الجمعة 26 / شوّال / 1446 - 25 / أبريل 2025
ذَٰلِكَ أَدْنَىٰٓ أَن يَأْتُوا۟ بِٱلشَّهَٰدَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَآ أَوْ يَخَافُوٓا۟ أَن تُرَدَّ أَيْمَٰنٌۢ بَعْدَ أَيْمَٰنِهِمْ ۗ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱسْمَعُوا۟ ۗ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَٰسِقِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

وقوله: ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا [سورة المائدة:108] أي: شرعية هذا الحكم على هذا الوجه المرضي من تحليف الشاهديْن الذميين.

قوله: أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ يعني هؤلاء الذين قال عنهم: إنهم أهل الذمة - يعني غير المسلمين - عليهم أن يأتوا بالشهادة على وجهها؛ لأنهم يعرفون أنهم إن خانوا فسترد الأيمان إلى غيرهم من أولياء الميت، ويحلفون، ويحكم على هؤلاء بمقتضى ذلك بأنهم كذبة خونة، فيقولون من البداية: لماذا نضع أنفسنا في هذا المقام الذي يشنَّع علينا فيه؟ فيأتوا بالشهادة على وجهها.
من تحليف الشاهديْن الذميين، وقد استريب بهما؛ أقرب إلى إقامتهما الشهادة على الوجه المرضي.

يعنى عليهم أن يأتوا بالشهادة على وجهها خوفاً من الله، أو خوفاً من أن ترد الأيمان بعد أيمانهم إلى غيرهم من أولياء الميت، فإذا ما خافوا من الله خافوا على الأقل من الأمر الآخر.
وقوله: أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ [سورة المائدة:108] أي: يكون الحامل لهم على الإتيان بالشهادة على وجهها هو تعظيم الحلف بالله، ومراعاة جانبه، وإجلاله، والخوف من الفضيحة بين الناس إن ردت اليمين على الورثة فيحلفون، ويستحقون ما يدَّعون، ولهذا قال: أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ [سورة المائدة:108].
ثم قال: وَاتَّقُوا اللّهَ [سورة المائدة:108] أي: في جميع أموركم وَاسْمَعُواْ أي: وأطيعوا وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [سورة المائدة:108] أي: الخارجين عن طاعته، ومتابعة شريعته.

هذا الآية سبب نزولها كما في البخاري هو ما وقع للرجل من بني سهم لما خرج فأدركه الموت في أرض ليس فيها مسلم، فأراد أن يوصي فشهد على ذلك رجلان من غير المسلمين هما: عدي بن بداء، وتميم الداري، وجاءوا إلى أهله، وأوليائه، وأعطوهم ما ترك، وقالوا: هذا ما أوصى به، ثم بعد ذلك وجدوا إناء من فضة مخضوباً بذهب يباع في مكة وهم يعرفون أنه لصاحبهم؛ لأنه ما اشتراه للتجارة وإنما اشتراه للاقتناء، فالحاصل أنهم سألوا الذين يبيعونه، فقالوا: اشتريناه من تميم الداري، وعدي بن بداء، فكان ذلك محركاً لهم للمطالبة بهذا الحق[1].
وفي بعض الروايات: أن تميم الداري لما أسلم ندم، وكانوا قد باعوه بألف درهم، وأخذ تميم خمسمائة، وأخذ عدي خمسمائة، فندم تميم لما أسلم، وذهب إلى أهله، وأعطاهم الخمسمائة، وقال: عند صاحبي مثلها، وذكر لهم ما حصل، فطالبوا الآخر؛ فنزلت هذه الآيات[2].
وبالنسبة لمعنى قول الله تعالى: يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [سورة المائدة:106] أن الله يعلم المسلمين كيف يتصرفون إذا أدركهم الموت وهم بأرض ليس فيها أحد من المسلمين، فإن كان فيها أحد من المسلمين فيشهد على ذلك اثنان، فإن لم يوجد فيشهد آخران من غير المسلمين لقوله تعالى: أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [سورة المائدة:106].
قوله: إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ [سورة المائدة:106] هذا قيد، ومعناه إن حصل ذلك الموت في حال السفر.
يقول تعالى: تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ [سورة المائدة:106] يعني يُحبسون في حال الريبة وإلا فالذي عليه عامة أهل العلم أنهم لا يحبسون من غير ريبة.
ومعنى يحبسون أي: يوقفون إلى ما بعد الصلاة، فالأصل أنهم إذا شهدوا، وأدوا ما تحملوا، وائتمنوا عليه، ولم تقم ريبة تستوجب الطعن في هذه الشهادة؛ فعندئذ يقبل ذلك منهم، فإن حصلت ريبة كما قال: فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا [سورة المائدة:106] أي أن هذا يكون فيما لو جاء أولياء الميت وقالوا: لا، هو أخبرنا عن أشياء، أو اتصل علينا، أو وجدنا كتاباً له يذكر فيه أشياء أخرى غير موجودة، أو نحن حمّلناه أشياء حينما ذهب على أن يرجع بها والآن هي غير موجودة، ففي هذه الحال فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [سورة المائدة:106] أي أنهم يُحبسون بعد صلاة العصر، ويقال لهم: احلفوا أنكم لا تشترون بهذه الأيمان ثمناً ولو كان ذا قربى، يعني ما تحلفون كاذبين من أجل هذا الذي أخذتموه، وطمعت نفوسكم فيه من عرض الدنيا الزائل، فيحلفون، ثم يقوم من أولياء الميت اثنان من أقرب الناس إليه فيحلفان أن هؤلاء قد خانوا، وكذبوا، فيقبل ذلك فيهم، فيتحملون غرمه، فإن كانت دراهم ردوها، وإن كان شيئاً من متاع أو غيره وجد عندهم، وقال أولياء الميت: هذا لنا أُخذ كأن يكون ثوباً يلبسه، أو عمامة، أو ساعة، أو خاتماً، وقد يكون الخاتم مثلاً قيمته مئات الألوف، أو عشرات الألوف، وقد يكون بريال، فالمقصود أنهم إذا قالوا: هذا الخاتم خاتم صاحبنا، وهذه ساعته، وهذه نظارته؛ نحن نعرفها، فيحلفون فإذا حلفوا أخذ منه، وأعطي لهؤلاء، أو يغرمون القيمة إذا لم يوجد.
يقول تعالى: ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا [سورة المائدة:108] يعني ذلك أدنى أن يأتي أولئك - أي غير المسلمين - بالشهادة؛ لأنهم يعرفون أن قولهم ليس هو النهائي، فإن قام أهل الميت، وحلفوا؛ استحقوا ذلك، فمن البداية يقولون: نحن لماذا نخون، أو نكتم؛ ما دام الأمر كذلك؟ هذا هو المعنى، والله أعلم.
  1. أخرجه البخاري في كتاب الوصايا - باب قول الله تعالى: يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إلى قوله: وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [سورة المائدة:106-108] (2628) (ج 3 / ص 1022).
  2. أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ باب تفسير سورة المائدة (3059) (ج 5 / ص 258) وهذه الرواية كما يقول الألباني: ضعيف الإسناد جداً، إلا أن أصله في البخاري كما في الرواية السابقة.

مرات الإستماع: 0

"ومثل قول الأوليين: إنا إذا لمن الآثمين ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا [المائدة: 108] الإشارة بذلك إلى الحكم الذي، وقع في هذه القضية، ومعنى أدنى: أقرب."

يعني من التحليف تحليف الشاهدين الذميين إذا استريب بهما فيعرفان أنه سيقوم آخران من قرابة الميت، ويحلفان، ويستحقان المال؛ فيكون ذلك رادعا لهما عن مثل هذه الأمور من كتمان الشهادة، ومن البداية يأتي بها على وجهها؛ لئلا يقع في هذا الموقف، ويظهر كذبه.

"عَلَى وَجْهِهَا [المائدة: 108] أي: كما وقعت من غير تغيير، ولا تبديل أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ [المائدة: 108] أي: يخافوا أن يحلف غيرهم بعدهم، فيفتضحوا."

يعني أن ترد اليمين على الورثة فيقوم اثنان منهم فيحلفان.