ثم قيل: إن المراد بهذا الوحي وحي إلهام كما قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ الآية [سورة القصص:7] وهو وحي إلهام بلا خلاف كما قال تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً الآية [سورة النحل:69].
قال الحسن البصري: "ألهمهم الله ذلك"، وقال السدي: "قذف في قلوبهم ذلك فقالوا: آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [سورة المائدة:111]".
فقوله - تبارك وتعالى -: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي [سورة المائدة:111] يقول: إن هذا من وحي الإلهام، بمعنى أن الله ألقى ذلك في قلوبهم، والوحي قد يكون بهذا المعنى كما قال الله - تبارك وتعالى - في الآية الأخرى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى [سورة القصص:7]، وقد يكون بطريقة أخرى كما قال بعض أهل العلم في تفسير هذه الآية من سورة المائدة: أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ يعني عن طريق عيسى ﷺ؛ لأن أصل الوحي - على الأرجح مما ذكر في معناه والله تعالى أعلم - هو كل ما ألقيته إلى غيرك ليعلمه فهو وحي، ولا يشترط فيه - كما يقوله كثير من أهل العلم - الإلقاء السريع الخفي، فالسرعة والخفاء ليس من شرطه، وقد جاء جبريل إلى النبي ﷺ على صورة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر[1]، وتكلم معه بكلام فهمه الجميع، ولم يكن فيه هذا المعنى، وكذلك كان يأتي إلى النبي ﷺ أحياناً بصورة دحية الكلبيي.
والمقصود أن هذه قضية لا شك - والله أعلم - أنها واقعة، وتدل على خلاف ما هو مشهور مما يذكره كثير من أهل العلم في معنى الوحي.
كما أن الوحي قد يأتي أيضاً عن طريق المَلَك إلى غير الأنبياء، ولا يعني ذلك أنهم أنبياء، فجبريل جاء إلى مريم قطعاً بنص الآية، ومع ذلك مريم ليست نبيَّة؛ فقد يأتي الملك ابتلاء وامتحاناً، وقد يأتي ببشرى من الله ، فجبريل تمثل لمريم بشراً سوياً، ومن أمثلة ذلك أيضاً قصة الرجل الذي أرصد الله على مدرجته ملكاً لما زار أخاً له في قرية[2]، ومن ذلك الابتلاء الذي حصل للأقرع، والأبرص، والأعمى حيث جاءهم ملك على صورة رجل[3] فلا يقال: إن هؤلاء أنبياء بحال من الأحوال، ولا يُتوهم ذلك، ولم يقل ذلك أحد.
فالملك قد يأتي إلى أحد من الناس بمثل هذه الصور التي ذكرت، ولا يعني أنه نبي، كما أنه قد يُلقي الله المعنى في القلب إما بواسطة الملك، وإما بغير واسطة، والذي يكون بالواسطة هو الذي سماه بعض أهل العلم بالإلقاء في الروع يعني القلب، وفي الحديث عنه ﷺ: إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، وأجلها[4] ويكون بهذا مفارقاً للإلهام عند من فرق بينهما، فيكون الإلهام هو ما يلقيه الله مباشرة في القلب.
الحاصل أن الله هنا أوحى إلى الحواريين، فيمكن أن يكون أمرهم بذلك عن طريق عيسى ﷺ كما قاله بعض المفسرين، والمشهور أن الله ألقى ذلك في قلوبهم، وهو ما يعرف بالإلهام، وما وقع لأم موسى هو من قبيل الإلهام - والله تعالى أعلم - خلافاً لمن قال: إنه من قبيل الإلهام الغريزي؛ فهذا غير صحيح؛ لأن الغرائز ما جبلت على هذا؛ بل هو ضد ما تقتضيه؛ لأن الغريزة تأبى أن تلقي المرأة ولدها وصغيرها في البحر إذا خافت عليه، فهذا ليس من الإلهام الغريزي لكن يمكن أن يقال من الإلهام الغريزي قوله تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [سورة النحل:68] والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [سورة المائدة:111] هنا لم يفسر لمن كان خطابهم، لكن الأقرب - والله تعالى أعلم - أن ذلك متوجه إلى الله - تبارك وتعالى - أي: واشهد يا ربنا بأننا مسلمون.
والاحتمال الثاني أن ذلك خاطبوا به عيسى - عليه الصلاة والسلام - لكن السياق يدل على الأول؛ لأن الله يقول: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا [سورة المائدة:111] أي: استجابوا وقالوا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [سورة المائدة:111] فيكون ذلك متوجهاً إلى الله - تبارك وتعالى -، والله أعلم.
- أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه (36) (ج 1 / ص 36).
- أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب في فضل الحب في الله (2567) (ج 4 / ص 1988).
- أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء - باب ما ذكر عن بني إسرائيل (3277) (ج 3 / ص 1276) ومسلم في كتاب الزهد والرقائق (2964) (ج 4 / ص 2275).
- أخرجه بهذا اللفظ عبد الرزاق في مصنفه (20100) (ج 11 / ص 125) وأبو نعيم في الحلية (ج 10 / ص 27) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2085) وهو عند البيهقي في شعب الإيمان (1185) (ج 2 / ص 67) ولفظه: إن الروح الأمين قد نفث في روعي.