طبعاً هذا الكلام إنما يقال إذا ثبتت هذه العبارات فعلاً، وإلا فإن كتابهم محرف لا يوثق بشيء من هذا الكلام إطلاقاً، فقد يكون ذلك مما حرفوه، وبدلوه، لكن لو فرض أنه صحيح فإنه يحمل على معهودهم في الخطاب، وعلماؤهم - ممن له عقل، ودين، وإنصاف، وتوحيد - يقولون: إن ذلك معهود عندهم أنه يراد به التشريف، فحينما يقول لغيره: أنت ابني، فإنه يقصد به تقريبه، وتشريفه، وتكريمه، وما أشبه ذلك، وهكذا حينما يقول: إني ذاهب إلى أبي، ولو لاحظنا العبارة نجد أنه قال: أبي، وأبيكم، فهل هم أيضاً أبناء الله؟ فلماذا خصوا المسيح - عليه الصلاة، والسلام -؟ طبعاً هذا لو صحت العبارة فإنه يُرد عليهم من نفس الجملة، كما أنه لو صحت هذه العبارة أيضاً فإن النبي بمنزلة الأب في قومه، وهو وجه قوي بل هو أقوى ما فسر به قول لوط في قوله تعالى: هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [سورة هود:78] فقوله: بَنَاتِي يعني بنات القبيلة، يقول: تزوجوا من البنات، ودعوا هذه الفواحش.
والله يقول: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [سورة الأحزاب:6] قراءة أبيّ، وقراءة ابن عباس (وهو أب لهم) (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو أب لهم، وأزواجه أمهاتهم) [سورة الأحزاب:6]، وفي القراءة الأخرى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجه أمهاتهم، وهو أب لهم)، وهذه قراءة غير متواترة لكن القراءة الآحادية إذا صح سندها يمكن الاحتجاج بها على الأقل في التفسير، فالنبي ﷺ بمنزلة الأب لقومه، وكل الأنبياء بالنسبة لقومهم كذلك، والأبوة أبوتان كما هو معروف: أبوة ولادة أي أبوة نسب، وهذا لا يمكن أن يضاف إلى الله لأنه - جل، وعلا - لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [سورة الإخلاص:3]، والأبوة الثانية هي أبوة التربية، وهو أحد المعاني الصحيحة في معنى لفظة الرب، فالرب هو المربي خلقه بالنعم الظاهرة، والباطنة، وهذه التربية أشرف من النوع الأول، يعني أبوة التربية أعظم من أبوة الولادة؛ لأن أبوة الولادة أخرجتك إلى الدنيا، وأبوة التربية أخرجتك إلى السعادة الكبرى في الدنيا، والآخرة، ومع ذلك فإننا حينما نعبر لا نطلق العبارات المجملة التي تحتمل، ويفهم منها الناس معانيَ سيئة بحيث يأتي إنسان، ويقول: أنا أقول: الله أب لخلقه مثلاً، فإذا قال أحد هذا الكلام قلنا له: لا تتكلم بالكلام الموهم، خاصة أن هذه العبارات أصلاً لا نعلم ثبوتها، ولم ترد في الكتاب، ولا في السنة، فلا يطلق ذلك على الله ، لكن حينما نأتي، ونرد على النصارى نقول مثل هذا الكلام الذي سبق في تقسيم الأبوة لكن لا نتبناه بحيث إننا نذكره ابتداء؛ لأننا لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله ﷺ، ولكل مقام مقال، فقد نحتاج إلى بعض الشيء في الرد مع أن ذلك لا يقال في حال الاختيار ابتداء - والله أعلم -.
طبعاً هذه المقالة - أعني قولهم: نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ - صدرت من اليهود، ومن أهل العلم من تكلف في تفسيرها، فقال: إنهم قصدوا: نحن أتباع أبناء الله، فيكون ذلك منقسماً على اليهود مثلاً، والنصارى، فاليهود قالوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ [سورة التوبة:30]، والنصارى قالوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ [سورة التوبة:30]، فقولهم: نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ يعني نحن أتباع أبناء الله، ولكن القاعدة أن الكلام إذا دار بين التقدير، وعدمه فالأصل عدم التقدير، ولذلك فإننا نقول: هذا القول قول مرجوح، وفيه تكلف، ولا حاجة إليه، فهم أرادوا أن يشرِّفوا أنفسهم، وأن يعظموها فافتروا على الله بأن لهم منزلة عنده ليست لأحد فقالوا: نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [سورة المائدة:18]، وقالوا: نحن شعب الله المختار، وما عدانا من الأمم فهم جونيم يعني الحمير التي خلقت من أجل أن يركبها اليهود، هذه هي عقيدة اليهود في نظرهم إلى الناس ممن سواهم، وقالوا: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [سورة آل عمران:75] أي خذ أموالهم، وافعل بهم ما شئت.
قد يقول القائل منهم مكابرة: ومن قال لكم هذا؟ فنحن لا نسلم لكم بهذه المقدمة أصلاً، فالله لن يعذبنا، أي إذا كان المقصود أنه سيعذبنا في المستقبل فنحن ننكر ذلك؛ لأننا شعب الله المختار، وأبناء الله، وأحباؤه.
وفي قول الله تعالى: فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم يحتمل أن يكون هذا مما يقع عليهم من العقوبات في الدنيا، كما مسخ بعضهم قردة كما قال تعالى: قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ [سورة الأعراف:166]، وما ينزل بهم من ألوان العقوبات كما قال تعالى: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:55]، وحكم عليهم بالتيه كما قال تعالى: قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [سورة المائدة:26] فهذا كله من تعذيبهم بذنوبهم، فلو كانوا كما قالوا لما عذبهم.
ويمكن أن يكون قوله: فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم من باب الإلزام بالنوع، المعروف عند الأصوليين،، أو عند علماء الجدل بالخلف، ينقض عليهم حجتهم باعتبار أنهم قالوا: نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [سورة المائدة:18]، وقالوا أيضاً: لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً [سورة البقرة:80]، وهذه الأيام المعدودة كما قالوا: هي بقدر عبادتهم للعجل، قالوا: عبدنا العجل أربعين يوماً - أي حينما ذهب موسى إلى ميقات ربه - فسيعذبنا بقدر ذلك، ثم نخرج من النار، فنحن لن ندخل النار إلا هذه المدة، فالإلزام هنا هو إذا كنتم أبناء الله، وأحباؤه فلماذا يعذبكم هذا القدر الذي أقررتم به، أي أربعين يوماً؟ وهذا الذي مشى عليه ابن جرير - رحمه الله -.
فالاحتمالات ثلاثة: الأول: فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم أي لماذا يعذبكم كما يعذب سائر الخلق بالنار التي تنتظركم؟ وهذا القول قد يقول القائل منهم فيه: ومن قال لكم هذا أصلاً فنحن لا نسلم به؟
الثاني: أن هذه العقوبات التي تنزل بكم في الدنيا هي من جملة عذاب الله ، فلماذا يقع بكم هذا، وأنتم أبناؤه، وأحباؤه؟
الثالث: أن يقال: أنتم سلمتم أنكم تعذبون مدة من الزمان، كما في الآية أَيَّاماً مَّعْدُودَةً [سورة البقرة:80] فإذاً لماذا يقع لكم مثل هذا، وأنتم أبناء الله، وأحباؤه، والمحب لا يعذب حبيبه؟
قوله: بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ [سورة المائدة:18] هنا قاعدة معروفة، وهذا مثال عليها، وهي أن ما ذكره الله حكاية عن قول القائلين في القرآن، إن كان باطلاً فإنه يذكر قبله، أو بعده، أو معه ما يشعر ببطلانه، ورده، فنعرف أنه باطل، فهناك قالوا: لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً [سورة البقرة:80] فردَّ عليهم: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ [سورة البقرة:80]، وهنا قالوا: نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ فرد عليهم بقوله: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم [سورة المائدة:18]، وهكذا في كثير من أقوالهم، وأقوال غيرهم، ولا يكاد يخرج من هذه القاعدة إلا القليل، أو النادر، كما في آية الكهف: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا [سورة الكهف:21] فهذا لا يمكن أن يكون من قول أهل الإيمان؛ لأن الأنبياء جميعاً جاءوا بالحرب على الشرك، وصوره، ومن ذلك بناء القباب، والمشاهد على القبور، والنبي ﷺ يقول: لعن الله اليهود النصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد[1]، فما يمكن أن يكون أهل التوحيد، والإيمان هم الذين غلبوا على أمرهم، وإنما هذه مقولة مشركين، وثنيين عباد قبور، فالمقصود أن في قوله: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا [سورة الكهف:21] لم يذكر شيئاً يردها، أو ينقضها، أو يشعر بردها، فيحتج بها عباد القبور، يقولون: عبادة القبور ما فيها شيء، فهؤلاء قالوا: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا وما رد عليهم القرآن، والجواب عن هذه الشبهة أن يقال: إن كل قاعدة لها استثناءات، لكن يكفي في القاعدة أن تلم بأكثر الجزئيات، وإلا فالقاعدة ليست نصاً منزلاً، فهي من كلام أهل العلم حيث استقرءوا أكثر الجزئيات، وجعلوا عليها قاعدة.
وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [سورة المائدة:18] أي: الجميع ملكه، وتحت قهره، وسلطانه، وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [سورة المائدة:18] أي: المرجع، والمآب إليه، فيحكم في عباده بما يشاء، وهو العادل الذي لا يجور."
- أخرجه البخاري في كتاب الجنائز - باب ما جاء في قبر النبي ﷺ، وأبي بكر، وعمر - ا - (1324) (ج 1 / ص 1324)، ومسلم في كتاب المساجد، ومواضع الصلاة - باب النهى عن بناء المساجد على القبور، واتخاذ الصور فيها، والنهى عن اتخاذ القبور مساجد (529) (ج 1 / ص 376).