طبعاً فيما يتعلق بالآية السابقة فهناك أقوال فيها بعد، وذلك كقول من قال: لا علم لنا أي ببواطنهم، أو قول من قال: لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا، فهذا فيه بعد؛ لأنه إنما يسألهم عما واجهوه من جواب قومهم، ومعلوم أن البواطن أمرها إلى الله ، وما ذكر ثانياً من أن ذلك لكمال التفويض هو الأقرب، والله تعالى أعلم.
قوله: إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ وهو جبريل هذا هو الأقرب، وهو المتبادر، وبعضهم يقول: إن روح القدس هنا يعني الطهر، أي أن هذا من باب إضافة الموصوف إلى الصفة أي الروح الطاهرة، وحتى لو فسر بهذا فالروح الطاهرة إذا أطلق بمثل هذا اللفظ فإنه جبريل - عليه الصلاة والسلام -؛ لأن نظائره في القرآن محمولة على هذا قال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ [سورة النحل:102] فهو هنا جبريل، وكذلك قول النبي ﷺ: إن روح القدس نفث في روعي[1] يعني جبريل - عليه الصلاة والسلام -، فالحاصل أن بعضهم يقول: إن المراد بقوله: إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ الروح الطاهرة التي خصه الله بها، ولذلك شرفها بنسبتها إليه، وأنها إضافة تشريف وليست إضافة خلق.
وبعضهم يقول: قوله: إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ يعني ما كان يقوله بإحياء الموتى حيث ترجع إليهم الأرواح، وهذا بعيد، والأقرب أنه جبريل .
قوله تعالى: تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ هذه هي المعجزة، وقوله: وَكَهْلاً كلامه في الكهولة ليس بمعجزة؛ وإنما أراد أنه كلمهم في المهد، وكلمهم في كهولته على حد سواء، وبالنسبة لكلامه في المهد كان إظهاراً للمعجزة، وكان مما قال لهم: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [سورة مريم:30] إلى آخره، وظهرت بكلامه براءة أمه، وأما كلامه في الكهولة فهو في دعوته إلى الله ، وبيان بعثته، إلى غير ذلك مما أُمر بتبليغه.
والمهد معروف وهو ما يوطأ للصغير من الفراش أو نحو ذلك، والكهولة يرى بعض أهل العلم أنها تبدأ من الثلاثين، وأخذوا ذلك من هذه الآية؛ لأن عيسى رُفع ولم يبلغ الأربعين بعدُ، ولذلك قالوا: من بلغ الثلاثين فهو كهل، وعلى كل حال هنا أطلق عليه أنه كهل، ومثل هذه الإطلاقات قد تتفاوت، فهنا دلَّ على أن من بلغ الثلاثين يقال له كهل، وقد يكون في كلام العرب أن ذلك يقال لمن بلغ سناً معينة، ولذلك يختلفون في مثل هذه الأشياء مثل: الشيخ، والكهل، والشاب، وبلوغ الأشُدّ، فهم يختلفون في تقديره، وقد تكون بعض هذه الإطلاقات وإن تعددت كلها صحيحة لكن يشتد ذلك ويضعف بحسب المراحل السنية، فبلوغ الأشد مثلاً يمكن أن يكون كما قال بعضهم: هو سن البلوغ، وبعضهم قال: أن يبلغ ثماني عشرة سنة، وبعضهم قال: أن يبلغ الأربعين، وبعضهم قال: أن يبلغ الخمسين، وبعضهم قال غير هذا، فهذا الذي بلغ الخمسين قد اكتمل عقلُه، ونضجُه، ونموُّه من كل وجه فما بقي عليه إلا الضعف، ومن بلغ الأربعين فهو في أعلى اكتمال الأشد العقلي، والبدني، وليس بعده أي نمو يرجى لمثل هذا الإنسان إلا أن تحنِّكه التجارب، لكن إن كان سفيهاً وقد بلغ الأربعين فلا يرجى له بعد ذلك رشد؛ لأن اكتمال العقل، والفهم، والنضج؛ يكون في الأربعين، لكن المراهق أو الشاب الحدث قد يكون عنده شيء من النزوات، والطيش؛ لكن يرجى له بعد ذلك أن يهدأ، وينضج ، لكن إذا رأيته سفيهاً قد بلغ الأربعين فهذا لا يرجى له عقل بعد ذلك؛ لأنه قد بلغ منتهى العقل.
يقول: "وضمَّن تُكَلِّمُ تدعو" سبق الكلام على التضمين، وهنا التضمين ليس من أجل التعدية، يعني في مواضع أخرى يقال: هذا مضمن لكذا؛ لأنه عدي بكذا، والأصل أن هذا الفعل لا يتعدى بهذا الحرف، لكن هنا ليس من أجل التعدية وإنما من أجل المعنى أي أن تكليمه في حال الكهولة ليس بمعجزة، فهو مضمن معنى تدعو، أي أن المعجزة هي أنك تكلم الناس في المهد، كما أنك تدعوهم كهلاً.
في قوله تعالى في سورة الجمعة: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة الجمعة:2] من أهل العلم من قال في قوله: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ يعني الخط بالقلم، ومن القرائن التي ذكروها على هذا التفسير أنه ذكر قبل ذلك الأمية في مقام الامتنان، وقد ارتفعت عنهم هذه الأمية ببعث النبي ﷺ، وفي غزوة بدر كان فداء الأسارى ممن يعرف القراءة أن يعلم عشرة من صبيان المسلمين، ومن القرائن أيضاً أنهم قالوا: إذا كان قوله: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ [سورة الجمعة:2] يعني القرآن فإن قوله: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [سورة الجمعة:2] يكون تكراراً، والتأسيس مقدم على التوكيد، ونحن نقول: إن هذا التفسير تحتمله الآية هناك، وهنا لدينا مثال آخر من سورة المائدة أعني قوله: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة المائدة:110] قال ابن كثير: "الخط، والفهم" وهذا الذي قاله ابن كثير لتفسير الكتاب بالخط، والحكمة بالفهم؛ هو اختيار ابن جرير - رحمه الله - وهؤلاء قالوا في الكتاب هنا: الخط ولم يقولوا: كتاب الله ؛ لأنه قال بعده: وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ [سورة المائدة:110] فلو قيل: إن الكتاب هنا كتاب الله فسيكون هذا من قبيل التكرار، فيلاحظ أن القرينة هنا تشبه القرينة التي في سورة الجمعة.
ومن أهل العلم من قال: عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ يعني جنس الكتاب وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ يكون من قبيل عطف الخاص على العام؛ لأن ذلك أعلق به فعيسى - عليه الصلاة والسلام - أنزل عليه الإنجيل، وأما التوراة فكان متعبداً بها، ولم تنسخ إلا بعض الأحكام فيها، ولذلك قال في موضع آخر: مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ [سورة الصف:6] فذكر التوراة، والإنجيل بعده، لكن لهؤلاء الذين قالوا: إنه الخط بالقلم أن يقولوا: كيف عُلِّم جنسَ الكتاب إن لم يكن المراد به التوراة والإنجيل؟ هل هي صحف إبراهيم؟ سيقال: هذا بعيد، لذلك قالوا: هنا العطف يقتضي المغايرة وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ [سورة المائدة:110] قالوا: الْكِتَابَ الخط بالقلم وَالْحِكْمَةَ الفهم، يعني أن الله تعالى جمع له بين القراءة، والفهم، والتوراة، والإنجيل.
فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي [سورة المائدة:110] أي: فتنفخ في تلك الصورة التي شكلتها بإذني لك في ذلك فتكون طيراً ذا روح تطير - بإذن الله -، وخلقه.
وقوله تعالى: وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي [سورة المائدة:110] قد تقدم الكلام عليه في سورة آل عمران بما أغنى عن إعادته.
وقوله: وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي [سورة المائدة:110] أي تدعوهم فيقومون من قبورهم بإذن الله، وقدرته، وإرادته، ومشيئته.
وقوله تعالى: وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ [سورة المائدة:110] أي: واذكر نعمتي عليك في كفي إياهم عنكم حين جئتهم بالبراهين، والحجج القاطعة على نبوتك، ورسالتك من الله إليهم؛ فكذبوك، واتهموك بأنك ساحر، وسعوا في قتلك، وصلبك، فنجيتك منهم، ورفعتك إليَّ، وطهرتك من دنسهم، وكفيتك شرهم.
وهذا يدل على أن هذا الامتنان يكون واقعاً يوم القيامة، وعبر عنه بصيغة الماضي دلالة على وقوعه لا محالة، وهذا من أسرار الغيوب التي أطلع الله عليها رسوله محمداً ﷺ.
- أخرجه بهذا اللفظ عبد الرزاق في مصنفه (20100) (ج 11 / ص 125) وأبو نعيم في الحلية (ج 10 / ص 27) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2085) وهو عند البيهقي في شعب الإيمان (1185) (ج 2 / ص 67) ولفظه: إن الروح الأمين قد نفث في روعي.