يقول تعالى مخاطباً أهل الكتاب من اليهود، والنصارى بأنه قد أرسل إليهم رسوله محمداً ﷺ خاتم النبيين الذي لا نبي بعده، ولا رسول، بل هو المعقب لجميعهم، ولهذا قال: عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أي: بعد مدة متطاولة ما بين إرساله، وعيسى ابن مريم - عليهما السلام -."
قوله: عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ الفترة: تأتي بمعنى السكون، وتأتي بمعنى الانقطاع، وتفسير الآية هنا بالانقطاع أقرب، ويعني: على انقطاع من الرسل - عليهم الصلاة، والسلام - فهذه المدة الطويلة ما بُعث فيها نبي قبل الرسول - عليه الصلاة، والسلام - إطلاقاً، وكل ما جاء في ذلك من الأخبار في بعض كتب التورايخ، أو من بعض ما يوجد مما ينقل عن بني إسرائيل من كلام علمائهم، وما أشبه ذلك، كله لا أصل، ولا يثبت منه شيء، ولا يبنى عليه حكم، كما يقولون: إنه بعث حنظلة بن صفوان، وهو نبي أهل الرس، وبعضهم يقول: خالد بن سنان، ويذكرون له أخباراً، وما أشبه هذا، ويقولون: إنه بين عيسى، وبين محمد ﷺ، أو ما جاء عن بعض السلف من أن المدة التي كانت بين عيسى، ومحمد ﷺ بعث في صدرها نبي، ثم بعد ذلك انقطع بعث الأنبياء نحو أربعمائة سنة فهذا لا يثبت؛ لأن عيسى ﷺ قال: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [سورة الصف:6] إلى غير ذلك من الأدلة التي تدل على أنه لم يكن بين عيسى - عليه الصلاة، والسلام -، وبين محمد ﷺ نبي، ومن ذلك هذه الآية: عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ [سورة المائدة:19].
وأصحاب الرسل لم يكونوا بعد عيسى - عليه الصلاة، والسلام - بل السياق الذي ذكرهم الله فيه كان مع ثمود، وهذه الأمم أهلكها الله ، ودمرها كما قال تعالى: وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا [سورة الفرقان:38]، والرس: يفسر بأنه بئر، وأصحاب الرس يعني أصحاب البئر، قيل: إنهم ألقوا نبيهم في البئر، فقيل لهم: أصحاب الرس، وقيل غير هذا، وعلى كل حال الله أعلم بهم، لكن لم يكن بين النبي - عليه الصلاة، والسلام -، وبين عيسى - عليه الصلاة، والسلام - رسول، وما يوجد في كتب التواريخ القديمة، والحديثة لا يثبت منه شيء، فهذا أصل نبقى عليه.
على كل حال الله تعالى أعلم لكنها فعلاً تبلغ مئات السنين، والمشهور أنها تقرب من الستمائة سنة قد تزيد، وقد تنقص بعض الشيء، لكن القول بأنها أربعمائة، وثلاثون سنة بعيد، فالمدة التي كانت بين النبي ﷺ، وبين عيسى - عليه الصلاة، والسلام - بنحو من ستمائة سنة، بينما المدة التي بين عيسى - عليه الصلاة، والسلام -، وبين موسى أطول بكثير، فبعض المؤرخين يوصلها إلى ألف، وتسعمائة سنة تقريباً، وقد لا تبلغ هذا، ومرة حاولت أن أجمع كلام المؤرخين على أطول تقدير ذكر، فجمعت المدة من آدم إلى يومنا هذا فوجدت أن قول المؤرخين حينما يجدون جثة إنسان، أو نحوه: هذه من ملايين السنين، أو من يوم كان الإنسان في العصر الحجري، أو البورنزي، ويأتي آخرون فيقولون: هذا الأمر من عشرة ملايين، وخمسمائة، وإحدي، وثلاثين سنة وجدت أن هذا كله كذب، ودجل، فالمسألة كلها بالآلاف، ولا تصل إلى المليون، ولا تقارب المليون أصلاً، فكل ما يقولونه كذب، ولا يوجد شيء اسمه عصر بورنزي، ولا شيء اسمه عصر حجري، ولا يوجد إنسان بدائي كما يصورونه على شكل قرد، أو غيره، و إنما هو آدم أنزله الله من الجنة في قمة التحضر، وعلى أكمل هيئة، وعلمه أسماء كل شيء، وأسجد له الملائكة، وجعله نبياً، فلا يوجد شيء اسمه إنسان بدائي، ولا غير ذلك، لكن المشكلة أن هذه الأشياء تنقل عن قوم جهلة لا يعرفون الله ، ويتخرصون، ويتقولون ما لا صحة له، والأعجب من ذلك أن يأتي من المسلمين من يصدق هذه المعلومات، وهي خزعبلات، وكذب، وكفر، ودجل - والله المستعان -.
فهذه المدد التي قدرت هي من قبيل اختلاف المؤرخين، والجمع بينها لا يخلو من تكلف سواء على القول بأن الحساب كان على الشمسية، أو القمرية، وكذلك القول بأن نبياً بعث بعد عيسى - عليه الصلاة، والسلام -، وقبل رسول الله ﷺ هذا كله لا أصل له، ومن أراد أن ينظر في الكلام على هذا من الناحية التاريخية، أو من هو خالد بن سنان، وما يقال عنه، وإلى من أرسل، ومن هم أصحاب الرس، فإنه سيجد هذا في بعض كتب التفسير عند قوله تعالى: وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا [سورة الفرقان:38]، وكذلك كتب التواريخ، بل حتى بعض كتب التراجم، بل حتى بعض كتب تواريخ الصحابة مثل كتاب الإصابة، وكذلك كتاب المفصل في تاريخ العرب، وفي مثل كتاب المعارف، وإن كان عهدي به قديماً فلا أدري ذكر هذا أم لا لكنه ذكر فيه ترجمة لخالد بن سنان، ويقال أيضاً: إن حنظلة بن صفوان هو نبي أهل الرس، وعلى كل حال هذا لا أصل له، ومعلوم أنه لا يوجد نبي من العرب إطلاقاً إلا النبي ﷺ، وهو من ولد إسماعيل - عليه الصلاة، والسلام -، والمؤرخون يقولون: إن إسماعيل - عليه الصلاة، والسلام - تعلم العربية من جرهم، وإلا فإن إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - ليس من العرب قطعاً.
قوله: لا يغسله الماء يعني أنه محفوظ في الصدور لم ينزله عليه في كتاب كما هو الشأن في الكتب التي كانت قبله، والتعبير بغسل الماء يعبر به عن الكتب المكتوبة؛ لأنها تكتب بالأحبار، ولذلك إذا أرادوا محوها غسلوها.
وقوله: تقرؤه نائماً، ويقضان هذا يحتمل معنيين: الأول يمكن أن يكون المراد اليسر، والسهولة، أي تقرؤه بسهولة، والمعنى الثاني المحتمل أنه محفوظ في صدرك في حال يقظتك، ونومك، يعني أنه ملازم للإنسان بحيث لا يحتاج أن يأتي بالمصحف، ويقرأ فيه، ولذلك جاء وصف هذه الأمة بأن أناجيلهم في صدورهم، ولم ينزل على النبي ﷺ شيء من القرآن في حال النوم حتى إن سورة الكوثر جاء في حديث أنس في الصحيح أنه قال: بينا رسول الله ﷺ بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة، ثم تبسم، وقال: أنزلت علي آنفاً سورة ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم، إنا أعطيناك الكوثر[3] لكن ليس المقصود بذلك: أنه نزلت عليه في حال النوم، وإنما هي الحال التي كانت تعتريه عند نزول الوحي - والله تعالى أعلم -.
والله قال عن الكفار: إنهم يقولون: أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ [سورة الأنبياء:5]، وكذبهم في هذا، ورد عليهم، فالأقرب، والأرجح أنه لم ينزل عليه شيء، وهو في حال النوم، لكن نزل عليه شيء وهو في فراشه مما يذكره بعض أهل العلم كالسيوطي، وغيره، ويسمونه الفراشي، وقد جاء في حديث عائشة - ا -، وحديث أم سلمة في قصة الثلاثة الذين خلفوا أنها نزلت في ثلث الليل الآخر، وهو عند أم سلمة.
قوله: واغزهم نُغْزِك أي نعينك، ونأيدك، وننصرك.
قوله: ورجل عفيف فقير ذو عيال متصدق هذه ليست في المطبوع من مسند الإمام أحمد، والحديث هنا ساقه من طريق الإمام أحمد، وفي مسند الإمام أحمد: ورجل فقير فلعله في نسخة أخرى.
قوله: الضعيف الذي لا زَبْر له يعني الضعيف الذي لا عقل يزبره أي يمنعه من مقارفة ما لا يليق، يعني ليس عنده مشكلة إذا تاقت نفسه إلى شيء، وصار له هوى في عمل من الأعمال أن يعمله، ولا يرعوي، وليس له مروءة، ولا دين يمنعانه، ويكفانه عن مقارفة الدنائس، وهو ضعيف بمعنى أنه تابع للناس يتبعهم من أجل أن يجد عندهم طعاماً، ومأوى كما قال الله : أَوِ التَّابِعِينَ [سورة النــور:31]، وقيدهم بغير ذوي الإربة من الرجال، ونحو ذلك، يعني الذين لا إرب لهم في النساء أي أنه لا يتفطن لمفاتن النساء، وهو الذي يقولون له: المخبَّل، أما إذا كان له إرب في النساء فإنه لا يجوز دخوله على النساء، فهذا الآن عكس ذاك، فهو ضعيف لا زَبْر له يتبع الناس، ويدخل معهم من أجل أن يأكل عندهم، فمرة عند هذا، ومرة عند هذا لأنه ليس عنده مأوى، ولا بيت، ولا زوجة، ومع ذلك هو سيئ لا عقل له، ولا مروءة، ولا دين، فيطلب أموراً يتخونهم بها بحيث يدخل عليهم في بيوتهم ليعطفوا عليه، ولكنه ذئب أطلس فهذا نسأل الله العافية منه.
قوله: "شك يحيى" يعني شك الراوي يحيى بن سعيد شيخ الإمام أحمد.
قوله: لا يبتغون أهلا، ولا مالاً يعني أنهم كما يقال الآن: ليس عندهم تكوين أسرة، ولا يطلبون المال بجمعه، وتحصيله بالتكسب فهم يريدون أن يأكلوا عيشاً عند الناس، وفقط.
قال: والخائن الذي لا يخفى له طمع، وإن دق إلا خانه كلمة "يخفى" من الأضداد أي من الكلمات التي تطلق على معنيين متضادين، فمعنى لا يخفى له طمع أي لا يظهر له طمع، وإن دق إلا خانه، يعني بمجرد ما تتبدى له فرصة فإنه ينتهزها، ولا يبالي، كما أن كلمة "يخفى" هي من الخفاء الذي هو عكس الظهور، والأضداد كثيرة، وأُلف فيها مصنفات، وهذا من سعة اللغة العربية.
مثل هؤلاء الذين يدورون على مدارس البنات، وفي الأسواق، وعبر البلوتوث يفتن النساء بأقبح ما يمكن أن يرسل من المشاهد، والصور لعله يصطاد أحداً، فهو يعمل جاهداً في تطلب عورات الناس، فهو إن جلس في بيته فبالهاتف، أو الإنترنت، وإن خرج فهو شيطان يطارد كل سوادة - نسأل الله العافية -.
على كل حال الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.
وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة المائدة:19] قال ابن جرير: معناه إني قادر على عقاب من عصاني، وثواب من أطاعني."
- أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء - باب وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا [سورة مريم:16] (3258) (ج 3 / ص 1270).
- سيأتي تخريجه عند تمامه.
- أخرجه مسلم في كتاب الصلاة - باب حجة من قال البسملة آية من أول كل سورة سوى براءة (400) (ج 1 / ص 300).
- أخرجه مسلم في كتاب الجنة، وصفة نعيمها، وأهلها - باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة، وأهل النار (2865) (ج 4 / ص 2197).