الإثنين 02 / رجب / 1447 - 22 / ديسمبر 2025
وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ ٱلْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ فَرِيقٌ فِى ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى ٱلسَّعِيرِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ۝ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [الشورى:7–8].

يقول تعالى وكما أوحينا إلى الأنبياء قبلك: أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا أي: واضحًا جليًّا بينًا.

لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وهي مكة.

وَمَنْ حَوْلَهَا أي: من سائر البلاد شرقاً وغرباً، وسميت مكة "أم القرى"؛ لأنها أشرف من سائر البلاد، لأدلة كثيرة مذكورة في مواضعها، ومن أوجز ذلك وأدله: ما رواه الإمام أحمد: عن عبد الله بن عَدِي بن الحمراء الزهري أخبره: أنه سمع رسول الله ﷺ يقول وهو واقف بالحَزْوَرَة، في سوق مكة: والله، إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخْرِجْتُ منك ما خرجت[1]، وهكذا رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي: "حسن صحيح".

قوله - تبارك وتعالى -: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا مكة أم القرى، وأم الشيء: يقال في الأصل وما يرجع إليه غيره، كما يقال: المأمومة أم الرأس، أم الدماغ، والراية التي يجتمع حولها الجنود في الجيش، الراية الكبيرة يقال لها: أم، وهكذا.

قوله - تبارك وتعالى -: لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا المقصود بقوله: وَمَنْ حَوْلَهَا يعني سائر البلاد، ومعلوم أن النبي ﷺ أُرسل للأحمر والأسود، ويدل على هذا النصوص الأخرى وهي واضحة وصريحة، كقوله - تبارك وتعالى -: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ [سبأ:28].

وكذلك في كتبه ﷺ حينما كتب إلى قيصر وكسرى، وملك مصر، فدعا النبي ﷺ أهل الأقاصي والبلاد البعيدة، دعاهم إلى الإسلام، وقال ﷺ: وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة[2].

والنصوص في هذا كثيرة جدًّا.

فقوله: وَمَنْ حَوْلَهَا يعني سائر البلاد.

وعلى فرض كما يقول بعض أهل العلم: إن ما حولها يعني من البلاد المجاورة، فهل هذا يعني أن بعثته ﷺ خاصة بالعرب؟ يعني ما جاور مكة قبائل العرب وبلاد العرب؟.

يقال: هذا غير مراد، فالله قال لنبيه ﷺ: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء:214].

ومعلوم أنه ﷺ منذر للجميع، والقاعدة: أن ذكر بعض أفراد العام بحكم لا يخصصه.

النبي ﷺ مرسل للجميع، مرسل لأم القرى، وغيرها، فكون الله - تبارك وتعالى - يذكر: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ يذكر بعض أفراد العام بحكم فإن ذلك لا يخصص، أو لا يدل على تخصيص العام به.

فالأول هو الأقرب، وهو أن المقصود بقوله: وَمَنْ حَوْلَهَا سائر البلاد.

لكن على فرض؛ لأن من الناس من يجادل في هذا، أعني بعض أهل الكتاب ممن يقولون بنبوة محمد ﷺ، ولكنهم يخصصونه بأنه مبعوث للعرب، دون غيرهم، ويحتجون بهذه الألفاظ، أو المواضع المتشابهة.

وهؤلاء يمكن أن يرد عليهم بأقرب طريق، النصوص الأخرى طبعًا كثيرة جدًّا، وكتابات النبي ﷺ للملوك.

هكذا أيضًا يرد عليهم بأقرب طريق: إذا كنتم تؤمنون أنه نبي، وأنه صادق، وأنه من عند الله ، فقد أخبر أن بعثته لكل الناس: وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة[3].

وهكذا دعوته ﷺ لغير العرب، فهو نبي، فكيف يقول على الله - تبارك وتعالى - ما ليس بحق؟!.

وقوله: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ وهو يوم القيامة، يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد.

وهذا مضى مرارًا، وذكرنا: أنه أيضًا من أهل العلم من يقول: يجمع بين العامل وعمله، يجمع بين أهل العالم العلوي والسفلي، يجمع الله فيه بين الظالم والمظلوم، يجمع الله فيه الأولين والآخرين، يجمع بين الثقلين.

كل هذه المعاني ذكرت في وجه تسميته بيوم الجمع: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ ۝ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة:49-50] فهذا يدل على أن المقصود به جمع الأولين والآخرين، وإن كان ذلك لا ينفي أيضًا المعاني الأخرى.

وقوله: لا رَيْبَ فِيهِ أي: لا شك في وقوعه، وأنه كائن لا محالة.

وقوله: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ كقوله: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [التغابن:9] أي: يَغْبن أهل الجنة أهل النار، وكقوله : إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ۝ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ ۝ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود:103- 105].

هذا كقوله هنا: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، فـفَرِيقٌ نكرة، والأصل أنه لا يبدأ بالنكرة ما لم تفد، فهنا هذا المقام مقام تقسيم: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ فهذا سوغ الابتداء بها، ولا حاجة لقول من قال: إن هذا خبر، أو إنه مبتدأ لخبر محذوف مقدم مقدر، إلى غير ذلك، هذا لا حاجة إليه، والأصل عدم التقدير، فهذا مقام تقسيم: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ.

روى أحمد عن عبد الله بن عمرو - ا - قال: خرج علينا رسول الله ﷺ وفي يده كتابان، فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ قال: قلنا: لا إلا أن تخبرنا يا رسول الله، قال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين، بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدًا، ثم قال للذي في يساره: هذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدًا فقال أصحاب رسول الله ﷺ: فلأي شيء إذًا نعمل إن كان هذا أمرٌ قد فُرِغ منه؟ فقال رسول الله ﷺ: سَدِّدُوا وقاربوا، فإنّ صاحب الجنة يختم له بعمل الجنة، وإنْ عَمِلَ أيَّ عَمل، وإنّ صاحب النار يختم له بعمل النار، وإنْ عمِلَ أيَّ عمل ثم قال بيده فقبضها، ثم قال: فرغ ربكم من العبادثم قال باليمنى فنبذ بها، فقال: فريق في الجنة ونبذ باليسرى، فقال: فريق في السعير[4]، وهكذا رواه الترمذي والنسائي وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.

وكما في الحديث الآخر: قبض قبضة، فقال: هذه في الجنة ولا أبالي، وقبض قبضة، وقال: وهذه في النار، ولا أبالي[5].

وروى الإمام أحمد - رحمه الله -: عن أبي نضرة قال: إن رجلاً من أصحاب النبي ﷺ يقال له: أبو عبد الله، دخل عليه أصحابه - يعني يزورونه -، فوجدوه يبكي، فقالوا له: ما يبكيك؟ ألم يقل لك رسول الله ﷺ: خذ من شاربك ثم أَقِرَّه حتى تلقاني قال: بلى، ولكن سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الله قبض بيمينه قبضة، وأخرى باليد الأخرى، قال: هذه لهذه، وهذه لهذه، ولا أبالي فلا أدري في أي القبضتين أنا[6].

هنا يقولون له: ما يبكيك، ألم يقل لك رسول الله ﷺ: خذ من شاربك؟ يعني قال له في مناسبة: خذ من شاربك يعني بمعنى: حف الشارب، قص الشارب، أرشده إلى أمر من سنن الفطرة، وأن يلتزمه، ثم أقِرَّه حتى تلقاني، يعني وعده النبي ﷺ، أو جعل له عدة، وهي أن يلقاه على الحوض، يعني هذا تطمين له أنه سيرد الحوض على النبي ﷺ، فيقولون: لماذا تبكي، النبي ﷺ وعدك على الحوض؟!

وأحاديث القَدَر في الصحاح والسنن والمسانيد كثيرة جدًّا، منها: حديث علي وابن مسعود وعائشة وجماعة جمّة .

لا شك أن الله - تبارك وتعالى - قدر مقادير الخلق، وأن الله قد قدر الهداية لقوم، والضلالة على قوم، بعلم وحكمة، وأن الله - تبارك وتعالى - قد علم أهل الجنة وأهل النار، ولكن القدر هو سر الله في خلقه، ونحن لم نطلع على ذلك، ولا على هذا الكتاب، فالشقي من قدر نفسه في الأشقياء، ثم بعد ذلك ترك طاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ، ومثل هؤلاء الذين يعتذرون بالقدر فيتركون الإيمان والعمل الصالح لا يفعلون ذلك في دنياهم، فتجد الإنسان منهم يبذل الأسباب في دفع المكروه، وجلب المحبوب، فهذا الإنسان يبتعد عن الحفرة، ويتوقى في الطريق، وكذلك أيضًا إذا جاع يأكل، وإذا شعر بالحر أو البرد بذل الأسباب لتجنب ذلك، والبعد عنه، إلى غير ذلك من المزاولات، ومن أدناها المشي، فإن هذا بذل للسبب بالحركة، وتحريك الأقدام في طلب الحاجات، وما إلى ذلك، فهذا كله من التسبب.

فلو أن هؤلاء يقولون: قد قدر لنا، وكتب علينا ما سيأتينا، ومن ثم لا داعي للحركة، ولا داعي للذهاب، ولا للدراسة ولا للعمل، ولا للأكل ولا للشرب، ولا للباس، ولا أي حركة، سيبقى هؤلاء لا يأكلون ولا يشربون، ولا يلبسون، وهذا لا يقول به عاقل، لكن لربما يأتي صاحب الهوى، فيحتج بمثل هذا في عمل الآخرة، فيقال: فما بال عمل الدنيا؟ حتى عمل الدنيا لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها.

  1. رواه الترمذي، كتاب أبواب المناقب عن رسول الله ﷺ، باب في فضل مكة، رقم (3925)، والنسائي، كِتَابُ المناسك، باب فَضْلُ مَكَّةَ، رقم (4238)، وابن ماجه، كتاب المناسك، باب فضل مكة، رقم (3108)، وأحمد (18715)، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح"، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، رقم (2725).
  2. رواه البخاري، في أوائل كتاب التيمم، رقم (335 )، ومسلم في أول كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم (521).
  3. المصدر السابق.
  4. رواه الترمذي، كتاب أبواب القدر عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء أن الله كتب كتابا لأهل الجنة وأهل النار، رقم (2141)، وأحمد (6563) وقال محققو المسند: "إسناده ضعيف"، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (96).
  5. رواه أحمد (17594)، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح".
  6. رواه أحمد (17593)، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح".