ويبنون عليها أمورًا كثيرة.
هذا المعنى الذي فسره به ابن عباس، وردّ على سعيد بن جبير، فتكون الآية لا علاقة لها بأهل بيت النبي ﷺ، هو يقول للمشركين: راعوني لقرابتي منكم، أنا لا أريد أجرًا، لا أريد منكم مالا.
فعليه يكون الأجر بمعنى: المال، وما يتقاضاه بسبب هذه الدعوة.
إذا فسر بهذا أن الأجر مثلاً هو المال، وما إلى ذلك فيكون الاستثناء منقطعًا، يعني المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، يعني ما سألهم شيئًا من الأجر إطلاقًا.
هنا يقول لهم: قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى لكن راعوني في قرابتي منكم، فلا يصل إليّ منكم شيء من الأذى.
وهذا قال به كثير من المفسرين، واختاره ابن جرير - رحمه الله -، يعني: أن الاستثناء منقطع.
وبعضهم يقول: إن الاستثناء متصل، سواء قيل: إلا أن تودوني في قرابتي منكم، فلا يصل إليّ منكم أذى، فيكون هذا من جنس الأجر، ومراعاة النبي ﷺ في قرابته منهم.
والمعنى الثاني: أن المقصود بقرابته ﷺ: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى أي: أهل بيت النبي ﷺ، قرابة النبي ﷺ، أن يحفظوا أهل بيته إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى معرفة حق أهل بيت النبي ﷺ وما لهم من مكانة ومنزلة وحرمة، وما إلى ذلك.
وبعض أهل العلم يفسر الآية بغير هذا تمامًا: قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى قالوا: التقرب إلى الله، والتودد إليه بطاعته.
فُسرت بهذا التفسير، وهذا منقول عن الحسن - رحمه الله.
وبعضهم يقول: هذه الآية باعتبار أن الاستثناء متصل، أن هذا من جنس الأجر.
وبعضهم قال: إن هذا منسوخ، نسخ بالآيات الأخرى التي جاء فيها الإطلاق، أنه لا يسألهم عليه أجرًا، من غير استثناء، يقولون: لما أعز الله دينه، ونصر نبيه ﷺ، بعدما هاجر ألحقه بسائر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - حيث كانوا يقولون لأقوامهم: لا نسألكم عليه مالاً - أجرًا -، من غير استثناء، هكذا قال بعضهم.
هذا بناء على أن الاستثناء متصل، أن هذا من جنس الأجر والنسخ لا يثبت بالاحتمال.
وهذه المراعاة، مراعاة النبي ﷺ في قرابته ليس هذا من الأجر، هو يقول: أنا لا أسألكم مقابلا على هذه الدعوة، ولكن راعوني في قرابتي منكم، فلا تؤذوني، وخلوا بيني وبين الناس، فيكون الاستثناء منقطعًا.
الشنقيطي- رحمه الله - له تفصيل جيد فيها، قال - رحمه الله -: قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى قد بينا في سورة "هود" في الكلام على قوله تعالى: وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ [هود:29] أن جميع الرسل - عليهم الصلوات والسلام - لا يأخذون أجرًا على التبليغ، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك.
وقد ذكرنا في كتابنا: "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" وجه الجمع بين تلك الآيات وآية "الشورى" هذه، فقلنا فيه:
اعلم أولاً: أن في قوله تعالى: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى أربعة أقوال:
الأول: ما رواه الشعبي وغيره عن ابن عباس، وبه قال مجاهد وقتادة وعكرمة وأبو مالك والسدي والضحاك وابن زيد وغيرهم، كما نقله عنهم ابن جرير وغيره: أن معنى الآية: قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى أي: إلا أن تودوني في قرابتي التي بيني وبينكم، فتكفوا عني أذاكم، وتمنعوني من أذى الناس، كما تمنعون كل من بينكم وبينه مثل قرابتي منكم".
يعني هذا الخطاب للمشركين، والاستثناء إلا أن تودوني في قرابتي يحتمل الاتصال والانفصال، يعني هؤلاء بعضهم يقول: متصل، وبعضهم يقول: منفصل، يعني من اعتبر المودة في القربى من جنس الأجر قالوا: متصل.
"وكان ﷺ له في كل بطن من قريش رحم، فهذا الذي سألهم ليس بأجر على التبليغ؛ لأنه مبذول لكل أحد - لاحظ الشنقيطي يقول: هذا ما هو أجر، ومعناه أنه يقول: إنه منقطع - لأن كل أحد يوده أهل قرابته، وينتصرون له من أذى الناس...
القول الثاني: أن معنى الآية: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى أي: لا تؤذوا قرابتي وعترتي، واحفظوني فيهم، ويروى هذا القول عن سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب وعلي بن الحسين، وعليه فلا إشكال أيضًا؛ لأن المودة بين المسلمين واجبة فيما بينهم، وأحرى قرابة النبي ﷺ، قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71].
وفي الحديث: مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كالجسد الواحد، إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى[2].
وقال ﷺ: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه[3]، والأحاديث في مثل هذا كثيرة جدًّا".
- يعني بعض القائلين بهذا القول: تودوني في أهل بيتي وقرابتي، فتحسنون إليهم، وتحفظون حقهم، وتراعون حرمتهم، بعض هؤلاء يقول: الخطاب للمؤمنين، يعني من استجاب من هؤلاء الناس لدعوة النبي ﷺ، يقول لهم: أنا ما آخذ على هذا مقابلا، وإنما احفظوا قرابتي، وأهل بيتي، وراعوا حرمتهم -.
"وإذا كان نفس الدين يوجب هذا بين المسلمين تبين أنه غير عوض عن التبليغ.
وقال بعض العلماء: الاستثناء منقطع على كلا القولين، وعليه فلا إشكال.
فمعناه على القول الأول: لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا لكن أذكركم قرابتي فيكم"، - بمعنى لكن -.
"وعلى الثاني: لكن أذكركم الله في قرابتي، فاحفظوني فيهم".
أيضًا على القول الثاني: حفظ قرابة النبي ﷺ وأهل بيته يحتمل أن يكون منقطعًا، فيكون بمعنى "لكن"، فلا يكون من قبيل الأجر، يعني: القربى إذا حمل على قرابته من المشركين فيحتمل الاتصال والانقطاع.
وإذا حمل على المعنى الثاني المعنى الخاص الذي هو أهل بيت النبي ﷺ، فعندها أيضًا يحتمل الاتصال والانقطاع، يعني إذا قلت: منقطع معناه أنه ما سألهم شيئًا من الأجر، ومن ثم لا حاجة لقول من قال: إن ذلك منسوخ.
"القول الثالث: وبه قال الحسن: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى أي: إلا أن تتوددوا إلى الله، وتتقربوا إليه بالطاعة، والعمل الصالح، وعليه فلا إشكال؛ لأن التقرب إلى الله ليس أجرًا على التبليغ".
وهذا خلاف الظاهر، يعني كيف يقال: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى يعني التودد في التقرب إلى الله؟.
"القول الرابع: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى أي: إلا أن تتوددوا إلى قراباتكم، وتصلوا أرحامكم".
يعني هنا تأمل هذا القول: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى يعني في قرابتكم، يأمر بالصلة، يقول: أنا ما أسألكم عليه من أجر، لكن صلوا أرحامكم، وهذا بعيد، خلاف السياق.
"ذكر ابن جرير هذا القول عن عبد الله بن قاسم، وعليه أيضاً فلا إشكال؛ لأن صلة الإنسان رحمه ليست أجرًا على التبليغ".
وهو أيضًا منقول عن غيره، منقول عن الحسن بن الفضل.
"فقد علمت الصحيح في تفسير الآية، وظهر لك رفع الإشكال على جميع الأقوال.
وأما القول بأن قوله تعالى: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى منسوخ بقوله تعالى: قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سبأ:47] فهو ضعيف، والعلم عند الله - تعالى -. انتهى منه.
وقد علمتَ مما ذكرنا فيه أن القول الأول هو الصحيح في معنى الآية.
مع أن كثيرًا من الناس يظنون أن القول الثاني هو معنى الآية، فيحسبون أن معنى: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى إلا أن تودوني في أهل قرابتي، وممن ظن ذلك محمد السجاد"
محمد بن طلحة بن عبيد الله، كان عابدًا، فكان خرج برًّا بأبيه، ولقب بالسجاد لكثرة عبادته، فكان يحمل الراية يوم الجمل، وإذا حمل عليه أحد من جيش علي قال: أذكِّرك "حم"، اذكرْ "حم"، بعضهم قال: يقصد هذه الآية: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى يعني له قرابة بالنبي ﷺ فيقول: لا يصل إليّ منك أذى.
وبعضهم يقول غير هذا.
| يُذَكِّرُنِى حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ | فَهَلَّا تَلَا حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ |
يعني هذا الذي قتله قال هذا الكلام، قُتل طبعًا.
"حيث قال لقاتله يوم الجمل: أذكرك "حم" يعني سورة " الشورى" هذه، ومراده أنه من أهل قرابة رسول الله ﷺ، فيلزم حفظه فيهم؛ لأن الله - تعالى - قال في "حم" هذه: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى فهو يريد المعنى المذكور، يظنه هو المراد بالآية، ولذا قال قاتله في ذلك:
| يُذَكِّرُنِى حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ | فَهَلَّا تَلَا حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ |
والتحقيق - إن شاء الله - أن معنى الآية هو القول الأول: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى أي: إلا أن تودوني في قرابتي فيكم وتحفظوني فيها، فتكفوا عني آذاكم وتمنعوني من أذى الناس، كما هو شأن أهل القرابات"[4].
وقوله: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا أي: ومن يعمل حسنة.
نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا أي: أجراً وثواباً.
أصل الاقتراف هو الكسب: يَقْتَرِفْ حَسَنَةً يعمل، يكسب.
كقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40].
وقوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ أي: يغفر الكثير من السيئات، ويكثّر القليل من الحسنات، فيستر ويغفر، ويضاعف فيشكر.
- رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى، رقم (4818)، وأحمد (2599).
- رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب ، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، رقم (2586).
- رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، رقم (13)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، رقم (45).
- انظر: أضواء البيان (7 /69-72).