هنا أراد أن يجمع بين هذه الآية وبين الآيات الأخرى فقال: "أي عالمي زمانكم" دفعاً لما قد يُتوهم من التعارض بينها وبين قوله تعالى عن آل فرعون في الآخرة: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [سورة غافر:46] أي العذاب الذي قد بلغ في الشدة غايته، وبينها وبين قوله تعالى عن المنافقين: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [سورة النساء:145] وأظن - والله أعلم - أنه لا حاجة لدفع هذا التوهم؛ لأن قوله: فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ [سورة المائدة:115] يعني أن صفة العذاب التي يعذبهم بها تختص بهم، ولا يعني أن ذلك يكون أشد أنواع العذاب مما لا يدانيه غيرهم كآل فرعون، أو المنافقين الذين في الدرك الأسفل من النار، فهو يعاقبهم بعقوبة مختصة، فكما يقال: إن المزية لا تقتضي الأفضلية فكذلك يقال هنا: الاختصاص لا يقتضي أنهم الأشد بإطلاق، فقد يكون عذاب آل فرعون أشد منهم، ولكن هؤلاء يختصون بنوع من العقوبة لا يعذب بها غيرهم، والفرق في هذا واضح، ومثاله أن يقول الإنسان لمن يتوعده: لأقتلنك قِتلة ما سمع بها أحد، أو ما قُتِل بها أحد، أو نحو ذلك، فهذا لا يعني أن هذه القتلة هي الأشد، وإنما قد تكون بطريقة خفية، فالمقصود أنه لا يوجد إشكال بين هذه الآية وبين الآيات الأخرى، والله أعلم.
وقوله تعالى: قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ [سورة المائدة:115] فهذا خبر من الله ، ووعد منه نتيجة لهذا الدعاء، ولا شك أنه تحقق، والعجيب أن مجاهد بن جبر - رحمه الله - يقول: إن المائدة لم تنزل وإنما هذا من قبيل ضرب المثل، فهو مثل ضربه الله للزجر عن اقتراح الآيات على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فقط، وهذا تفسير باطل؛ لأنه خلاف ظاهر القرآن.
ذكرنا قبلُ أن أفعل التفضيل لا تمنع التساوي وإنما تمنع الزيادة، فأشد الناس يعني كلهم قد بلغوا في الشدة غايتها، وتقول: فلان أكرم الناس، ثم تذكر آخر وتقول: هو أكرم الناس، ثم تقول لثالث: إنه أكرم الناس، فلا تعارض في هذا؛ لأن المعنى أنهم كلهم قد بلغوا في الكرم الغاية، فالمقصود أن أفعل التفضيل - نحو أكرم، وأعلم، وأشد - لا تمنع من التساوي، وقد ذكرنا هذا في تفسير سورة البقرة عند قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ [سورة البقرة:114] أي لا أحد أشد ظلماً، والله تعالى أعلم.
مثل هذا مما يؤخذ عن بني إسرائيل، والروايات المأخوذة عن بني إسرائيل في هذا الموضع في كتب التفسير كثيرة جداً، ومختلفة غاية الاختلاف، حيث يصفون هذه المائدة بأوصاف عجيبة وهي مختلفة تماماً، فمنهم من يقول: سمك، ومنهم من يقول: لحم، ومن يقول: خبز وسمك، والله تعالى أعلم، فمثل هذا لا يمكن أن يوصل إليه إلا عن طريق الوحي، وما يذكر من هذه الإسرائيليات لا نصدقه، ولا نكذبه؛ إن كان لا يخالف ما عندنا، ولا فائدة في معرفة نوع هذه المائدة، والأصناف التي نزلت فيها؛ فهذا لا يترتب عليه عمل بل هو من التكلف، ولو كان فيه فائدة لذكره الله ، وإنما العبرة في سؤالهم، ونزولها.
وهذه الآثار وغيرها دالة على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل أيام عيسى ابن مريم إجابة من الله لدعوته كما دل على ذلك ظاهر هذا السياق من القرآن العظيم قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ الآية [سورة المائدة:115].
وقد ذكر أهل التاريخ أن موسى بن نصير نائب بني أمية في فتوح بلاد المغرب وجد المائدة هنالك، مرصعة باللآلئ، وأنواع الجواهر، فبعث بها إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك باني جامع دمشق، فمات وهي في الطريق، فحملت إلى أخيه سليمان بن عبد الملك الخليفة بعده؛ فرآها الناس فتعجبوا منها كثيراً لما فيها من اليواقيت النفيسة، والجواهر اليتيمة، ويقال: إن هذه المائدة كانت لسليمان بن داود - عليهما السلام - فالله أعلم.
طبعاً هنا لا يقصد بالمائدة الطعام، وإنما يقصد الخوان أو الشيء الذي يوضع عليه الطعام، إلا أن هذه الواقعة الله أعلم بها، وإن كان صحيحاً أنهم وجدوا شيئاً فلا يقال: إن هذا مما نزل على عيسى ، ولا يقطع أنه مما كان لداود ﷺ، أو لسليمان أو غير ذلك فمثل هذه الأخبار لا يوثق بها، كما يزعم كثير من الناس إلى اليوم أن هذا المكان، أو أن هذا الشيء، أو أن هذا السيف للنبي ﷺ، أو لفلان؛ فمثل هذا قد لا يثبت، كما نشاهد الآن توجد أماكن ومساجد ينسب إلى النبي ﷺ أنه صلى فيها، أو أن فلاناً صلى فيها، أو أن فلاناً قُبر هنا؛ مع أنه لم يثبت شيء من هذا في كثير من الأحيان، ومن أمثلة ذلك مكان قبر الحسين فهو موجود في أماكن متعددة حسب زعم الزاعمين.