يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم، ويفعلوا الخير بجهدهم، وطاقتهم، ومخبراً لهم أنه من أصلح أمره لا يضره فساد من فسد من الناس سواء كان قريباً منه، أو بعيداً.
هذا الآية سبق الكلام عليها في الآيات التي يخطئ كثير من الناس في فهمها أعني قوله تعالى: لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [سورة المائدة:105] وقلنا: ليس المراد أن يكون الإنسان مهتدياً في نفسه، بمعنى أنه ينشغل بنفسه دون أن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ثم يحتج بها لإسقاط التبعة عن نفسه، ويقول: إن الله يقول: لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [سورة المائدة:105] فكل إنسان يتحمل ذنبه، وأنا لست معنياً بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهذا غير صحيح إطلاقاً.
قال ابن كثير: "يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم، ويفعلوا الخير بجهدهم، وطاقتهم، ومخبراً لهم أنه من أصلح أمره لا يضره فساد من فسد من الناس سواء كان قريباً منه أو بعيداً" يكون الإنسان قد أصلح أمره بأن يكون كما عبر بعض السلف: "إذا عملتم بطاعة الله لم يضركم عمل غيركم بمعصيته"، ويفسره قول الآخرين: المعنى إذا أمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر؛ لأن الإنسان لا يكون مهتدياً إلا إذا قام بما أمره الله به، وإلا فإن الله يقول: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ [سورة المائدة:79] فلا يكون مهتدياً بحال من الأحوال، ولا يكون عاملاً بطاعة الله - تبارك وتعالى - إذا كان لا يأمر، ولا ينهى، فهذا غير مهتدٍ بل هو عاصٍ، ومقصر تقصيراً قد يستوجب عليه اللعن، والطرد، والإبعاد عن رحمة الله - تبارك وتعالى -، ولذلك فإن معنى قوله تعالى: لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [سورة المائدة:105] إذا أمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر؛ فإنه لا يضركم ضلال من ضل، فاعملوا بما أمرتم به، وليس عليكم هداية الناس، ولن تحاسبوا عنهم، ويدخل في هذا قول من قال: إن المراد بقوله: لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [سورة المائدة:105] أن الرجل ربما كان مسلماً، وأبوه على الكفر، وأخوه على الكفر، وأمه على الكفر؛ فإن ذلك لا يضره ولو كان هؤلاء من عتاة الكفار فإن ذلك لا ينقصه من مرتبته، ولا يؤثر في عاقبته، وأجره عند الله - تبارك وتعالى -، فإبراهيم كان أبوه بتلك المثابة، وما نقص ذلك في مرتبته، فإذا أنتم بقيتم على طاعة، واستقامة، وهدى؛ فإن كفر من كفر ولو كان من أقرب الناس لا ينقص من مرتبتكم، ولا يذهب بشيءٍ من أجركم، ولا يؤثر في عاقبتكم قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [سورة المدثر:38] وقال - تبارك وتعالى -: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [سورة الأنعام:164] فقد يكون الإنسان مهتدياً وأخوه من أبعد الناس فلا يضره ذلك، وهكذا كان أصحاب النبي ﷺ يسلم الرجل، ويبقى أهله في كثير من الأحيان على الكفر، فهذا هو معنى الآية، وليس المقصود بذلك أن يبقى الإنسان سلبياً لا يأمر، ولا ينهى، ويظن أنه بذلك يكون محققاً للنجاة.
كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - يقول: هاهنا ناس يقولون: في المسجد لحىً غوانم - يقال: لحية غانمة، أي: رجُل طيب - يقولون: في المسجد لحىً غوانم يقرؤون القرآن، ويذكرون الله ، وليس لهم شأن بغيرهم، يعني لا يأمرون بالمعروف، بل تاركين الناس، وكافِّين عنهم، لا يتدخلون بشئونهم، ولا يغيرون عليهم منكراً، يقول ابن عبد الوهاب: أما أنا فأقول: إنهم لحىً فوائن، والفوائن جمع فائن، والفائن في تعبيرهم يعني المرأة السيئة البغي، يقال: فائن أي: تالف، وسيئ، وفاسد العمل غاية الفساد، يقول الشيخ: أنا ما أقول: إنهم لحى غوانم إنما أقول لحى فوائن؛ لأنهم لا يأمرون، ولا ينهون، تجد الواحد جالساً على مصحفه لا يغير شيئاً، فالفساد والشر ينتشر وهو يذهب إلى المسجد ليس له شأن بهذا كله، وهذا لا يجوز.
قوله ﷺ : إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه يوشك الله أن يعمهم بعقابه هذا هو الذي مشى عليه أهل العلم، وهذا الذي ذكره ابن جرير في تفسير الآية، وكذا غيره من المفسرين كالقرطبي، والشنقيطي، وغير هؤلاء، وهو معنىً لا ينبغي أن يُختلف فيه فقوله تعالى: لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [سورة المائدة:105] معناها إذا قمتم بما أمرتم به، ومن ذلك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فإن كفر من كفر، ومعصية من عصى؛ لا تضركم، حتى لو وقع العذاب فإن الذين يأمرون، وينهون؛ ينجيهم الله ، وأما إذا سكت الناس فإذا نزل العذاب أخذ الساكتين معهم، وفي الحديث: "أنهلك وفينا الصالحون؟" قال ﷺ : نعم إذا كثر الخبث[2].
- أخرجه أحمد (16) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
- أخرجه البخاري في كتاب الفتن - باب قول النبي ﷺ: ويل للعرب من شر قد اقترب (6650) (ج 6 / ص 2589) ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة - باب اقتران الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج (2880) (ج 4 / ص 2207).