الجمعة 26 / شوّال / 1446 - 25 / أبريل 2025
إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ يَٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ۖ قَالَ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۝ قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ۝ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ۝ قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ [سورة المائدة:112-115].
هذه قصة المائدة، وإليها تنسب السورة فيقال: سورة المائدة، وهي مما امتن الله به على عبده ورسوله عيسى لما أجاب دعاءه بنزولها، فأنزل الله آية باهرة، وحجة قاطعة.
وقوله تعالى: إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ [سورة المائدة:112] وهم أتباع عيسى : يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء [سورة المائدة:112] والمائدة هي الخوان عليه الطعام.

يقول: "إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ وهم أتباع عيسى " يعني هم خلاصة أصحاب المسيح وليسوا كل أتباع عيسى ﷺ، وقد قال النبي ﷺ: ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب؛ يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره[1].
فالحاصل أن خلاصة الأصحاب يقال لهم ذلك، وقيل: إن ذلك مأخوذ من الحوَر وهو شدة البياض؛ وقيل غير ذلك، لكنها تدل على الصفاء، والنقاء، فخلاصة الشيء يقال له هذا، وسبق الكلام على هذا في سورة آل عمران.
قوله: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ [سورة المائدة:112] في هذه الآية قراءة أخرى متواترة: هل تستطيعُ ربَّك وقد فسرها بعضهم - أعني (هل تستطيع ربَّك) - بأن التاء والسين للطلب أي تستدعي طاعته، والمعنى هل تستدعي إجابته بأن ينزل علينا ذلك؟، وهذا الذي فسرها به كثير من أهل العلم، أي هل تستطيع أن تسأله؟، وهذه القراءة لا إشكال فيها، وأما القراءة المشهورة: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ [سورة المائدة:112] فهل هذا من قبيل الشك في قدرة الله ، وأنهم لا يعرفون قدرة الله - تبارك وتعالى -؟ إذا كان الأمر كذلك فهذه مشكلة، خاصة وأنهم خلاصة أصحاب المسيح، فهذا السؤال هو سؤال من لم يعرف الله وهذا السؤال كفر، فكيف يصدر منهم!! ولهذا قال بعض أهل العلم كابن جرير الطبري - رحمه الله -: إن هذا صدر منهم؛ ولهذا قال عيسى ﷺ بعدها: اتَّقُواْ اللّهَ يزجرهم وينهاهم عن هذا السؤال الذي لم يتأدبوا فيه مع الله - تبارك وتعالى -، ولم يقدِّروه حق قدره، فيكون قوله: قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ على سبيل الإنكار.
وكيف يقولون هذا؟ بعض أهل العلم قال: إنهم قالوه في أول أمرهم قبل أن يتعلموا حقائق الدين، وما عرفوا الله معرفة لائقة كما قال بعض من أسلم عام الفتح مع النبي ﷺ وهو متوجه إلى هوازن أو الطائف: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط[2]، وكما قال بنو إسرائيل لموسى ﷺ: اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [سورة الأعراف:138] فقالوا: إن هؤلاء أصحاب المسيح - عليه الصلاة والسلام - كانوا في أول أمرهم.
وتكلف بعضهم في تفسير قوله تعالى: إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ [سورة المائدة:112] فقالوا: لم يصدر هذا القول منهم وإنما من بعض من خالطهم ممن ليس منهم، وهذا خلاف الظاهر، فالله هنا أضافه إلى الحواريين، ولا يمكن أن يضاف إلى من خالطهم ممن ليس منهم، ولا يصدق عليه ذلك، والأقرب - والله تعالى أعلم - في تفسير قوله: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ [سورة المائدة:112] هو ما مشى عليه بعض أهل العلم أي: هل يفعل؟ فإن الاستطاعة يعبر بها أحياناً عن الفعل كما تقول: هل تستطيع أن تذهب معي، وأنت تستطيع لكن المعنى هنا: هل تفعل، أو هل يقع منك ذلك، أو هل توافق عليه، وكما تقول: هل تستطيع أن تعيرني هذا الكتاب؟ فأنت مستطيع قطعاً لكن هل تستجيب فتفعل ذلك؟ هذا هو الأقرب في تفسيرها، والله أعلم.
والمائدة هي الخوان عليه الطعام.

بعضهم يفسر المائدة بالطعام، وبعضهم يفسرها بالخوان عليه الطعام يعني بمجموع الأمرين، والخوان ما يوضع عليه الطعام، والمشهور أنها تفسر بالخوان الذي يوضع عليه الطعام بما عليه من طعام.
وذكر بعضهم: أنهم إنما سألوا ذلك لحاجتهم، وفقرهم، فسألوه أن ينزل عليهم مائدة كل يوم يقتاتون منها، ويتقوَّون بها على العبادة.

الله أعلم بهذا، لكن هم أرادوا أن يكون ذلك آية لهم كما هو مصرح به في الآية.
قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [سورة المائدة:112] أي: فأجابهم المسيح قائلاً لهم: اتقوا الله، ولا تسألوا هذا فعساه أن يكون فتنة لكم، وتوكلوا على الله في طلب الرزق إن كنتم مؤمنين.

بعض أهل العلم يقول: إنه قال لهم: اتقوا الله من أجل إنزالها، يعني تهيئوا لتحقيق الطلب بتقوى الله أي من باب قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ [سورة الأعراف:96] هكذا فسره بعضهم، وفيه بُعد، وهو عكس قول ابن جرير - رحمه الله -  حيث يقول: إنه قال لهم ذلك على سبيل الزجر والإنكار لشكهم في قدرة الله - تبارك وتعالى -.
والذي أظنه أحسن من هذا كله - والله أعلم - أنه قال لهم: اتقوا الله؛ لأنهم سألوا آية من الآيات، وليس للناس أن يقترحوا على الله الآيات فقد لا يقومون بما تستوجبه هذه الآيات، فينزل عليهم العذاب كما هي عادة الله في الأمم المكذبة.
  1. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان (50) (ج 1 / ص 69).
  2. أخرجه الترمذي في كتب الفتن - باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم (2180) (ج 4 / ص 475) وصححه الألباني في المشكاة برقم (5408).

مرات الإستماع: 0

"إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ [المائدة: 112] نداؤهم له باسمه: دليل على أنهم لم يكونوا يعظمونه كتعظيم المسلمين لمحمد ﷺ فإنهم كانوا لا ينادونه باسمه، وإنما يقولون: يا رسول الله، يا نبي الله، وقولهم ابن مريم: دليل على أنهم كانوا يعتقدون فيه الاعتقاد الصحيح من نسبته إلى أمّ دون والد، بخلاف ما اعتقده النصارى."

الحواريون مضى بيان المراد بذلك، ولماذا سموا بالحواريين، فهم خلاصة أصحاب المسيح - عليه الصلاة، والسلام - بصرف النظر عن سبب التسمية، هل كانوا يحورون الثياب؟ يعني يبيضونها، أو من حار إذ رجع، فهم يعني باعتبار أنهم راجعون إلى الله - تبارك، وتعالى - أو من نقاء القلب، وخلوصه من الأدناس، والأرجاس من الشرك فما دونه.

"هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ظاهر هذا اللفظ أنهم شكّوا في قدرة الله - تعالى - على إنزال المائدة، وعلى هذا أخذه الزمخشري[1] وقال: ما وصفهم الله بالإيمان، ولكن حكى دعواهم في قولهم: آمنا.

وقال ابن عطية، وغيره: ليس لأنهم شكوا في قدرة الله، لكنه بمعنى هل يفعل ربك هذا، وهل يقع منه إجابة إليه؟[2] وهذا أرجح؛ لأن الله أثنى على الحواريين في مواضع من كتابه، مع أنّ في اللفظ بشاعة تنكر."

قول الزمخشري بأن الله ما، وصفهم بالإيمان، لكن حكى دعواهم بقولهم آمنا هذا غير صحيح، وبعضهم يقول: لعل ذلك وقع منهم في أول أمرهم، ثم بعد ذلك رسخ الإيمان في قلوبهم، ولا حاجة لهذا، إنما استشكلوا ذلك - استشكلوا هذه القراءة هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ - باعتبار أن ظاهرها أنهم كانوا يشكون في قدرة الله على هذا المطلوب، وليس هذا هو المعنى، وهذا الاستشكال وقع لجماعة من السلف، ولهذا ذهبوا إلى القراءة الأخرى، كما سيأتي، وهذه القراءة قراءة متواترة صحيحة، ومحملها، ومعناها أيضًا صحيح، فهم كما قال ابن عطية ليس لأنهم شكوا في قدرة الله، لكن المعنى هل يفعل؟ كما تقول لمن تخاطبه هل تستطيع أن تصحبني اليوم؟ هل تستطيع أن تسافر معي الليلة؟ بمعنى هل تفعل، وهو يستطيع، هل تستطيع أن تجلس معي ساعة؟ بمعنى هل تفعل؟ فهذا استعمال صحيح، وهذا الذي اختاره أبو جعفر ابن جرير رحمه الله[3] وجماعة كالواحدي[4] واستحسنه القرطبي[5] ومن المعاصرين الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي[6] والطاهر ابن عاشور[7].

فلفظ الاستفهام، ومعناه الطلب، والسؤال، وبعضهم يقول: هذا صدر ممن كان معهم، وهذا خلاف ظاهر الله يقول: إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ وما ذكر - والله أعلم - هو الجواب، ولا يقال إن ذلك يدل على ما قاله الزمخشري.

"وقرئ: (تَسْتَطِيعُ) بتاء الخطاب (رَبَّكَ) بالنصب أي هل تستطيع سؤال ربك، وهذه القراءة لا تقتضي أنهم شكوا، وبها قرأت عائشة - ا - وقالت: كان الحواريون أعرف بربهم من أن يقولوا: هل يستطيع ربُّك؟"

استشكلت هذه القراءة - ا - ولكنها قراءة ثابتة، وهي قراءة الجمهور: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ والقراءة الأخرى قراءة متواترة، وهي قراءة الكسائي[8] هل تستطيع سؤالَ ربِّك، قراءة (هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ)، يعني: هل تستطيع سؤال ربك فسؤال هذا هو المضاف حذف، وأقيم المضاف إليه مقامه الذي هو (ربك) فأخذ إعرابه فنصب؛ لأنه أصلها كذا هل تستطيع سؤال ربك فحذف سؤال، وصارت هل تستطيع ربك.

"أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ موضع أن مفعول بقوله يستطيع على القراءة بالياء، ومفعول بالمصدر، وهو السؤال المقدّر على القراءة بالتاء، والمائدة هي التي عليها طعام، فإن لم يكن عليها طعام فهي خُوان."

يعني: المائدة في اللغة إما أن يقال إذا كان عليها طعام، يعني: مثل هذه الطاولة مثلا، أو ما يعد للطعام طاولة طعام على سبيل المثال إذا كان عليها طعام، يقال لها مائدة، وإن لم يكن عليها طعام يقال لها خوان بضم الخاء.

"قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فقوله لهم: اتقوا الله"

فقوله لهم اتقوا الله، يعني: بعضهم يقول: اتقوا الله لأجل إنزالها، يعني: تكون التقوى مهيأة للاستجابة، لكن هذا خلاف الظاهر، قال: اتقوا الله هذا زجر لهم، يزجرهم عن هذا السؤال.

" يحتمل أن يكون زجرا عن طلب المائدة، واقتراح الآيات، ويحتمل أن يكون زجرا عن الشك الذي يقتضيه قولهم: هل يستطيع ربك على مذهب الزمخشري"

وقال به هذا التعليل غير من ذهب إلى مذهب الزمخشري، نحن عرفنا أن ابن جرير مثلا حمل قوله: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ بمعنى هل يفعل؟ ومع ذلك في هذا الموضع، قال لهم زجرا عن الشك علله بهذا، أو حمله على ذلك ابن جرير - رحمه الله - الذي يظهر - والله أعلم - أنه قيل بأن ذلك من قبيل الزجر عن هذا السؤال، ليس لهم أن يسألوا الآيات.

"أو عن البشاعة التي في اللفظ، وإن لم يكن فيه شك."

لا يظهر مثل هذا بناء على ما سبق من بيان محمله، فلا يكون في هذه البشاعة، هذا أمر الجانب الآخر أن هذه إنما هي منقولة، يعني: هي منقولة بالمعنى، بمعنى أن ذلك قيل بالأعجمية، وإنما ينقل المعنى، ولا ينقل بحروفه في ترجمته كما هو معلوم، وهذا لا يتأتى أصلا، يعني: الترجمة الحرفية في أي لغة من اللغات، وإنما الذي ينقل هو المعنى، ولذلك تجدون في المواقف التي تذكر في القرآن، وهي موقف واحد مثل قول امرأة إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - للملائكة لما بشروه بالولد، تجد الجواب يختلف في الألفاظ ليس في المضمون من موضع إلى آخر، فقد يكون فيه طول في بعض المواضع، واختصار في بعض المواضع؛ لأنه مُؤدى بالمعنى، فيذكر في كل مقام ما يناسبه هذا الجواب عن السؤال الذي قد يرد بمثل هذا - والله أعلم -.

"وقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ هو على ظاهره على مذهب الزمخشري، وأما على مذهب ابن عطية، وغيره، فهو تقرير لهم كما تقول: افعل كذا إن كنت رجلا، ومعلوم أنه رجل، وقيل: إنّ هذه المقالة صدرت منهم في أوّل الأمر قبل أن يروا معجزات عيسى."

وبينا ما في هذا على كل حال، وأما قوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فهذا كثير في القرآن يستعمل للتحضيض، والتحريض، كثير في خطاب المؤمنين، ونحو ذلك إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ للتحضيض، والتحريض على الامتثال، والفعل.

  1.  تفسير الزمخشري (1/693).
  2.  تفسير ابن عطية (2/259).
  3.  تفسير الطبري (11/220).
  4.  التفسير الوسيط للواحدي (2/245).
  5.  تفسير القرطبي (6/364).
  6. تفسير السعدي (ص: 248).
  7.  التحرير، والتنوير (7/105).
  8.  تفسير القرطبي (6/364).