الأوليان تثنية الأَوْلى، والمراد بالأوْلى الأقرب إلى الميت، أي الأولى بالميراث كالوالد، والولد مثلاً.
وقراءة الجمهور لهذه الآية بالبناء للمجهول هكذا مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فالأوليان يمكن أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف أي كأنه قيل: فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ استُحِقَّ عَلَيْهِمُ فقيل: من هما؟ فقال: هما الأوليان، أي أننا لا نأتي بأي إنسان ليشهد، أو يحلف، وإنما نأتي بالأولى بالميت، فـ"هما" مبتدأ، والأوليان خبر، كما أنه يمكن أن يعرب الأوليان بدلاً من الضمير في قوله: يِقُومَانُ، ويمكن أن يكون بدلاً من آخران.
وقوله: مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ يعني من الذين وقع عليهم الجناية وهم أهل الميت، وعشيرته؛ فهم أولى بالشهادة.
وابن جرير - رحمه الله - يقول: فآخران من أهل الميت الذين استحق المؤتمنان على مال الميت الإثم فيهم يعني استُحِقَّ الإثم فيهم، وهذا يرجع إلى المعنى السابق باعتبار أنهم جنوا على هؤلاء بأخذ أموالهم.
وعلى القراءة الأخرى: من الذين اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ [سورة المائدة:107] بالبناء للمعلوم يعني الأوليان بالميت فيقومون من بين عشيرته، وأقاربه؛ بهذه الشهادة، فيظهر بذلك كذب هؤلاء الذين كتموا وخانوا في هذه الوصية، فهم أولى بالميت، وأولى بالمال، ولا حاجة لتحديد أنهما أولى بالمال أو أولى بالميت؛ لأن ذلك متلازم، فالذي هو أولى بالميت يكون أولى بالمال والعكس، والله أعلم.
قوله: فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا [سورة المائدة:107] يعني ليميننا أحق من شهادتهما، وقد قلنا: إن الشهادة في قوله: شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ [سورة المائدة:106] المراد بها الشهادة المعروفة، ويمكن تفسير الشهادة هنا في قوله: لَشَهَادَتُنَا [سورة المائدة:107] بالشهادة المعروفة أيضاً وكذلك أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا [سورة المائدة:107] كما أنه يمكن أن تفسر هنا باليمين باعتبار أنهما يقومان فيحلفان، فالمقصود أن تفسير الشهادة باليمين هنا له وجه، والله أعلم.
قوله: "إذا ظهر لوث في جانب القاتل" اللوث عبارة عن أمارات وليست بيَّنة، ومثال ذلك أن يوجد إنسان يتشحط بدمه، وإنسان آخر معه سكي،ن وبيده دم، فمثل هذا يكون هو المتهم الأول في قتله، وإن كان هذا ليس بالضرورة، فقد تقع بعض الأمور مثل ما ذكر التنوخي في كتابه الفرج بعد الشدة حيث قال: خرج رجل في ليلة ظلماء، فنظر كأنه رأى بعض اللصوص في بغداد، فخافهم، فدخل في مكان خرِب مظلم، وتوراى، وبقى فيه، فلما أصبح نظر فإذا رجل مقتول في هذا المكان، فرآه الناس، وأُخذ فوضع في الحبس نحو ثمان سنين، فحصل أمر بعد ذلك به فرج الله عنه، فالمقصود أنه في مثل هذه الحال لا يقطع بهذا، لكن هذه قرائن، وأمارات، ومثلها الإحن، والعداوات، وما أشبه ذلك بحيث لو جاء أولياء المقتول وقالوا: نحن ما نعرف إلا هذا؛ لأنه سبق أنه هدده، وتوعده، أو سبق أنه حاول قتله أكثر من مرة؛ فدمُه في بطن هذا، وفي هذه الحالة يُلجأ إلى الحلف.
يعني لو وُجد رجل مقتول في محل، أو مكان، أو حي، أو في عشيرة، أو في أرض قبيلة؛ فجاء أولياء المقتول وقالوا: هؤلاء هم الذين قتلوه حيث قُتِل بينهم، أو قتل في بيت هذا الرجل؛ فعندئذ يحلفون، وهذه تسمى القسامة حيث يأتي خمسون من هؤلاء، وأولئك إذا أرادوا نفي هذه التهمة أتوا أيضاً بخمسين، فهذا من الأخذ بالأمارات، وهذه المسألة فيها خلاف، لكن إذا تعذر القطع واليقين فإن الشريعة دلت على أنه ينتقل في بعض الحالات إلى القرائن والأمارات مع أنه لا يقطع بها، وهذا لا إشكال فيه، ففي اللعان يقوم الرجل، ويشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم تقوم المرأة وتشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، وفي القصة المعروفة النبي ﷺ قال: الله يعلم أن أحدكما كاذب[1]، وهذا لا بد منه قطعاً؛ لأن الرجل حلف عليها أنها زنت، وهي حلفت أنها لم تزنِ؛ فلا بد أن أحدهما صادق، والآخر كاذب، لكن هذا هو الحكم الشرعي أعني الأخذ بالظاهر.
وقد ذكر النبي ﷺ أوصافاً معينة للجنين إن جاءت به بهذه الصفة فهو للرجل الذي اتُّهِمت به، وإن جاءت به بالصفة الأخرى فهو لأبيه، فجاءت به على الوصف المكروه، فقال النبي ﷺ: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن[2] أي: لرجمها - عليه الصلاة والسلام - فهذا أخذ بالظاهر.
والشهود عندما يشهد اثنان على شيء فإنه يُستحق بهذه الشهادة، مع أنهما قد يكونا كاذبين، وكذا لو شهد أربعة على امرأة أنها زنت، وجاءوا بالشهادة مفصلة؛ عُمل بهذه الشهادة؛ لأن هذا أمر الله به؛ إلا أن مثل هذا لا يقطع به تماماً، وهذا له أمثلة كثيرة.
- أخرجه البخاري في كتاب الطلاق - باب قول الإمام للمتلاعنين: إن أحدكما كاذب، فهل منكما من تائب؟ (5006) (ج 5 / ص 2035) ومسلم في كتاب اللعان (1493) (ج 2 / ص 1130).
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة النور (4470) (ج 4 / ص 1772).