السبت 27 / شوّال / 1446 - 26 / أبريل 2025
قَالَ ٱللَّهُ إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ۖ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّىٓ أُعَذِّبُهُۥ عَذَابًا لَّآ أُعَذِّبُهُۥٓ أَحَدًا مِّنَ ٱلْعَٰلَمِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ [سورة المائدة:115] أي: فمن كذب بها من أمتك يا عيسى وعاندها فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ [سورة المائدة:115] أي: من عالمي زمانكم كقوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [سورة غافر:46] وقوله: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [سورة النساء:145].

هنا أراد أن يجمع بين هذه الآية وبين الآيات الأخرى فقال: "أي عالمي زمانكم" دفعاً لما قد يُتوهم من التعارض بينها وبين قوله تعالى عن آل فرعون في الآخرة: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [سورة غافر:46] أي العذاب الذي قد بلغ في الشدة غايته، وبينها وبين قوله تعالى عن المنافقين: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [سورة النساء:145] وأظن - والله أعلم - أنه لا حاجة لدفع هذا التوهم؛ لأن قوله: فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ [سورة المائدة:115] يعني أن صفة العذاب التي يعذبهم بها تختص بهم، ولا يعني أن ذلك يكون أشد أنواع العذاب مما لا يدانيه غيرهم كآل فرعون، أو المنافقين الذين في الدرك الأسفل من النار، فهو يعاقبهم بعقوبة مختصة، فكما يقال: إن المزية لا تقتضي الأفضلية فكذلك يقال هنا: الاختصاص لا يقتضي أنهم الأشد بإطلاق، فقد يكون عذاب آل فرعون أشد منهم، ولكن هؤلاء يختصون بنوع من العقوبة لا يعذب بها غيرهم، والفرق في هذا واضح، ومثاله أن يقول الإنسان لمن يتوعده: لأقتلنك قِتلة ما سمع بها أحد، أو ما قُتِل بها أحد، أو نحو ذلك، فهذا لا يعني أن هذه القتلة هي الأشد، وإنما قد تكون بطريقة خفية، فالمقصود أنه لا يوجد إشكال بين هذه الآية وبين الآيات الأخرى، والله أعلم.
وقوله تعالى: قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ [سورة المائدة:115] فهذا خبر من الله ، ووعد منه نتيجة لهذا الدعاء، ولا شك أنه تحقق، والعجيب أن مجاهد بن جبر - رحمه الله - يقول: إن المائدة لم تنزل وإنما هذا من قبيل ضرب المثل، فهو مثل ضربه الله للزجر عن اقتراح الآيات على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فقط، وهذا تفسير باطل؛ لأنه خلاف ظاهر القرآن.
وقد روى ابن جرير عن عبد الله بن عمرو - ا - قال: "إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة ثلاثة: المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون.

ذكرنا قبلُ أن أفعل التفضيل لا تمنع التساوي وإنما تمنع الزيادة، فأشد الناس يعني كلهم قد بلغوا في الشدة غايتها، وتقول: فلان أكرم الناس، ثم تذكر آخر وتقول: هو أكرم الناس، ثم تقول لثالث: إنه أكرم الناس، فلا تعارض في هذا؛ لأن المعنى أنهم كلهم قد بلغوا في الكرم الغاية، فالمقصود أن أفعل التفضيل - نحو أكرم، وأعلم، وأشد - لا تمنع من التساوي، وقد ذكرنا هذا في تفسير سورة البقرة عند قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ [سورة البقرة:114] أي لا أحد أشد ظلماً، والله تعالى أعلم.
وروى ابن أبي حاتم أيضاً عن ابن عباس - ا - أن عيسى ابن مريم قالوا له: ادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء، قال: فنزلت الملائكة بالمائدة يحملونها، عليها سبعة أحوات، وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم.

مثل هذا مما يؤخذ عن بني إسرائيل، والروايات المأخوذة عن بني إسرائيل في هذا الموضع في كتب التفسير كثيرة جداً، ومختلفة غاية الاختلاف، حيث يصفون هذه المائدة بأوصاف عجيبة وهي مختلفة تماماً، فمنهم من يقول: سمك، ومنهم من يقول: لحم، ومن يقول: خبز وسمك، والله تعالى أعلم، فمثل هذا لا يمكن أن يوصل إليه إلا عن طريق الوحي، وما يذكر من هذه الإسرائيليات لا نصدقه، ولا نكذبه؛ إن كان لا يخالف ما عندنا، ولا فائدة في معرفة نوع هذه المائدة، والأصناف التي نزلت فيها؛ فهذا لا يترتب عليه عمل بل هو من التكلف، ولو كان فيه فائدة لذكره الله ، وإنما العبرة في سؤالهم، ونزولها.
وروى ابن جرير عن إسحاق بن عبد الله أن المائدة نزلت على عيسى ابن مريم عليها سبعة أرغفة، وسبعة أحوات؛ يأكلون منها ما شاءوا، قال: فسرق بعضهم منها، وقال: لعلها لا تنزل غداً؛ فرفعت".
وهذه الآثار وغيرها دالة على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل أيام عيسى ابن مريم إجابة من الله لدعوته كما دل على ذلك ظاهر هذا السياق من القرآن العظيم قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ الآية [سورة المائدة:115].
وقد ذكر أهل التاريخ أن موسى بن نصير نائب بني أمية في فتوح بلاد المغرب وجد المائدة هنالك، مرصعة باللآلئ، وأنواع الجواهر، فبعث بها إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك باني جامع دمشق، فمات وهي في الطريق، فحملت إلى أخيه سليمان بن عبد الملك الخليفة بعده؛ فرآها الناس فتعجبوا منها كثيراً لما فيها من اليواقيت النفيسة، والجواهر اليتيمة، ويقال: إن هذه المائدة كانت لسليمان بن داود - عليهما السلام - فالله أعلم.

طبعاً هنا لا يقصد بالمائدة الطعام، وإنما يقصد الخوان أو الشيء الذي يوضع عليه الطعام، إلا أن هذه الواقعة الله أعلم بها، وإن كان صحيحاً أنهم وجدوا شيئاً فلا يقال: إن هذا مما نزل على عيسى ، ولا يقطع أنه مما كان لداود ﷺ، أو لسليمان أو غير ذلك فمثل هذه الأخبار لا يوثق بها، كما يزعم كثير من الناس إلى اليوم أن هذا المكان، أو أن هذا الشيء، أو أن هذا السيف للنبي ﷺ، أو لفلان؛ فمثل هذا قد لا يثبت، كما نشاهد الآن توجد أماكن ومساجد ينسب إلى النبي ﷺ أنه صلى فيها، أو أن فلاناً صلى فيها، أو أن فلاناً قُبر هنا؛ مع أنه لم يثبت شيء من هذا في كثير من الأحيان، ومن أمثلة ذلك مكان قبر الحسين فهو موجود في أماكن متعددة حسب زعم الزاعمين.

مرات الإستماع: 0

"قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ [المائدة: 115] أجابهم الله إلى ما طلبوا، ونزلت المائدة عليها سمك، وخبز، وقيل: زيتون، وتمر، ورمان، وقال ابن عباس: كان طعام المائدة ينزل عليهم حيثما نزلوا[1] وفي قصة المائدة قصص كثيرة غير صحيحة."

قوله: وَآيَةً مِنْكَ قال: علامة على صدقي أيضا وعلى وقدرتك وَآيَةً مِنْكَ تدل على قدرتك.

وقوله: قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ نوع المائدة، والطعام الله لم يذكره؛ لأنه لا فائدة فيه، والأخبار المروية عن بني إسرائيل في هذا تدل على وجود اختلاق، وكذب، وتحريف كثير؛ لأن هذه الأخبار غير متفقة أصلا، وهذا مما لا حاجة إليه، ولا فائدة فيه، وهذه الرواية عن ابن عباس - ا - لا تصح من جهة الإسناد، ولو صحت كان طعام المائدة ينزل عليهم حيثما نزلوا، قد يكون ذلك مما تلقي عن بني إسرائيل، يعني: هل كان ينزل عليهم حيثما نزلوا، وإلا نزلت مرة واحدة، وأكلوا منها، ولم يكن ذلك ينزل عليهم حيث نزلوا، والعجيب أن مجاهدًا - رحمه الله - من التابعين قال بأنها لم تنزل، وإنما هو ضرب مثل لنهي الخلق عن مسألة الآيات[2].وهذا عجيب! قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فكيف يقال إن هذا ضرب مثل، ولولا أنه مروي عن مجاهد، وإلا فمثل هذا يعرض عن ذكره؛ لأنه مخالف لظاهر القرآن.

"فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذابًا عادة الله عقاب من كفر بعد اقتراح آية فأعطيته، ولما كفر بعض هؤلاء مسخهم الله خنازير، قال عبد الله بن عمرو: أشدّ الناس عذابا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون، والمنافقون[3]."

هذا ثابت عن عبد الله بن عمرو - ا - : أشد الناس عذابا يوم القيامة...

ومثل هذا لا يقال من جهة الرأي قد يقال يعني لا يقال بالاجتهاد، وقد يقال بأنه استنبط ذلك من القرآن باعتبار أن الله قال: فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة: 115] فدل على أنه الأشد.

وهكذا في قوله في آل فرعون: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر: 46] فأشد أفعل تفضيل، وكذلك أيضا في قوله عن المنافقين: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145] فقد يقال: إنه استنبط ذلك من هذه الآيات، وكما سبق في بعض المناسبات أن أفعل التفضيل لا تمنع التساوي، ولكن تمنع الزيادة، فحينما يقول الله : بأن هذا أشد عذابا، أو يقول النبي ﷺ : أشد الناس عذابا يوم القيامة كذا، وكذا، ويذكر في مقام آخر غير ذلك، يعني: من الموصوفين، أو من أصحاب الأعمال، والمعاصي، أو الموبقات، فذلك كله يكون باعتبار أنهم حققوا، أو نالوا المرتبة التي هي أعظم، وأشد استووا فيها، كما في قوله تبارك، وتعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ [الأنعام: 21] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ [البقرة: 114] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ [الأنعام: 157] إلى آخره.

هذه كلها يقال فيها بأن هؤلاء قد تحققوا المرتبة العليا في الظلم، يعني: المعنى لا أحد أظلم ممن فعل كذا، فكلهم نالوا المرتبة العليا في الظلم، مع أن من أهل العلم من ذكر احتمالا آخر، وهو أن كل واحدة تختص ببابها، ففي باب المنع لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله، وفي باب الإعراض لا أحد أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها، وهكذا - والله أعلم -.

  1. تفسير الطبري (11/229).
  2. تفسير القرطبي (6/369).
  3. تفسير الطبري (11/233)، رقم: (13025).