الجمعة 22 / محرّم / 1447 - 18 / يوليو 2025
تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءٍۭ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا۟ لَا يُرَىٰٓ إِلَّا مَسَٰكِنُهُمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِى ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

تُدَمِّرُ أي: تخرب، كُلَّ شَيْءٍ من بلادهم مما من شأنه الخراب.

يعني: هذا كما سبق في عدد من المناسبات "كل" أقوى صيغة من صيغ العموم، "كل" و"جميع"، فقوله: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا، قال مع ذلك: فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ، فمساكنهم ما تدمرت، والأصوليون يقولون: هكذا الجبال والسموات والأرض ما دمرت، فهذا الذي يسميه الشاطبي - رحمه الله -: العموم الاستعمالي، وقد سبق الكلام على هذا، والمراد: أن العرب قد تعبر بالعموم، ويَفهم مَن خاطبته أن المراد في كل موضع بحسب ما يصلح له، وذكرنا لكم أمثلة في قوله - تبارك وتعالى - عن ملكة سبأ: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:23]، وقلنا: ما أوتيت ملك سليمان مثلاً، وإنما أوتيت من كل شيء مما يصلح لملكها ويقيمه، وكذلك في قوله عن مكة الحرم: يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص:57]، وتوجد ثمرات في الدنيا لا تجبى إليه، وهذا معروف، وما اعترض أحد من هؤلاء العرب الأقحاح على ذلك.

ومن ثَمَّ فإن الأصوليين قالوا: إن العقل يخصص، والحس يخصص، قالوا هنا: السموات والأرض والجبال ما دمرت، خصصه الحس؛ لأننا نشاهدها، يقال: هذا فيه نظر؛ لأن الأصوليين يطلقون أمثال هذا ويقصدون به توهين النصوص، باعتبار أن الذي لم يرد فيه مخصص لفظي من العمومات خصصته مخصصات أخرى، والعموم عندهم إذا دخله التخصيص أضعفه، ومن ثَمَّ يقولون: فإن هذه النصوص من الوحي الكتاب والسنة ما ثبت منها بالآحاد فهو ظني، وما ثبت منها بالتواتر فهو قطعي الثبوت ظني الدلالة، باعتبارات معينة، منها: أن أكثرها عمومات، ويقولون: إن العام الباقي على عمومه نادر، وهذا كلام كله غير صحيح، ولهذا زهدوا في النصوص والوحي، وصاروا يشتغلون بالمقاييس العقلية، ومقاييسهم العقلية هذه في الواقع لا تفيد علمًا ولا يقينًا، بل أورثتهم الحيرة والشك، وكثر بينهم التفرق والاختلاف، فلو كانت تفيد اليقين لما اختلفوا فيها هذا الاختلاف، ولأورثتهم اليقين.

بِأَمْرِ رَبِّهَا أي: بإذن الله لها في ذلك، كقوله : مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذاريات:42] أي: كالشيء البالي؛ ولهذا قال : فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ أي: قد بادوا كلهم عن آخرهم، ولم تبق لهم باقية، كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ أي: هذا حكمنا فيمن كذب رسلنا، وخالف أمرنا.

يعني: بعدما ذكر خبر هؤلاء جاء بالحكم العام؛ ليدخل فيه كل من كان بهذه الصفة، فذلك لا يختص بهم، فالله - تبارك وتعالى - يذكر ذلك عظة وعبرة للمكذبين، والله المستعان.

انظر إلى هؤلاء العتاة الذين أعطاهم الله قوة، وتمكينًا، وبسطة في الأجسام، كما قال الله: وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً [الأعراف:69]، أهلكوا بالريح التي هي هذا الهواء اللطيف حينما يشدد فيدمر كل شيء، وقوم نوح ﷺ أهلكوا بالماء الذي هو ألطف الأشياء، وهكذا فرعون، وهكذا الإهلاك بالصيحة، يعني: بهذه الأمور: الماء، والهواء، والصوت الشديد المزعج المرتفع المهلك، صوت ويموت الخلق، بهذا الماء يغرقون، أو بهذا الهواء، فما أضعف الخلق وأهونهم على الله - تبارك وتعالى - إذا عصوا أمره!.

وروى الإمام أحمد: عن عائشة - ا - أنها قالت: ما رأيت رسول الله ﷺ مستجمعًا ضاحكًا حتى أرى منه لهواته، إنما كان يبتسم، وقَالَتْ: وَكَانَ رسول الله ﷺ إِذَا رَأَى غَيْمًا - أَوْ رِيحًا - عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إن النَّاس إِذَا رَأَوُا الْغَيْمَ فَرِحُوا رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عَرَفْتُ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةَ؟ فَقَالَ رسول الله ﷺ: يَا عَائِشَةُ، مَا يُؤَمِّنُنِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ، قَدْ عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ، وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ وَقَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا، وَأَخْرَجَاهُ[1].

روى الإمام أَحْمَدُ: عَنْ عَائِشَةَ - ا - قالت: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا رَأَى نَاشِئًا فِي أُفُقٍ مِنْ آفَاقِ السَّمَاءِ تَرَكَ عَمَلَهُ وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاتِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا فِيهِ، فَإِنْ كَشَفَهُ اللَّهُ حَمِدَ اللَّهَ - تعالى -، وَإِنْ أَمْطَرَ قَالَ: اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا[2].

وقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: عَنْ عَائِشَةَ - ا - قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا عَصَفَتِ الرِّيحُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا، وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، قَالَتْ: وَإِذَا تَخَيَّلت السَّمَاءُ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَخَرَجَ وَدَخَلَ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا أَمَطَرَتْ سُرِّيَ عَنْهُ، فَعَرَفَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ - ا -، فَسَأَلَتْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَعَلَّهُ يَا عَائِشَةُ كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا[3].

وَقَدْ ذَكَرْنَا قِصَّةَ هَلَاكِ قوم عَادٍ فِي سُورَتَيِ "الْأَعْرَافِ" و"هُودٍ" بما أغنى عن إعادته هنا، ولله تعالى الحمد والمنة.

يعني: إذا كان النبي ﷺ يحصل له مثل هذا الخوف - وهو أتقى الأمة لله - إذا رأى السحاب فكيف إذا حصل كسوف، أو خسوف، أو حصلت ريح عاتية، أو نحو ذلك من الأمور التي توجب الخوف؟، يعني: السحاب إذا رآه الناس فرحوا، لكن كيف تكون الحال إذا رأى أمرًا مما يخاف منه الناس؟، بهذا يعرف الإنسان قدر الغفلة التي مُني بها.

  1. أخرجه أحمد، رقم: (24369)، والبخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم [الأحقاف: 24]، رقم: (4829)، ومسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب التعوذ عند رؤية الريح والغيم، والفرح بالمطر، رقم: (899).
  2. أخرجه أحمد، رقم: (25570)، وأبو داود، أبواب النوم، باب ما يقول إذا هاجت الريحُ، رقم: (5099)، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
  3. أخرجه مسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب التعوذ عند رؤية الريح والغيم، والفرح بالمطر، رقم: (899).