وقوله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ أي: لو افتريت عليه كذبًا كما يزعم هؤلاء الجاهلون.
يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ أي: لَطَبَعَ على قلبك وسلبك ما كان آتاك من القرآن؛ كقوله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة:44-47] أي: لانتقمنا منه أشد الانتقام، وما قدر أحد من الناس أن يحجز عنه.
يعني: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا "أم" هذه منقطعة، بمعنى "بل" و"الهمزة" بل أيقولون: افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا؟ وهذا الإنكار للتوبيخ، يعني اختلق كذبًا.
وهذا أحد المعاني المذكورة في الآية.
بعضهم يقول: لو افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لشاء الله عدم صدور هذا الكذب، والافتراء عليه، وختم على قلبه بحيث لا يخطر على باله شيء من ذلك، كما تزعمون.
أو يسلبك ما أنزل عليك، كما يقوله ابن كثير هنا، ويقوله قبله ابن جرير - رحمه الله -.
وذهب بعض السلف إلى أن المقصود بذلك غير هذا تمامًا: فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ أي: يربط على قلبك فيصبرك على آذاهم، ويقويك على ذلك، حتى لا يدخل في قلبك مشقة من هذه الاتهامات التي يوجهونها إليك، وما إلى ذلك.
وبعضهم ذكر أقوالاً بعيدة، لا تخلو من إشكال، يعني بعضهم يقول: هذا الخطاب موجه للنبي ﷺ في صورته الظاهرة، ولكن المراد به الكفار، أن الله يختم على قلوبهم، ويعاجلهم بالعقوبة، وهذا بعيد.
وبعضهم يقول: المراد أنه لو حدثتك نفسك بهذا - يعني بالافتراء على الله لطبع على قلبك، فإنه لا يجترئ على الله بالافتراء عليه إلا من ختم وطبع على قلبه، هذا لا يصدر من قلب سليم.
والمشهور الذي عليه عامة أهل العلم هو الذي ذكره ابن كثير: فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ يعني يسلبك ما أنزل عليك، يسلبك هذا القرآن، وهو اختيار ابن جرير - رحمه الله.
وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ فهذا استئناف مقرر لما قبله من نفي الافتراء؛ لأن الله يمحو الباطل، ويزيله، فلا يبقى له أثر، وليس لهذه الدعوى من أن هذا القرآن مفترى، ليس لها سبيل إليه، وسنته - تبارك وتعالى - التي لا تتبدل ولا تتغير هي محو الباطل وإزالته، فلا يبقى منه شيء، والله يحق الحق بكلماته.
ابن القيم - رحمه الله - تكلم على قوله: فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ فيقول - رحمه الله -: "وفي معنى الآية للناس قولان:
أحدهما: قول مجاهد ومقاتل: إن يشأ الله يربط على قلبك بالصبر على آذاهم، حتى لا يشق عليك.
والثاني: قول قتادة: إن يشأ الله يُنسك القرآن، ويقطع عنك الوحي.
وهذا القول دون الأول لوجوه..".
دون الأول هنا ما يقصد أضعف من الأول، هو يقصد أقرب، "دونه" يعني أقرب من القول الأول، هو يرجح الذي ذكره ابن كثير وابن جرير، دون الأول يعني أقرب إلى الصواب، وذكر عشرة أوجه في ترجيح هذا القول، فهذه وجوه الترجيح لا تجدها في كتاب من كتب التفسير بهذه الطريقة وهي:
"أحدها: أن هذا خرج جوابًا لهم، وتكذيبًا لقولهم".
يعني ليس المقصود به هنا: فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ بمعنى أنه يثبتك، ويربط على قلبك بالصبر، لا، هو يقول: يرد عليهم.
"الوجه الثاني: أن مجرد الربط على قلبه بالصبر على أذاهم يصدر من المحق والمبطل، فلا يدل ذلك على التمييز بينهما، ولا يكون فيه رد لقولهم".
يعني قد يصبر المبطل.
"فإن الصبر على أذى المكذب لا يدل بمجرده على صدق المخبر.
الثالث: أن الرابط على قلب العبد لا يقال له: ختم على قلبه، ولا يعرف هذا في عرف المخاطب، ولا لغة العرب، ولا هو المعهود في القرآن".
يعني أن التصبير لا يقال له: طبع على القلب وختم.
الرابع: أنه سبحانه حيث يحكى أقوالهم: إنه افتراه، لا يجيبهم عليه هذا الجواب، بل يجيبهم بأنه لو افتراه لم يملكوا له من الله شيئاً، بل كان يأخذه ولا يقدرون على تخليصه".
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ [الحاقة:44-45].
"الخامس: أن هذه الآية نظير ما نحن فيه، وأنه لو شاء لما أقره ولا مكنه، وتفسير القرآن بالقرآن من أبلغ التفاسير.
السادس: أنه لا دلالة في سياق الآية على الصبر بوجه ما، لا بالمطابقة ولا التضمن ولا اللزوم، فمن أين يُعلم أنه أراد ذلك ولم يستمر هذا المعنى في غير هذا المعنى، فيُحمل عليه، بخلاف كونه يحول بينه وبينه، ولا يمكنه من الافتراء عليه فقد ذكره في مواضع.
السابع: أنه سبحانه أخبر أنه لو شاء لما تلاه عليهم ولا أدراهم به، وأن ذلك إنما هو بمشيئته وإذنه وعلمه، كما قال تعالى: قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ [يونس:16] وهذا من أبلغ الحجج وأظهرها.
الثامن: أن مثل هذا التركيب إنما جاء في القرآن للنفي لا للإثبات، كقوله تعالى: وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الإسراء:86]، وقوله: إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ [النساء:133]".
يعني ليس لإثبات الصبر، وإنما لرفع ما أنزله عليه وإزالته.
"التاسع: أن الختم على القلب لا يستلزم الصبر، بل قد يختم على قلب العبد، ويسلبه صبره.
العاشر: أن الختم هو شدُّ القلب، حتى لا يشعر ولا يفهم، فهو مانع يمنع العلم والتقصد، والنبي ﷺ كان يعلم قول أعدائه: أنه افترى القرآن، ويشعر به"[1].
يعني من ختم على قلبه فإنه لا يفقه.
- انظر: التبيان في أقسام القرآن، ص (185-190).