هذه قصة المائدة، وإليها تنسب السورة فيقال: سورة المائدة، وهي مما امتن الله به على عبده ورسوله عيسى لما أجاب دعاءه بنزولها، فأنزل الله آية باهرة، وحجة قاطعة.
وقوله تعالى: إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ [سورة المائدة:112] وهم أتباع عيسى : يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء [سورة المائدة:112] والمائدة هي الخوان عليه الطعام.
يقول: "إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ وهم أتباع عيسى " يعني هم خلاصة أصحاب المسيح وليسوا كل أتباع عيسى ﷺ، وقد قال النبي ﷺ: ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب؛ يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره[1].
فالحاصل أن خلاصة الأصحاب يقال لهم ذلك، وقيل: إن ذلك مأخوذ من الحوَر وهو شدة البياض؛ وقيل غير ذلك، لكنها تدل على الصفاء، والنقاء، فخلاصة الشيء يقال له هذا، وسبق الكلام على هذا في سورة آل عمران.
قوله: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ [سورة المائدة:112] في هذه الآية قراءة أخرى متواترة: هل تستطيعُ ربَّك وقد فسرها بعضهم - أعني (هل تستطيع ربَّك) - بأن التاء والسين للطلب أي تستدعي طاعته، والمعنى هل تستدعي إجابته بأن ينزل علينا ذلك؟، وهذا الذي فسرها به كثير من أهل العلم، أي هل تستطيع أن تسأله؟، وهذه القراءة لا إشكال فيها، وأما القراءة المشهورة: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ [سورة المائدة:112] فهل هذا من قبيل الشك في قدرة الله ، وأنهم لا يعرفون قدرة الله - تبارك وتعالى -؟ إذا كان الأمر كذلك فهذه مشكلة، خاصة وأنهم خلاصة أصحاب المسيح، فهذا السؤال هو سؤال من لم يعرف الله وهذا السؤال كفر، فكيف يصدر منهم!! ولهذا قال بعض أهل العلم كابن جرير الطبري - رحمه الله -: إن هذا صدر منهم؛ ولهذا قال عيسى ﷺ بعدها: اتَّقُواْ اللّهَ يزجرهم وينهاهم عن هذا السؤال الذي لم يتأدبوا فيه مع الله - تبارك وتعالى -، ولم يقدِّروه حق قدره، فيكون قوله: قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ على سبيل الإنكار.
وكيف يقولون هذا؟ بعض أهل العلم قال: إنهم قالوه في أول أمرهم قبل أن يتعلموا حقائق الدين، وما عرفوا الله معرفة لائقة كما قال بعض من أسلم عام الفتح مع النبي ﷺ وهو متوجه إلى هوازن أو الطائف: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط[2]، وكما قال بنو إسرائيل لموسى ﷺ: اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [سورة الأعراف:138] فقالوا: إن هؤلاء أصحاب المسيح - عليه الصلاة والسلام - كانوا في أول أمرهم.
وتكلف بعضهم في تفسير قوله تعالى: إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ [سورة المائدة:112] فقالوا: لم يصدر هذا القول منهم وإنما من بعض من خالطهم ممن ليس منهم، وهذا خلاف الظاهر، فالله هنا أضافه إلى الحواريين، ولا يمكن أن يضاف إلى من خالطهم ممن ليس منهم، ولا يصدق عليه ذلك، والأقرب - والله تعالى أعلم - في تفسير قوله: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ [سورة المائدة:112] هو ما مشى عليه بعض أهل العلم أي: هل يفعل؟ فإن الاستطاعة يعبر بها أحياناً عن الفعل كما تقول: هل تستطيع أن تذهب معي، وأنت تستطيع لكن المعنى هنا: هل تفعل، أو هل يقع منك ذلك، أو هل توافق عليه، وكما تقول: هل تستطيع أن تعيرني هذا الكتاب؟ فأنت مستطيع قطعاً لكن هل تستجيب فتفعل ذلك؟ هذا هو الأقرب في تفسيرها، والله أعلم.
بعضهم يفسر المائدة بالطعام، وبعضهم يفسرها بالخوان عليه الطعام يعني بمجموع الأمرين، والخوان ما يوضع عليه الطعام، والمشهور أنها تفسر بالخوان الذي يوضع عليه الطعام بما عليه من طعام.
الله أعلم بهذا، لكن هم أرادوا أن يكون ذلك آية لهم كما هو مصرح به في الآية.
بعض أهل العلم يقول: إنه قال لهم: اتقوا الله من أجل إنزالها، يعني تهيئوا لتحقيق الطلب بتقوى الله أي من باب قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ [سورة الأعراف:96] هكذا فسره بعضهم، وفيه بُعد، وهو عكس قول ابن جرير - رحمه الله - حيث يقول: إنه قال لهم ذلك على سبيل الزجر والإنكار لشكهم في قدرة الله - تبارك وتعالى -.
والذي أظنه أحسن من هذا كله - والله أعلم - أنه قال لهم: اتقوا الله؛ لأنهم سألوا آية من الآيات، وليس للناس أن يقترحوا على الله الآيات فقد لا يقومون بما تستوجبه هذه الآيات، فينزل عليهم العذاب كما هي عادة الله في الأمم المكذبة.
- أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان (50) (ج 1 / ص 69).
- أخرجه الترمذي في كتب الفتن - باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم (2180) (ج 4 / ص 475) وصححه الألباني في المشكاة برقم (5408).