هذه الآية قال جماعة من أهل العلم كمكي بن أبي طالب، والنحَّاس، والسعد التفتزاني - وهو من علماء اللغة من أهل البلاغة والبيان - وغير هؤلاء، قالوا: "هذه أصعب آية في القرآن إعراباً، ومعنىً، وحكماً" كما ذكر هذا بعض المفسرين غير هؤلاء، وهذه الآية لا شك أنها تحتاج إلى تدبر، وتأمل.
قوله تعالى: يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَان أي شهادة اثنين، أو أن يشهد اثنان، وبعضهم يقول: في العبارة حرف مقدر محذوف أي شهادة ما بينكم، وحذف للعلم به كقوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ [سورة سبأ:33] أي مكرٌ في الليل وَالنَّهَارِ [سورة سبأ:33] أي مكرٌ في النهار.
وفي قوله: شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ المعنى المتبادر للشهادة معروف، ومن أهل العلم من حملها على هذا المعنى قال: المقصود الشهادة التي تُتحمل وتُؤدى إذا طُلبت لإثبات حق، أو لدفع أمر من الأمور، فهذه الشهادة هنا يراد بها المعنى المعروف للشهادة، يقال: شهد على كذا، ويشهد على كذا.
ومن أهل العلم من قال: إن الشهادة في هذه الآية تعني الوصية، وهذا معنىً بعيد؛ إذ لو قيل: إن المراد بها الوصية لاختل المعنى، تأمل: يا أيها الذين آمنوا وصية ما بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية!! نجد أن المعنى يختل ولا ينضبط.
وبعضهم يقول: هي بمعنى الحضور للوصية من الشهود أي ضد الغياب، والمعنى إذا حضرتم وصية الميت، فالشهادة بمعنى شهد الوصية أي حضرها يقال: شهد الواقعة يعني حضرها، فالشهادة بمعنى الحضور الذي يقابله الغيبة، وليس المقصود بها الشهادة المعروفة، هكذا قال بعض أهل العلم وهو بعيد أيضاً؛ لأن المسألة ليست مجرد الحضور فهو رتّب على الحضور أمراً آخر بعده.
ومن أهل العلم من قال: إن الشهادة المراد بها هنا اليمين، وهذا الذي مشى عليه كبير المفسرين ابن جرير الطبري، حيث قال: الشهادة بمعنى اليمين؛ لأنه ذكر الأيمان بعدها، وقال: ولا نعلم شهادة يطلب فيها الأيمان؛ فالشاهد يؤدي الشهادة لكن كونه يوقف ويحلف بعد الصلاة فإذن شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ أي يمين، ففسرها بهذا، وهذا وإن كانت تحتمله الآية لكنه أيضاً لا يخلو من إشكال وهو حمل للفظة على غير المعنى المتبادر والقرينة التي ذكرها أنه غير معلوم إلى آخره، لكن يقال: هذا حكم من الأحكام فيكون بهذا الاعتبار إذا حصل الشك والريبة مستثنى، وقد ردَّ الحافظ ابن القيم من ثلاثة عشر وجهاً على قول من قال: إنها اليمين في كتابه الطرق الحكمية[1]، وهي ردود في جملتها قوية، وجيدة، وتُبيّن ضعف هذا القول، وعلى كل حال فالأقرب - والله أعلم - أن تفسر الشهادة بمعناها المتبادر فقوله: شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ أي شهادة ما بينكم، أو ليشهد بينكم اثنان ذوا عدل منكم.
والذي فسرها بالوصية قال في قوله: اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ [سورة المائدة:106]: أي وصيان، وهذا بعيد، وهكذا الذي فسرها بالحضور، فقال: أي الذين يحضرون، وهذا أيضاً كما يقول ابن القيم: إخراج للكلام عن فائدته، والله أعلم.
وعلى كل حال فقوله: شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ يقول: أي شهادة اثنين، أو أن يشهد اثنان في مثل هذه الحال كأن يكون إنسان مسافراً وحضرته الوفاة، وعنده وصية؛ فإن وجد من المسلمين أحداً أشهد منهم اثنين عدلين عليها.
وقوله تعالى: اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ [سورة المائدة:106] يعني من المسلمين، خلافاً لقول من قال: إن المراد قرابة الميت، أو عشيرته.
وقوله: أَوْ آخَرَانِ [سورة المائدة:106] أي من غير المسلمين خلافاً لقول من قال: أي من الغرباء؛ فهذا بعيد، ولم يحدد هنا فيدخل فيه أهل الكتاب، وغير أهل الكتاب، وهذا هو الموضع الوحيد الذي تصح فيه شهادتهم، فتقبل شهادتهم هنا للاضطرار حيث مات هذا الرجل في سفر، ولم يوجد إلا هؤلاء من غير المسلمين، فيشهدون في الوصية أن الميت أوصى بكذا وكذا، وأدى كذا وكذا، وهذا متاعه، وهذا ماله.
وهذه الآية أكثر السلف يقولون: إنها محكمة لم تنسخ، ومعمول بها إلى اليوم، وذهب طائفة - ومنهم الأئمة الثلاثة غير الإمام أحمد - إلى أنها منسوخة بالنصوص الأخرى كقوله تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ [سورة الطلاق:2] وما شابه ذلك، والواقع أنه لا تعارض بين عام وخاص، فقوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ [سورة الطلاق:2] إن وجد، فإن لم يوجد في السفر فهذه حالة تستثنى، فالأصل أن نُشهد كما قال الله : مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء [سورة البقرة:282] فإن لم يوجد من نرتضيه في مثل هذه الحال خاصة فعندئذ يجوز إشهاد هؤلاء، فالأئمة الثلاثة مشوا على أنها منسوخة، وهذا فيه بعد، ولذلك نقول: الجمهور من السلف فمن بعدهم على أن الآية محكمة، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، ولا تعارض بين عام وخاص.
وقوله: أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [سورة المائدة:106] روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس - ا - في قوله: أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [سورة المائدة:106] قال: من غير المسلمين، يعني أهل الكتاب.
وقوله تعالى: إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ [سورة المائدة:106] أي سافرتم، فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ [سورة المائدة:106] وهذان شرطان لجواز استشهاد الذميين عند فقد المؤمنين: أن يكون ذلك في سفر، وأن يكون في وصية كما صرح بذلك شريح القاضي، روى ابن جرير عن شريح قال: لا تجوز شهادة اليهود، والنصارى؛ إلا في سفر، ولا تجوز في سفر إلا في الوصية.
وقوله تعالى: تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ [سورة المائدة:106] قال العوفي: قال ابن عباس - ا -: يعني صلاة العصر، وكذا قال سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي، وقتادة وعكرمة، ومحمد بن سيرين، وقال الزهري: يعني صلاة المسلمين".
ففي قوله تعالى: تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ [سورة المائدة:106] القول بأن هذه الصلاة هي صلاة العصر هو قول أكثر أهل العلم، ومنهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، وكذا هو قول جمهور السلف ومن بعدهم؛ وذلك لأن القسم بعد العصر أعظم، فقد جاء الحديث في الرجل الذي حلف بعد العصر على سلعة كاذباً[2].
ومنهم من قال: إن الله ذكر هذا الوقت لأنه وقت معظم عند الكفار باعتبار أنه وقت قرب غروب الشمس، وهذا القول غير صحيح إطلاقاً، بل هو وقت معظم عند المسلمين، وهو وقت للذكر، وبعضهم يقول: الصلاة هنا صلاة الظهر.
ومن أهل العلم من قال: إنه لا يختص بالعصر؛ لأن قوله تعالى: تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ [سورة المائدة:106] لم يحدد فيه صلاة معينة، فيدخل فيه العصر، وسائر الفرائض؛ إلا أن القول بأنها صلاة العصر قول قريب.
وأما تحديد الوصية بأهل الذمة فإن هذا لا دليل عليه، فإن الله قال: ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ [سورة المائدة:106] يعني من المسلمين خلافاً لمن فسره بأقارب الميت، وعشيرته، ثم قال: أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [سورة المائدة:106] يعني من غير المسلمين أياً كانوا؛ فهذه حال ضرورة، ثم إن القول بأن ذلك يختص بأهل الذمة قد يرده ما ورد في سبب النزول كما في الحديث الذي أخرجه البخاري أنها نزلت في رجل من بني سهم خرج من مكة، وحضرته الوفاة في أرض ليس فيها مسلم، فشهد على وصيته رجلان هما عدي بن بداء، وتميم الداري، وهؤلاء لم يكونا من أهل الذمة، فتميم الداري من أهل الشام، وأهل الشام في ذلك الوقت لم يكونوا من أهل الذمة في عهد النبي ﷺ، فالحاصل أن سبب النزول يدل على هذا، والقول بأنه يختص بأهل الذمة قول يحتاج إلى دليل، والعلم عند الله .
فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ [سورة المائدة:107] أي: فيحلفان بالله إِنِ ارْتَبْتُمْ أي: إن ظهرت لكم منهما ريبة أنهما خانا أو غلَّا فيحلفان حينئذ بالله لاَ نَشْتَرِي بِهِ [سورة المائدة:106] أي: بأيماننا، قاله مقاتل بن حيان".
يعني أن الضمير - الهاء في قوله: لاَ نَشْتَرِي بِهِ [سورة المائدة:106] عائد إلى اليمين، وهذا هو المتبادر وهو اختيار ابن جرير - رحمه الله - خلافاً لمن قال: إن الضمير في قوله: لاَ نَشْتَرِي بِهِ [سورة المائدة:106] يرجع إلى الله، أي لا نبيع حظنا من الله بعرض قليل من الدنيا.
وبعضهم يقول: لاَ نَشْتَرِي بِهِ يعني لا نشتري بهذه الشهادة عرضاً قريباً من الدنيا، أو لا نستبدل بها عرضاً زائلاً، والأقرب أنه يرجع إلى اليمين؛ لأن الكلام في اليمين، يقول الله: فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ [سورة المائدة:107]، ومن قال: إنه عائد إلى الله فهذا باعتبار أنه أقرب أو آخر مذكور، والله أعلم.
يقول: "أضافها إلى الله تشريفاً لها، وتعظيماً لأمرها" وكذلك الله هو الذي أمر بإقامتها كما قال تعالى: وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ [سورة الطلاق:2].
- الطرق الحكمية لابن القيم (ص 272 - 274).
- أخرجه البخاري في كتاب المساقاة - الشرب - باب من رأى أن صاحب الحوض والقربة أحق بمائه (2240) (ج 2 / ص 834) ومسلم في كتاب الإيمان - باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية وتنفيق السلعة بالحلف وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (108) (ج 1 / ص 103).